| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الخميس 23/12/ 2010

 

يوميات العراق والمنفى  (1)

الموت والصدفة والضجيج

سلام إبراهيم

قبل شهر عدت من العراق.
عدت من الدفء والتراب والصخب والاحتدام إلى البرد والثلج والصمت.
عدت من صحبة الأصدقاء والجلوس اليومي في مقهى – الراية - وسط مدينتي الكالحة الديوانية، من صخب سوق التجار في النهار حيث أقضي وقتي متنقلا من مقهى إلى مقهى وسط السوق وبين أزقته الضيقة.
عدت من الفوضى والوجوه العراقية المتعبة المغضنة وكأنها سيقان النخيل المتربة اليابسة، لكنها لم تزل حيوية لامعة العيون، تتأمل بالقادم الأحسن، وتخوض في كل الشؤون من الخبز إلى السلطة.
عدت إلى الوحدة وحبيبتي سافرت إلى العراق.
وحيدا مع أبني الأصغر وابنتي المشغولين بشأن حياتهما.
وحيدا وحدة رغم أنها لازمتني منذ وصولي إلى الدنمارك لكنها هذه المرة أشّد وطأة بعد فترات عيشي في العراق التي جاوزت العام بأشهر.
صرت الآن كمن (ضيع المشيتين) حسب المثل العراقي فلا أنا بقادر بعد تجربة العودة والمكوث الطويل بين أحبتي وأبناء جلدتي المحتدمين بالصراع والقول والمندمجين في الحياة اللاهثة هناك حيث كل الاحتمالات واردة. الموت فجأة مثلا.
مات الكثير من المعارف والأصدقاء الذين هم بعمري أو أصغر من هكذا فجأة.
أروي لكم هذا الحادث. في الديوانية طلبت من أصدقائي مرافقتهم في كل نشاط اجتماعي، وأبرز النشاطات التي لاحظتها هي – الموت – والفواتح التي تقام لثلاثة أيام بعد الدفن. كنت في يوم أجلس في قاعة مسجد وجواري زميلي في الدراسة الإعدادية – جودي مطرود – الذي استغربت من عدم رؤيتي له في دائرتي القديمة – زراعة الديوانية – فأخبرني بأنه نقل إلى – مشتل الديوانية – لأنه كشف حالة فساد ورشوة، ولما كان الفساد سمة عامة فقد نُقل هو والموظف المرتشي. أصبح – جودي – حال سقوط النظام الدكتاتوري رئيس لجنة المفصولين السياسيين، ولما كان يساريا فقد هُمش مع سيادة أحزاب الطوائف الشيعية وسيطرتها على مفاصل الحياة الإدارية في دوائر الدولة العراقية الناشئة.
في اليوم التالي بالضبط مات – جودي مطرود – الذي قسماته تتجسد أمامي الآن وأنا أكتب عنه. قامة متوسطة، قوام معتدل لا سمين ولا ضعيف، شعر كساه الشيب تماما، لكن حيوي الحركة بعينين ذكيتين ترصدان المتحدث والمحيط ووجه طري لم تصبه الغضون رغم تجاوزه الخامسة والخمسين.
هكذا يغيب الناس بغتة في العراق.
العراقي يتعايش مع الموت وكأنه ماثل في اللحظة القادمة حتى يكاد يلمسه بأصابعه.
العراقي حيوي منشغل بالتفاصيل، متعلق بالحياة، لكنه يتوقع الغياب المفاجئ.
قلت مرة في حوار عن ثيمة الموت في نصوصي الروائية، فكل الشخصيات المحورية في رواياتي الثلاث التي صدرت يقتلون أو يموتون في آخر صفحة أو سطر. قلت:
(أجد أن ثيمة الموت تعبر بالضبط عن المصير التراجيدي للعراقي وهي قائمة لحد الآن ، فلا يدري أحدا وهو يسير في بغداد أو أي مدينة متى تنفجر قربه سيارة مفخخة أو يفجر انتحاري نفسه) .
لم أقل ما قلته إلا عن تجربة عشتها في الشهر الرابع من هذا العام 2010. فكما ذكرت تأسرني أجواء بغداد رغم كل المخاطر، ففيها يعيش أعز أصدقائي – عبد الحسين داخل – الذي اختفيت في بيته لشهرين عام 1983 حينما تسللت من مناطق الثوار في جبال شمال العراق إلى بغداد، وكنا في صيف عام 1980 قد خطفونا من بار على أبي نؤاس وكدنا أن نعدم لولا صمود – ميثم جواد – الشيوعي المختفي المطلوب الذي أعدم لاحقا، وأروني في زيارتي قبل شهرين إلى كربلاء في مقر الحزب الشيوعي صورته وصوره أثنين من أخواته أعدموا أيضا معلقة في غرفة