| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

 

السبت 23/2/ 2008

 

شهادة متأخرة "مفرزة الطريق " قراءة مغايرة

زيدان خلف محسن ( أبو خلود)
zaidanm@hotmail.com


الرقصة والدبكة قبل توجه المفرزة باتجاه الوطنمن اليمين الشهيد أبو جهاد، النصير كاوه، النصير أبو عزيز، النصيرجورج،الشهيد ناهل، النصير أبو خلود، النصير أبو العز، الشهيد أبو إيمان، النصير أبو عليوي

            

منذ ما يقرب من الربع قرن وحادث استشهاد عددا من رفاقها يعاد كل عام , رغم قافلة الشهداء الطويلة ,وكأنها عاشوراء الطريق .
منذ ربع قرن وأنا تردد بالكتابة عنها كشاهد , كتب عنها الرفيق أبو وسن , وتناولها آخرون شفاها لاسيما عبر غرفة المحادثة الصوتية ( ينابيع العراق ) غرفة الأنصار الشيوعيين وأصدقاءهم , وأخر ما كتب عنها هو الرفيق حاكم عطية, عن المفرزة بشكل عام وعن الشهيد( أبي سحر) بشكل خاص .
لكن ما دفعني للكتابة بعد كل هذه الفترة من الصمت , هو تصفحي لبعض من صور المفرزة أثناء نقلها للكومبيوتر لغرض أرشفتها . هنا أحسست بالعيون ( عيون أصحاب الصور) تطالعني, تعاتبني وتطالبني بوقفة وفاء لأكتب وأقدم شهادتي, حتى وان تأخرت كل هذه السنين. كنت قد عزمت على الكتابة في شهر آذار القادم , ولكن ما سرع بكتابتي أو بالأصح ما أستفز ذاكرتي وترددي (رغم الحمى التي أنا فيها منذ ثلاثة أيام) رغم أن هذا ليس تبريراً وسيعتب علي البعض من الأعزاء , هو الرسالة إلى الشهيد الحلو (أبو ظفر) التي نشرها العزيز فالح حسون الدراجي على موقع الطريق بمناسبة يوم الشهيد الشيوعي .
هذا اليوم وهذه المناسبة(يوم الشهيد) التي امتنعت منذ سنين عن المشاركة المباشرة بها لأنها أصبحت بالنسبة لي شخصيا , وهذا موقفي الذي ربما يكون خاطئا ,ومنذ حوالي الستين عاما أشبه بعاشوراء الحسين وصلب المسيح مع فارق أنها تتماها مع استشهاد القاسم وزفته, بطقوسية الشموع واليأس ولكنها تقترب أحيانا من تراجيديا (الطبك) حين نمر على قوافل الشهداء وصورهم.
ولأني ومنذ فترة أيضا ,أصبحت احتفل بعيد الحب والحياة وأقدم الزهور والشوكولاتة (هسة أنت من الثورة اشجابك على فالنتين ) رغم أن القديس (فالنتين) هو الآخر شهيدا. ومع انحنائي إجلالا للشهداء وبطولاتهم , فاني أتطلع كذلك أن احتفي بالإحياء الأبطال الذين يستحقون منا وقفة أمام بطولاتهم ومواقفهم ومعاناتهم التي لا تقل روعة وصمودا عن الشهداء أنفسهم .

