| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الخميس 29/5/ 2008

 

ذكرى الاربعين للراحل الكبير سليمان يوسف بوكا

حبيب القس يوسف عبيا

تحية وسلام على البلدة الحبيبة القوش التي أنجبت سليمان ومجموعة خيرة من رفاقه المناضلين.
تحية وسلام على جبالها ووهادها وسهولها وازقتها التي امضى الراحل طفولته وصباه فيها
تحية وسلام على مدرسة مار ميخا العريقة التي نهل الفقيد العلم فيها كتلميذ وعاد اليها كمعلم ومكافح للامية ليوفي دينها عليه.
تحية وسلام على اللحد الذي ضم رفاة الفقيد الغالي.

ان معايشتي للانسان ابي عامل لاكثر من نصف قرن رسمت في ذهني صورة واضحة لمسيرة هذا البطل.
ولد ابو عامل في بلدته العزيزة القوش عام 1925 ، وترعرع فيها واكمل دراسته الابتدائية في مدرسة مار ميخا عام 1940 – 1941 الدراسية ثم التحق في دار المعلمين الريفية في بعداد – الرستمية في السنة الدراسية 1941 – 1942 ، كنت انذاك والمرحوم جرجيس زرا في الصف الثالث من المدرسة المذكورة ، وسرعان ما توطدت الصداقة بيننا سيما نحن الاثنين.
كان الفقيد مثالا للبساطة والتواضع، ذكياً مجداً في دروسه اجتماعياً كوّن صداقات مع مجموعة كبيرة من زملائه ، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية او العرقية مخلصاً في صداقته.
سليمان المعلم. بعد تخرجه عام 1946عين معلماً في مدرسة القوش الابتدائية فالتقيته للمرة الثانية والمرحوم حنا بتي كمعلمين في المدرسة المذكورة وذلك بعد نقلي اليها، كما التحق بالهيئة التدريسية الجديدة كل من المرحومين عابد كعكلة ورحيم كتو ، كانت امور المدرسة انذاك متردية من كافة الوجوه والنواحي العلمية منها والاجتماعية حتى الخلقية ، وذلك بسبب سلوكية كادرها التعليمي السابق ، والذي كان للراحل الاثر الاكبر في التخلص منه، واصبحت المدرسة في عهده والمجموعة الخيرة من زملائه في مقدمة مدارس لواء الموصل (المحافظة) من الناحية العلمية واخذت تحرز الاولية بين المدارس في كل سنة ، وتخرج فيها نخبة ممتازة منهم الاطباء والمهندسون والمدرسون والمعلمون والادباء وعيرهم.
كان ابو عامل ، محباً لتلاميذه محترماً من قبلهم، ذو شخصية قوية شديداً في تطبيق النظام مهاباً بالرغم من انه لم يستعمل الضرب مطلقاً، يمد يد المساعدة الى تلاميذه وزملائه، يحل مشاكلهم ويذلل صعابهم، يدافع عن مصالح تلاميذه في مجالس المعلمين اذا زلّ احدهم، كما عمل على اعادة التلاميذ المنقطعين عن الدراسة الى مقاعدهم، مذللا المعوقات التي ادت الى تركهم الدراسة ومنهم المرحوم يوسف عبو ( الملقب زرقة).
مكافحة الامية . تبنى الراحل فكرة التغلغل في صفوف الفلاحين والكسبة بعد ان نجحت جهوده والنخبة من زملائه في اصلاح امور المدرسة الابتدائية ، فطرح فكرة المدرسة الليلية للكبار ورغم المعوقات الادارية والاقتصادية ، فلقد حققها ، فتبرع المعلمون ليس اهل البلدة فقط بل الغرباء منهم أيضاً، تعاونا مع الفقيد، واعطت المدرسة الليلية ثمارها بعد سنين قليلة، فاخذ طلابها، يقرأ ون ويكتبون مما ساعدهم على تمشية امورهم اليومية، بالاضافة الى مطالعة الصحف، والكتب الخارجية.

بصمات سليمان في تحقيق المشاريع الخدمية للبلدة العزيزة
منذ عهد التلمذة واستمرارا الى فترة التعليم كان سليمان في طليعة المثقفين والموظفين والطلاب الالاقشة الذين تهمهم مصلحة بلدتهم، يجتمعون في دار احدهم يتدارسون احتياجات البلدة ويضعون الخطة لتحقيقها، فيعمدون الى تحرير العرائض الى المسؤولين والوزارات المعنية كطلب تعيين طبيب وطبيبة للبلدة ومشروع الماء والكهرباء وتبليط الطريق الرابط القوش بمدينة الموصل ونصب بدالة للهاتف وغيرها من المشاريع التي كانت البلدة الحبيبة بحاجة ماسة اليها وكان الفقيد اللولب المحرك لهذه المجموعات مع نخبة من زملائه . فقلما تجد طلبا لهذه الخدمات لم يكن توقيع ابي عامل في مقدمة التواقيع، ولا زالت اثار بصماته مثبتة على كل مشروع تحقق للبلدة.