من غرف المقر، وتحملنا عذاب الضرب والكهرباء فقد كنا وقتها متورطين في علاقاتنا بالشيوعيين المختفين. نجونا. ودارت الدنيا، وعدت إلى العراق بعد الاحتلال. ووجدت صديقي وعائلته يسكنون في شقة من الشقق الرئاسية الواقعة على أبي نؤاس بعد أن أخرجهم المهجر إلى إيران والذين كانوا يسكنون بيته في – حي الصحة – بمنطقة الحرية وهو البيت الذي عشت فيه قصة اختفائي. واظبت على زيارة صديقي. وفي زيارتي قبل الأخيرة إلى العراق. كنت أراجع وزارة الهجرة والمصرف العقاري في بغداد لأجل الحصول على قرض لبناء قطعة الأرض التي اشتريناها لغرض إيجاد نقطة ارتكاز لعودتنا في الشيخوخة. وباعتبارنا مهجرين فلدينا امتياز بتقديم معاملتنا على الآخرين. وهذا يتطلب كتاب من الهجرة والمهجرين إلى مديرية العقاري. هذا ما فعلناه، لكن إشكالية - صحة الصدور – هي ما جعلتني أبكر ذلك الصباح قاصدا – وزارة الهجرة والمهجرين – الكائنة داخل المنطقة الخضراء والقريبة من شارع الصالحية حيث الإذاعة والسفارة الإيرانية والمصرف العقاري.
في الباب الشرقي افترقنا، قال لي حسين:
- أركب فورتات تعبرك الجسر
- لا.... أحب أمشي
كان هو أيضا يراجع وزارة أخرى تقع في جانب الرصافة. عبرت الجسر ودلفت من فرع جانبي إلى وزارة الهجرة والمهجرين، ولما كانت مراجعتي للتأكد من وصول كتاب من المصرف العقاري حول صحة الصدور. أشاروا لي بمكتب الوزير، ويبدو أنني كنت محظوظا، إذ أن كاتب الذاتية لم يكن موجودا، قالوا أنه سيأتي بعد ساعة، فرحت أجوب الشارع العريض دون أن أفكر بشيء، إلى أن استوقفني صوت انفجار بعيد أعقبه بعد دقائق انفجار ثاني. لا اخفي عليكم ارتجفت أوصالي وأنا أشاهد الحركة غير الطبيعية للموظفين الذين ماج الخوف بوجوههم، لكنهم كعادة العراقيين لم يختفوا بل كان بودهم رؤية مكان الانفجاريين، وسمعتهم يخمنون الأمكنة وفي عيونهم الخائفة لذة شريرة، شعور بالمتعة يبرق في العيون.
هل تنتابني مثل هذا الشعور؟!.
لا أدري لكن فضول رؤية ما يحدث بعد الانفجار تشعلني. في هذه الأثناء رجع مسئول الذاتية وقلب دفتر الواردة فلم يجد كتاب – المصرف العقاري – سألته النصيحة، فنصحني بمراجعة المصرف العقاري والاستفهام.
كان الشمس ساطعة. والوقت منتصف الظهيرة بالضبط. سلكت الطريق المؤدي إلى خارج الوزارة. لابد من المرور بكابينة السيطرة حيث تستعيد هويتك وجهاز التلفون النقال. صرت في شارع عريض داخل المنطقة الخضراء، ومن زقاق جانبي ضيق تلقفت الشارع العام المتصل بجسر الجمهورية العابر صوب باب الشرقي. كان الشارع مكتظا بالجنود والشرطة ألمستنفره إلى أقصى الحدود. عبرت الشارع العريض صوب الجهة المقابلة واستدرت يمينا قاصدا الشارع العريض المتفرع يسارا والمؤدي إلى شارع الإذاعة والسفارة الإيرانية والمصرف العقاري. وفيما كنت أقترب من حافته دوى في السماء هدير مروحيات تطلق شررا. لم يدم الأمر سوى دقائق. كنت على وشك ولوج شارع الصالحية حينما دوى انفجار هزّ المكان وأسقطني أرضا. فوجدتني أعتنق ُ حديد سياج الشارع متشنجا مرعوبا. تمالكت نفسي بعناء وعدت إلى دهليز المنطقة الخضراء. مكثت ربع ساعة إلى أن هدأت الأوضاع، فتسللت إلى الشارع عازما على رؤية المكان الذي كان من المفترض أن أكون فيه وقت الانفجار. كنت كأي عراقي فضولي لا يدرك تبعات الأمور، فأنا أصلا أعيش بثلث رئة تقريبا لإصابتي بقصف كيماوي قبل أكثر من 23 عاما حينما كنت مع الثوار في الجبل. وبدلا من الابتعاد عن المكان المليء بالبارود والغازات الخانقة وجدتني أسرع نحو مكان الانفجار. الطرق والجسور قطعت كلها. اقتربت. دمار فظيع، رؤوس وأشلاء أجساد