ولكن فالح حسون الدراجي ( حفظ الله قلمه ) الذي لا يكل عن الكتابة عربون وفاء حتى للذين لا يعرفهم, أثارني في رسالته حين يكتب "..... خاصة وان النصير الوحيد الناجي من مقاتلي (مفرزة الطريق) ..... لم يفد بشيء يخدم التحقيق ولا حتى بمعلومة واحدة ........ مجمل الذي ذكره المقاتل يشير إلى عناصر المفرزة السبعة بما فيهم أنت (أبو ظفر) قد استشهدوا هناك ..... عدا ذلك لم يقل شيئا يمكن الاستفادة منه على مصير المفرزة ..... مما أدى ان يفتح الباب الواسع على مصراعيه أمام الأعداء والأصدقاء ليدلون كل بدلوه ......"
مع اعتزازي بالكاتب فالح حسون الدراجي, الذي لاأعرفه شخصيا , ولكني أتذكره حين كان لاعبا مع فريق السكك الأول ( الزوراء ) لاحقا, وأنا أتدرب مع الناشئين تحت إشراف أنور جسام وجرجيس, وهو و أخي محمد ( أصحاب كار) بالرياضة والصحافة, وكذلك انتماءنا إلى مدينة واحدة, لكنه لم يطلع على كتابات وشهادات ومواقع أخرى أرخت ووثقت لهذا الحدث , واكتفى بشهادة الأعزاء أبو نهران وأبو نادية وأبو شروق, الذين كتبوا عن الحدث نقلاً عن اخرين , مع اعتزازي وتقديري الكبيرين لهم جميعا .
فها أني أدلو بدلوي كصديق, وليسمح لي ( أبو حسون ) أن تكون مساهمتي هذه, استكمالاً, وإضافة وتصويباً لما بدأه مشكورا, غير مكتفيا بالكتابة عن الشهداء الستة, ولكني سأتابع حياة أبطالها الأحياء ومصائرهم وعهدا بأني سأكتب عن مآثر مفرزة الطريق العديدة والتي من الحيف أن تختزل فقط بليلة العبور في أيلول قبل ما يقرب من ربع القرن.

في رواية ( الصخب والعنف) للكاتب الأمريكي وليام فولكنر, ورواية ( اللجنة) للكاتب المصري صنع الله إبراهيم تعاد الأحداث وتسرد على السنة شخوص الرواية إلى حد التكرار والتقاطع والتداخل الذي يوصلنا بالنهاية إلى اكتمال صورة الرواية من كافة جوانبها, الكل يساهم في نقل الحدث العام, ولكن كل من دوره وموقعه ووجهة نظره. هذا ما بدأه العزيز أبو وسن وتبعه آخرون , وهاأنا انقل شهادتي عن ليلة العبور, من زاويتي ووجهة نظري الخاصة معتمداً على ذاكرة حسبي بها فتية ونشيطة, وعذرا ان يشطح بي الخيال تذكراً لكي أعطي بعض الشخوص بعدها الآخر وسأتعامل معهم أحياء ,لذا ستغيب من مساهمتي هذه كلمة ( الشهيد)

سأبدأ حديثي عن الحلو (أبو ظفر)...... أنها المفارقة وحدها وربما تراجيديا الصدفة أن تجمعني معه مناسبتينقاسمهما المشترك العبور, دجلة ,أبو هديل.... إإإ
في المرة الأولى التقيت أبي ظفر عام 1983 في نفس المفرزة , ولكنها كانت متجهة من كردستان إلى سوريا مع عدد كبير من الرفيقات والرفاق, قسمت إلى مجموعتين , واحدة كان مسؤولا عنها (ابن مدينتي) الوسيم جدا أبو العز والأخرى كنت أنا مسؤولها, وآمر المفرزة كلها كان ( ابن مدينتي ) هو الآخر أبو هديل
في تلك الليلة ونحن ننتظر الدليل التركي الذي ذهب مع عدد من الرفاق لإحضار معدات (الكلك) من الأعمدة والإطارات الداخلية للتراكتورات( الجوابة ) واعداَ انه سيعود بعد نصف ساعة , امتدت لأكثر من ساعتين ( وعد دليل تركي ). اخذ الانتظار من رفيقاتنا ورفاقنا ولاسيما كبار السن, وامتصت الأرض الندية حرارة أجسامهم ولخوفنا عليهم , اقترح أبو العز أن نبعث الدفء في هذه الأجسام مرحاً وقتلاً لوقت الانتظار قريبا من قضاء سلوبيا التركي ,طلبنا من الجميع شيبا وشبانا , أن يتشابكوا بالأيدي لكي نبدأ( الردح), ولأننا أبو العز وأنا مستهترين بوجه الموت ولنا أفعالا تصل إلى حد السفاهة في بعض الأحيان , لم يحضرنا من أغاني ( الردح) إلا ما ترسب في الذاكرة من أغاني ( صبيح الأسود ) " كل ليلة يجي سكران ’ ويكسر الفرفوري " او " ..........لو بعده ......... مسطاحة "
كان البعض قد شارك وبعضاً كان متردداً وبعضاً كان مستهجناً , هنا اتضحت لي خفة دم ومرح ابو ظفر, رغم مظهر الجدية ولقب الدكتور فأنه انظم ألينا وفي الوسط ( رادحا ) مردداً بعض الهوسات بهمهمة تبتلع نصف المقطع لفحشها إإإ
"حيل حيل .......عليّ.......موش أجنبية " لافضا الجيم كما تلفظ في الفرات الأوسط . أو "...... نربط خيلنا ......... أم العريس "
هذا الموقف ساعد الكثيرين من الرفاق كبار السن , على المشاركة ورفع المعنويات .
عبرنا النهر بواسطة (كلكين ) لم تتسع للجميع إلى اقرب القرى الكردية السورية, ولكن النصف الآخر من المفرزة بقيادة أبو هديل, لم يستطع العبور, فقد فاجأتهم دورية تركية مما اضطرهم للاختباء داخل أحراش الخنازير البرية وبعدها الانسحاب إلى موقع أبو هدى وأبو خوله خلف الجبل في داخل العمق التركي. رفض أبو ظفر رفضاً قاطعاً أن يبقى مع الذين عبروا حول موقد النار في البيت السوري واكتفى مثلنا بقدح شاي ورغيف خبز, حيث عدنا إلى ضفة دجلة من الجانب السوري هو و أكرم التركي وأنا, نراقب الضفة الأخرى بناظور وسلاحنا الوحيد نحن الثلاثة , كان مسدس مخفي تحت (بشتيني) توجهنا بعدها إلى المالكية بعد أن تأكدنا صباحاً أن ( كل شيء هادئ على الجبهة التركية).

ذهب أبو ظفر إلى عائلته في اليمن وبقيت المفرزة في القامشلي .
بعد فترة من هذا التاريخ , عاد أبو ظفر, متوجها صوب الوطن, وقد جاء إلى بيت المفرزة في الحي الغربي, وهذا امتيازا بحد ذاته, لأنه عادة ما يقيم الرفاق المتوجهون إلى كردستان في بيوت حزبية أخرى, دخل أبو ظفر إلى قلوبنا تعامل معنا وعاملناه كأنه من المفرزة.
سمعنا منه حكايات عن ( سمرة بت عبد صخي), حدثني عن دراسة وبحث ميداني عن البغاء كان جاداً في كتابته, كاد أن يدخله السجن. ثارتنا خفة دمه وتعليقاته عن بعض الأفلام التي كنا نتابعها سوية في الفيديو الذي سمح أبو سحر لأبي إيمان أن يستعيره من صديقنا العزيز (كابي)


في القامشلي قبل توجه المفرزة باتجاه الوطن
من اليمين وقوفاً الشهيد ناهل ، النصير أبو عليوي، الشهيد أبو إيمان
من اليمين جلوساً النصير أبو عزيز، النصير أبو شهاب، النصير أبو أفكار

أول عمل قام به أبو ظفر حين وصوله إلى بيت المفرزة, هو دورة تدريبية لزرق الإبر والإسعافات الأولية . وكانت (مؤخرة ) أبو عليوي أو أبو شهاب ,على ما أتذكر هي وسيلة الإيضاح حيث قسمها أبو ظفر بالطبشور إلى أربعة أجزاء, معلما إيانا أن نزرق في الجهة اليسرى العليا من الفخذ, وكان هو أول المتبرعين في أن نزرق عضلته بالماء المقطر, عرفنا أن أبو ظفر سيعبر معنا .

كانت المفرزة بمزاج رائق ولطيف, طيلة الأسبوع الذي سبق ليلة العبور, وكان كرم أبو سحر,وهو الإداري الحريص إلى حد البخل, (حاتمياً) حين سمح وللمرة الأولى أن نشتري فناجين قهوة زاهية الألوان مع نصف كيلو مخلوط بالهيل تولينا أبو عزيز وأنا عملها في ( الركوة) .
لم يكف مستشارنا السياسي أبو شهاب عن تحضير وتقديم الشاي, وبعدها تكسير الأقداح حين يكون منتشيا في ساعات الليل المتأخرة متعثراً (ببايسكل) حيدر الذي يركنه على حائط المطبخ, ربما عن قصد خبيث .الغائب الاكبر عن كل هذا كان أبو هديل, حيث كان يتابع ويناقش مع مسؤولي القامشلي كافة التحضيرات, وأبو جهاد الذي كان منشغلا بتعميق أواصر العلاقات الاجتماعية .
بعد غداء دسم , كان سمكا وكبابا, على ما أتذكر, توجهت المفرزة بسيارات ( الجي ام سي ) إلى الحدود, وتركنا البيت في عهدة جورج وأبو العز الذي تخلف عنا بسبب مغص كلوي حاد, ودعناهم بغناء ورقص, كما الذاهب إلى نزهة أو زفة , وليس الى مواجهة الموت والسلام عليه .