متناثرة على مساحة كبيرة جدا. قبل شهرين فقط أوقفت – كريمة - وهي صديقة لزوجتي سيارة فورد في عرض الشارع لتسلم عليّ ولتعلمني بوجودها في العراق. في نفس المكان كانت سيارة فورد محترقة تماما ولا أدري ماذا حل بركابها، كنا قبل شهرين نعبر أنا وزوجتي الشارع وندخل بناية المصرف العقاري من خلال كابينة خشبية تفتش الداخلين. وقتها وناهده لها ملكة بناء علاقات نسجت في حوار خاطف مع المفتشة علاقة، يا إلهي كابينة المدخل طارت تماما واختفت. ماذا لو كان توقيت هذا الانفجار وقت تواجدي مع رفيقة عمري؟.. ماذا لو أن موظف قلم مكتب وزير الهجرة لم يغب تلك الساعات.. ألم أكن أنا جوار المصرف لحظة الانفجار. رأيت أجسادا مقطعة.. مهروسة، أصابع. أفخاذ.. أكف.. رؤوس محروقة مقطوعة.. يا إلهي أي جحيم جعلت هذه الذوات البريئة تذوقها.. يا إلهي هل لك حكمة فيما يجري؟!. كنت مكتظا بالحيرة والسؤال فيما كنت أتأمل الوجوه العراقية المتحمسة شبابا وشيبا المستنكرة لفعل التفجير والتي لا حول لها ولا قوة.
خفت فضولي وتجسدت لدي فاجعة التفجير التي كنت أراها في التلفاز فقط. أدركت أن الأمر يحدث هكذا بغتة، ويجري اليوم مجراه، فمن مات مات ومن تعوق تعوق ولا شيء في الواقع مما كنت أظن.. ففعل التفجير فعلا هامشيا جدا في تفاصيل اليوم العراقي المضني والمنهمك بالحياة. فيما كنت أغادر مكان المذبحة لاحظت شابا يرتدي ثوبا ممزقاً ويحاول فتح سيارة تيوته دبل قماره. كان كالسائر في نومه. استوقفته وسألته:
- أشبيك؟
- ما أدري خوية.. البارحة كنت بالواجب.. ونمت بسيارتي.. لكن فجأة لقيت نفسي مشمور على الرصيف الثاني. تلمست جسمي كل شي ما بية فرجعت أشوف سيارتي!.
التفت خلفي قبل أن أستدير لأعبر جسر – الجمهورية – متأملا البقعة التي كان من الممكن أن أغادر هذا العالم منها والفرق دقائق وصدفة ليس إلا.
لست وحدي بل كان من الممكن أن نغادر أنا ومحبوبتي هذا العالم من هذا المكان!.
التقيت بصديقي حسين. وجدته شديد القلق فقد سمع بمكان الانفجار وهو في الباب الشرقي وخاف عليّ. سردت له ما سردته الآن، فقال:
- سلام عجيب. عشت في بغداد كل سنوات الاضطراب لكن لم أكن مرة واحدة قريب من الموت قربك هذا اليوم!.
لم أكن في نيتي الذهاب إلى الصدفة والموت والعراق. كان في نيتي الكتابة عن الثلج وتجربة قراءتي لشياطين دستوفسكي كما وعدت صديقي الروائي – احمد السعداوي – الذي ألح علي كتابة تجربة القراءة بعد حوار بالشات. لكنني وجدت نفسي أذهب إلي مناح غير أدبية، أقصد مناح حياتية حارة قد تبدو ثقيلة على القارئ، لكنها سردتها كما حدثت، كما هي.. وأجلت روي تجربة القراءة إلى فسحة أخرى.
الموت هذا الحائم مثل صقر شرس في سماء العراق..
الموت صار مألوفا، مكروها، لكن لا خلاص من طيفه الخاطر في أحلام اليقظة والهاجس والنوم، في تفاصيل اليوم.
رغم كل ذلك أتوق الآن للصخب وخاطر الموت والفوضى التي هي أرحم من هذا الصمت الثقيل.
عدت إلى الصمت!.
المشكلة الجوهرية أن هذا المكان لم يعد مكانا مهما يحرض على الكتابة
ثمة مكان جديد هو العراق
مدينتي
بشر عاشرتهم وحلمت بهم وعدت إليهم
بشر شابوا
فتيان وجدتهم قريبين لنفسي
لا أهاب الموت
قد يأتيك بغتة وأنت في أسعد لحظاتك
عدت إلى الصمت.. الموت المجازي
إلى...
لولا الكتابة
في هذا المنفى البارد لضعت، لجننت.
أبوس تراب الديوانية، أبوابها، أسواقها، بشرها
طوبى للعراق
طوبي للصعاليك
طوبى للضجيج
أنا المسكين
المتسول صخب فوضاكم
الضائع في لجة الثلج والوحدة
أنا البائس دون الديوانية والتراب والضجيج
آمين
رب الطين والعالمين



 

free web counter

 

أرشيف المقالات