مع الغسق , بدأت المفرزة بالتحرك حاملة حقائبها التي فصلت على مقاس الأجساد بأيدي الرفيق الماهر والصبور (أبو نادية قامشلي) حمولتنا هذه المرة كانت تختلف عن المرات السابقة , فها نحن ندخل سلاح متطور بعد أن أدخلنا صواريخ (الستريلا ) من قبل .
حمولتنا كانت مدفع ( بي 10 متطور), وقد فككت أجزاؤه لكي يسهل حملها مع قذائفه العشرة,أجهزة اتصال لاسلكي متطورة ,قاعدة رشاش ( 14.5 ) مضاد للطيران , كنا قد نقلنا أجزاء منه في المرة السابقة ‘كانت هذه القاعدة من حصتنا أبو إيمان وأنا, بريد حزبي وكمية من النقود إضافة إلى الإطارات الداخلية للتراكتورات, غذاء لمدة ثلاث أيام , كتاب في كل حقيبة (هذا ما دأبت المفرزة عليه في رفد مكتبات الأنصار) والحاجات الخاصة لكل رفيق .
تحركنا وقد انظم إلينا رفاق من بيشمركة الحزب الاشتراكي الكردستاني كان عددهم سبعة او ثمانية على ما أتذكر .
مع دخولنا الأراضي العراقية ، وزع علينا آمر المفرزة أبو هديل (سر الليل) وكان (كارة) أو (متين), لأني وحسب معرفتي الطويلة بأبي هديل , فانه لا يوزع غير هذين الاسمين .
عبرنا شارع الحدود, ثم شارع المجمعات الترابي, اقتربنا من شارع النفط , الذي يخفى تحته أنبوب النفط المتجه إلى بانياس والذي يكتظ بالربايا على جانبيه والحركة الدائبة للمدرعات فوقه . لم تكن هناك أية كمائن على جانبي الطريق .اجتزنا الشارع وبدأنا النزول عبر وادي ضيق إلى نهر دجلة.

كان في مقدمة المفرزة (أبو عدنان) و(أبو سليمان) وهم أدلاء أكراد من القرى السورية, وخلفهم مباشرة أبو هديل, الذي طلب أن يكون أبو جهاد ، وأبو خلود كمقدمة, أما نهاية المفرزة أو ما نسميه (القفل) فقد كان ابو وسن وابو شهاب. مع اقترابنا للنهر, أنزلنا بنادقنا من أكتافنا وحررننا زناد الأمان .
انحرفنا يساراً حين رأينا بعض الإشارات الضوئية تصدر من البطاريات اليدوية, وسماعنا لحركة غير اعتيادية على يمين النهر, ولكنا(للأسف) لم نهتم لها كثيراً وتصورناها اضوية الرعاة .
على الجرف الرملي لنهر دجلة, وضعنا حمولتنا وأخرجنا الإطارات الداخلية للتراكتورات (الجوابة) وبدأنا النفخ بأفواهنا بادئ الأمر ثم نجعلها قوية بواسطة( البمب) اليدوي .
هيئنا (الكلك) البدائي بعد أن ربطنا الإطارات إلى بعضها البعض بحبال قطنية ورفعناه كالنعش (كأننا نحمل نعشنا ) على الرؤوس إلى صفحة الماء الدافئ. حينها تحركت الأحراش القريبة من على تله تشرف على موقعنا ولا تبعد غير أمتار قليلة .
تحرك باتجاهها أبو هديل, ساحباً أقسامه وقد أحس بالكمين, ولكنه بدلاً من أن يقرر عدم العبور ويطالب المفرزة بالانتشار, أعطى إيعازا بأن نسرع إلى الماء. لأنه كان يعتقد دائماً أن أفضل وسيلة للتخلص من الكمائن هي في الدخول إلى الماء ، وهذا ما خبرته وعرفته منه عن قرب حيث عبرت معه هذا النهر ذهاباً وإيابا ومن أماكن مختلفة أكثر من خمسة مرات. ( اعرف أن ما أقوله وأثبته هنا , لم يسبق لأحد أن كتبه, رغم انه قيل شفاها من البعض, وربما يخدش صورة البطولة ودراما الحدث, و هذا لا يعني أني احمل مسؤولية ما حدث لاحقاً في هذه الليلة أحدا بعينه, ولكن الحقيقة وتقييم ما جرى تضعني أمام مسؤوليتي التاريخية, وها قد مضى ما يقرب من الربع قرن) .
كان كمين هذه المرة مختلفاً ( بعد أن جاءتنا الأخبار لاحقا بعد الحادث ) لم يكن كميناَ لجنود الربايا المحيطة, ولكنه كان كميناً كبيرا للقوات الخاصة والجحوش، كمينا متمرساً وذو خبرة ( مما يفتح الباب لاحتمالات الإخبارية المبكرة وإفشاء السر لعبور المفرزة ), كميناً لم يفقد أعصابه ونحن على مرمى البصر ولمدة أكثر من ساعة مشغولين بتحضير (الكلك) وكانت لهم حساباتهم أيضا , بأن اضعف نقطة هي الصعود على ( الكلك) في المنطقة الضحلة وليس العميقة, حيث نتكدس جميعا فوق بعض نحن واسلحتنا, مما يقيد حركتنا . كانت المهمة واضحة, أبو سليمان,أبو جهاد وأبو إيمان للتجديف في مقدمة (الكلك) ، وأبو أفكار وأبو خلود عراة تماما غاطسين في الماء, ليشكلوا دفة حتى لا ينحدر( الكلك) بعيدا بسبب قوة التيار في وسط النهر, فالمجال المسموح به ليس أكثر من خمسين متر , والا انتهينا في منطقة الربايا .
لم نكن قد تحركنا أمتارا وإذا بوابل الرصاص ينهال علينا من مختلف الأسلحة بكثافة لم يسبق لنا أن تعرضنا لها , حتى من قساة الجندرمة التركية .
كان كميناً قاسياً ولئيماً ينفتح عرضا لعدد من الأمتار. ألح أبو هديل ,وكنا لازلنا واقفين على أرجلنا ,أبو هديل وأبو أفكار وأنا على التجذيف إلى وسط النهر بعيداً عن النيران ولكن( الكلك) كان قد ارتد وفقد توازنه, حيث كانت النيران الجبانة قد أصابت المجذفين دفعة واحدة .
حينها سمعت أبو سحر يصيح بالراء التي يلثغ بها و وكان حاملاً قاذفة ( الار بي جي 7) :
- رفاق راح أضرب, انبطحوا.إإإ
- لا تضرب من (الكلك) , الهبة الخلفية تحرقنا , أمره أبو هديل .
ولكن أبو سحر لم يمتثل للأمر, وجه قاذفته صوب الكمين , بادرهم بقذيفة أسكتت الكمين للحظات . توالت بعدها ثلاث صليات واحدة من بندقية أبو هديل وأخرى من بندقية الدليل أبوعدنان والثالثة من بندقيتي , التي كانت مع أبو ظفر وهو على (الكلك) .
سحبنا (الكلك) إلى الجهة التي انطلقنا منها, ولكن بعيدا عن الكمين,استطاع عدد من الرفاق( عرفت فيما بعد أنهم كانوا أبو عدنان,أبو وسن, كاوة , أبو عزيز ,أبو عليوي ) النزول من (الكلك ) والصعود إلى الجرف بحركة دائرية لقطع الطريق على بعض افراد الكمين الذين تركوا أماكنهم ونزلوا باتجاه النهر .
أما نحن البقية فقد وصلنا إلى الجرف الرملي وكان حاداً وبارتفاع أكثر من مترين, كان أملساً ومن الصعب تسلقه, وكنا جنب إلى جنب أبو هديل ورفيق من الاشتراكي الكردستاني وأنا, حين ظهر فوقنا بعض من أفراد الكمين لا اتذكر عددهم, بمسافة قريبة للحد الذي ممكن ان نميز ملامحهم وسمعتهم ينادونا :
- يله تعالوا منا , تعالوا سلموا أنفسكم .إإإإإإ
أجابهم أبو هديل
- أفه , إحنا نسلم , عليهم رفاق , عليهم هالكو...... .أخوات .......... . وبدأ بالهلاهل
كان موقفاً يحضرني لحد الآن ولا يمكن أن أنساه ما حييت, رفع بندقيته صوبهم من الأسفل إلى الأعلى, وبزغاريد وهلاهل امتزجت (بصليات الكلاشنكوف), كأنها هلاهل أمهات في يوم زفة أبنائهن, سانداً صدره على رمل الجرف, افرغ (شاجوره), لعلع الرصاص ولكنه فجأة انكفئ ساحباً جسده العملاق من أعلى الجرف إلى حافة النهر, بعد أن عاجلته صليه طولية من رأسه إلى قدميه . وسقطت جثة الرفيق الآخر من الاشتراكي, ونجيت أنا, لا أعرف كيف ربما لم يختارني الموت حينها ليمنحني الشهادة .
فجأة, هدأ كل شيء ولم يبقى إلا (بروجكترات) الربايا تمشط النهر والجرف, مارة على أجساد الضحايا , دون أن تمييز ملامحهم.
التفت حولي وبدأت أتفحص المكان, كان هنالك ناهلاً غاطساً في النهر, ساعدته إلى الجرف . رأيت حيدر وقد احتضن أبو سحر, الذي أفقدته إصابته توازنه .
انتبهت حينها, أنني كنت حافياً وعارياً من كل شيء إلا من (جمداني) أو غترة تلف رأسي . كان على الجرف جثتان ممدتان وعلى (الكلك) جث ثالثة غاطسة إلى حد النصف في داخل احد الإطارات, ونصف حمولتنا ملقية كمتاع متروك من سفينة غرق ربانها .
تفحصت الجثة الأولى , انتابتني قشعريرة وشعور بالحزن والخسارة, حين عرفت أنها جثة أمر المفرزة ابي هديل, من حقيبته الصغيرة التي يحملها على قلبه, وقد اكتظت بالبريد الحزبي وبعض المالية التي ننقلها للحزب وبعضاً من رسائل الى رفيقات و رفاق الداخل من حبيبات وأحبة اعرفها جيداً تلك الحقيبة العسكرية الخاكية اللون, كان يتخفف ويتحرر من كل شيء, إلا هذه الحقيبة التي ترفقه دائماً.
طلبت من ( ابن مدينتي) الذي أشبعنا من صمون ابيه (الحاج مشيجل) وفرنه الشهير قرب جامع سيد حسين,انه حيدر الذي اعرفه من ايام الصبا لكي يساعدني على نزع بدلة وشروال أبي هديل , فرفض بإصرار, ولكني كنت قاسيا معه وتطلب الأمر جهداً في أن أقنعه انه استشهد, وأنا عاري ولازالت المعركة لم تنتهي, وأننا سندفعه الى النهر ليكون قبره بدلاً من ان يسقط جسده بأيدي الأعداء.
أخذت بدلة أبو هديل وشرواله, نزعت عنه الحقيبة الصغيرة بهدوء حيث كان مصاباً في رأسه , اخذت (الرخت) و(الشواجير) وبندقيته ومسدسه (المكاروف) اعرفه هو الآخر كما أعرف حقيبته . بقي عارياً إلا من ساعة في معصمه (أردت أن أخذها كتذكار من صديق التقيت به أول مرة في الحبيبية عند بيت قريبه جارنا المقاول أبو نمير ومن ثم في مدينة الثورة في عام 1978, ولكني أحسست أن هذا ليس من حقي, لأنها ملكه الخاص, في حين البدلة والسلاح والحقيبة فهي ملك للحزب ) بهدوء دفعناه إلى النهر ليتطهر ويغتسل بماء دجلة القاسي وهو بلا كفن .
دفعنا الجثة الأخرى, وكانت لرفيق من الحزب الاشتراكي الكردستاني لا أذكر اسمه .
على (الكلك) كان رفيقا جالساً بهدوء وصمت, وقد سقط رأسه على صدره, غاطساً إلى النصف في إطار التراكتور وسط الماء, ماسكاً بحقيبته.
رفعت رأسه لأعرف من هو, لجمتني الدهشة........ كان هو (الحلو) ابو ظفر إإإإإ
أني متأكد من هذا وبشكل قاطع ( هاهي تراجيديا المفارقة, انه نفس النهر الذي عبرناه سوية في العام الفائت بعد( ردحاً) أدفأنا وأنسانا قلق الانتظار, وهي نفس المفرزة وهو نفس الآمر صديقنا ورفيقنا المشترك أبو هديل.
إيه (يا دجلة الخير) كم قاسيا أنت . دفعناه هو الآخر برفق للنهر وحررنا (الكلك) بحمولته , حتى لا يبقى على الجرف .
تأخر بنا الوقت, والساعة قاربت الواحدة او الثانية صباحاً حين ظهر (ابن مدينتي) أبو عليوي (ها أبو حسون , شلون مدينة هاي ؟؟؟ مو حيف ما بيهة ولا صورة لفهد), ليخبرني أن الرفاق ولاسيما الدليل, قرروا الانسحاب والتحرك ولم يبقى لنا من الوقت كثيراً وعليك ان تقرر انت إإإإ
ماذا سنعمل مع الرفاق ناهل وأبو سحر(بالمناسبة كان أبو عليوي مسؤولي الحزبي في خليتنا, وهو الذي أصر أن أتقدم إلى عضوية اللجنة في المفرزة بأسرع وقت) وهو الآن وبهدوء يترك لي القرار في تقرير مصير رفيقين جريحين .
تكلمت مع ناهل, وكان هادئ ً ورابط الجأش بشكل يبعث على الدهشة والإعجاب , طلبت منه القيام واني سأساعده في التوكأ على كتفي لكنه اخبرني , بأنه مصاب في ظهره وربما العمود الفقري , ولا يستطيع المشي . كان ناهلا ضخماً ووزنه يتجاوز الثمانين , أما أنا فكان وزني حينها حوالي أربع و ستين كيلو غراما . تكلم ناهل بطريقته السريعة المعروفة في الحكي :
- رفيق أبو خلود , اسأل الرفاق أذا يكدرون يتساعدون على حملي ؟؟
أجبته أننا لازال أمامنا معركتين على الأقل والطريق إلى الحدود طويل, بهدوء طلب مني أن أعطيه مسدسي (مسدس ابي هديل) حينها عرفت ماذا كان قراره حين يقترب العدو . وكانت آخر جملة اسمعها منه
- بلغ تحياتي للرفاق ...... ودعته بشعور القهر والحزن .
سألت حيدر عن رأيه, فأجاب وبإصرار انه سيحمل أبي سحر وسوف لن يتركه (تربط حيدر و أبو سحر النحيف جداً, صداقة قوية منذ اليوم الأول الذي التحق به حيدر إلى المفرزة , حيث استمر الاثنان كإداريي المفرزة . تجمعهم صفات مشتركة ومتشابهة عديدة أبرزها , الطيبة , القلب الكبير , سياسة الآذن الطرشة لمتطلبات الرفاق , الحرص والتقتير في المواد إلى حد يصل البخل أحيانا وأخرها طبيعة النسيان أو ما نسميها نحن الأنصار (الدهن ) ومنه الاسم المشتق (الداهن).
كان جرح أبي سحر كبيراً وغائراً في الصدر قريباً من جهة القلب.
وكان (شخيب) الدم واضحا رغم الظلام وقد غطى قميص نجاته الأصفر المثقوب الذي كان يرتديه (للمفارقة الكثير من رفاق مفرزة الطريق كان لا يعرف السباحة رغم عبورنا النهر المتكرر, لذلك كان البعض منهم يرتدي سترات النجاة التي كنا نسرقها او نصادرها من تحت مقاعد طائرات الخطوط الجوية) .
كان تقديري أن أبو سحر سينزف دمه كله قبل أن نصل.
كان متشبثاً بالحياة ويطالبنا أن لا نتركه.
في مواقف كهذه, والتفكير بأن معركتين على الأقل تنتظرنا, كمائن ومدرعات ستقطع علينا شارع النفط وشارع المجمعات, السماء وقد استحالت نهارا بفعل طلقات التنوير والبروجكترات , ما العمل حين يكون الجلد والتفكير بحس عسكري, حينها تتراجع العاطفة وتنزوي ..كان موقفاً لم يتقبله حيدر.
ما أصعب أن تترك رفيقاً، صديقا ً، إنسانا ً تعرفه ويعرفك, تقاسم معك الفراش والخبز والملح ولكن ما أقسى القلب حين يسمع صوت العقل.......
لملمت المفرزة نفسها بقيادة الدليل ابو عدنان، وابو وسن, وصعدنا الوادي باتجاه شارع النفط . لدهشتنا لم يكن أحدا على هذا الشارع, لا كمائن ولا مدرعات حتى أن (كاوه) قد عثر بالسلك الممدود في محاذاة الشارع ووقع مع بندقيته التي قدحت شرارتها على أسفلت الشارع ولا من رد أو أي فعل .
عبرنا الشارع سالكين نفس الطريق الذي كنا قد مشيناه قبل ساعات وبعده عبرنا شارع المجمعات.

مع اقترابنا الحدود السورية مع خيوط الفجر, كانت أول استراحة لنا وأول مرة نتكلم حينها أحسسنا بالفاجعة .
مفرزة تحركت صوب الوطن تحمل سلاحها, عتادها, بريدها, أحلامها وشوقها للقاء, عادت منكسرة تحمل سلاحها الشخصي فقط وغصة في الحلق وفي القلب, بعد أن أودعت كل هذا وأجساد أحد عشر نصيراً بطلا .
عدنا إلى بيتنا في الحي الغربي, كانت المفاجأة على وجه أبي العز حين رأى (شروالي ) ملطخاً بالدم وكان يتصور أني كنت جريحاُ لكن الفاجعة جعلته يبكي كطفل ثكلته أمه, حين عرف انه كان ( شروال) أبي هديل, الذي كان هو الأقرب إليه منا جميعا, مخرماً بالثقوب . كان عددها ثلاثة عشر على عهدة أبو نادية الذي احتفظ بالشروال لفترة . فقد كان هو الأقرب إليه من جميعا .
أما ما تقوله يا عزيزي ( أبو حسون ) بخصوص النصير الوحيد الناجي الذي لم يفد بشيء , وكل الذي ذكره أن عناصر المفرزة قد استشهدوا جميعا" فأنه (جبح فاله) لم ينتظر ولم يبقى مع المفرزة وهذا ابسط ما تعلمناه في تجربتنا القتالية المتواضعة, أما عبوره للضفة الأخرى ووصوله إلى مكتب القاطع وهو العاري مثلي (لا اعرف من أين حصل على الملابس) فأني وعلى ذمتي ومسؤوليتي اشك في صحة روايته .

فأني وعلى ذمتي ومسؤوليتي اشك في صحتها, فأننا قد هُجمنا، وضُربنا على الضفة اليمنى للنهر وعلى مبعدة أمتار منها ,فلماذا العبور إلى الضفة اليسرى أولا. وان اشتداد التيار وسط النهر يصعب عبوره سباحة مع احتمالات أن يجرفه التيار إلى جهة الربايا ثانياً ، تجعل المرء يفكر كثيرا في عدم المجازفة والعبور.
أما ثالثاً وهذا الأهم , كيف استطاع أن يصل إلى مقر القاطع , حيث كان عليه أن يعبر دجلة ثم الوصول إلى جبل (بي خير) ومن ثم انتظار الظلام لعبور الشارع الدولي بين تركيا والعراق لكي يصل إلى (الجبل الأبيض) وعبوره الذي يحتاج أربع ساعات على الأقل إلى قرى زاخو, ويحتاج يوماً آخر للوصول إلى مقر الفوج الثالث ويوماً آخراً للوصول إلى مقر القاطع في (كلي زيوة) .
كل هذا وهو بلا ملابس ولا سلاح ولا طعام ولا شراب. عجبي على قيادة القاطع وحسها الأمني في تصديق هكذا رواية .
لذلك " فأنه عدا ذلك لم يقل شيئاً يمكن الاستفادة منه للاستدلال على مصير المفرزة " كما تكتب أنت, فأني والتزاماً بالمقدمة اعلاه في بداية الشهادة هذهِ، التي عاهدت بها نفسي على الاحتفاء بالأحياء والحياة مع إجلالي للشهداء وتضحياتهم , فاني سأخبرك واخبر الآخرين عن مصير كل رفاق مفرزة الطريق وليس الذين شاركوا في ليلة العبور فقط . وهذا في مساهمة قادمة . مع تحياتي واعتزازي لكل جهد يصب في هذا السفر النضالي المجيد .

كارلوفي فاري 20 شباط 2008





















 


 

Counters

 

أرشيف المقالات