مواصلة دراسته :
بعد اقترانه من الشهيدة يازي يونس عام 1948 ، واسقراره، وبعد ان حقق كل ما ذكر اعلاه ، كان طموحه في الحياة ان يكمل دراسته العالية وفي اختصاص القانون بالذات، فكان مع عدد قليل من زملائه المعلمين يشاطرونه الميول نفسها والطموحات ذاتها مع الاختلاف في الاختصاص والموضوع فبدأ سليمان يحضر لاجتياز الامتحانات النهائية الاعدادية ( البكالوريا) كتلميذ خارجي ، وتحقق له ذلك عام 1951 – 1952 الدراسية واثر ذلك قدم استقالته من الوظيفة مجازفاً بمستقبل الاسرة من الناحية الاقتصادية ، الا انه كان شديد الثقة بنفسه من انه سيجتاز الازمة بنجاح وفعلاً عين معلم في مدرسة الارمن الابتدائية الاهلية في بغداد، واخذ يتابع دراسة الحقوق في كلية الحقوق ( القانون والسياسة فيما بعد ) مقابل الجسر الحديدي في الصرافية ، ويعود الى المدرسة الابتدائية ، لتدريس طلابه مادة الرياضيات والرياضة وبالنظر لجده واخلاصه في العمل ، نال ثقة الجمعية المشرفة على مجمع مدارس الارمن المذكورة، فعهد اليه ادارة المدارس المذكورة باجمعها، فنجح في المهمة خير نجاح، ولم يستفد اقتصاديا فحسب بل قدم يد المساعدة الى زملائه القدامى الذين ساروا على خطاه وفي مقدمتهم كاتب هذه السطور ، والراحل عبد كعكلة ، فمنح لهم المحاضرات في المدرسة الابتدائية بالاضافة الى التدريس الخصوصي لطلابها ، وكان الفقيد يعمل في تلك الفترة كالمكوك من التدريس في الابتدائية الى ادارة المتوسطة والاعدادية ، الى الدراسة في كلية الحقوق، ثم التدريس الخارجي.
زاملت الفقيد للمرة الثالثة ، على مقاعد الدراسة في كلية الحقوق عام 1954 ، وكان انذاك في الصف الثالث من الكلية المذكورة مع الراحل حبيب جمعة ولقد وجدته كالعادة جدياً متواضعاً اجتماعياً مثابراً ، ذا شخصية قوية ولقد نضج فكرياً ، واصبح شخصية مرموقه بين زملائه الطلبة، ومحترماً من لدن اساتذته، وبعد تخرجه في الكلية التحق في الجيش ليؤدي خدمة الاحتياط التي كانت مفروضة على خريجي الكليات انذاك ، وبعد اكمالها تطوع برتبة ملازم حقوقي في الجيش، ونسب الى وظيفة مشاور قانوني في الفرقة الثانية في كركوك . واثر الانقلاب الذي نفذه حزب البعث مع مجموعة القوميين عام 1963 ، اعتقل ونقل جوا مع مجموعة من الضباط التقدميين البارزين الى بغداد، ولقد روى لي انه كانت خطة مدبرة من سلطة الانقلاب لابادتهم الجماعية بقذفهم من الطائرة وهم في الجو، حسبما اخبروهم سجانوهم المرافقون لهم، الا انه عدل عن ذلك ، وجاء ت الاوامر ، بايصالهم أحياء الى بغداد عله يحصلون على اعترافات مهمة منهم، وتحمل التعذيب الفضيع في التحقيق في سجن رقم واحد تحت امرة ( حازم الاحمر ) الملقب حازم طماطة ، ثم نقلوا الى سجن نقرة السلمان في قطار الموت السيء الصيت مع مئات من خيرة ضباط الجيش العراقي، وبصنوفه المختلفة، وخطط ثانية لابادتهم جماعياً عن طريق الاختناق في القطار المذكور ، وامضى اكثر من سنة في السجن المذكور ، واثر انقلاب عبد السلام عارف على البعث اطلق سراحه لعدم ثبوت التهمة عليه. فزاول المحاماة المهنة التي كان يهواها ونجح فيها، ثم سافر الى الاتحاد السوفييتي لدراسة الامور التنظيمية والحزبية ، وبعد ان امضى هناك سنتين عاد ليمد الحزب بعلمه وخبراته، وكلف بمهمات كبرى، ثم التحق في الكفاح المسلح ضد السلطة وادى المهمة بكل تفانٍ واخلاص.

نشاطاته الحزبية والمراكز التي شغلها :
انضم ابو عامل الى صفوف الحزب الشيوعي في سن مبكرة ، وفي عام 1948 وفي اليوم الاخير من حفلة زفافه، وحسب شهود عيان قدمت الى القوش سيارة غريبة توقفت في منطقة ( خيبرتا) تقل اشخاصاً مجهولين يسألون عن سليمان يوسف المعلم ، فلم يساعدهم احد على الاستدلال عليه او على داره لشكهم في نوايا الغرباء خوفاً ان يكونوا من مراتب امن الموصل، فهرع احد الشهود الى دار الفقيد الذي كان جالس الى جانبي ليخبره في الموضوع، فهمس سليمان في اذني، واخبرني بذلك، فاسرعت الى دارنا وجمعت الكتب الممنوعة والنشرات الحزبية خوفاً من تحري الدار، ووضعتها في صفيحتين معدنيتين ودفنتهما في الطابق الارضي من دارنا المجاورة الى مقر المطرانية حالياً ولا زالت مدفونة هناك الى يومنا هذا. ومن الجدير بالذكر ان سليمان اخبرني فيما بعد ، ان الغرباء القادمون كانوا من كوادر الحزب الشيوعي من تنظيم الموصل – اللجنة المحلية – وان الغرض من قدومهم الى القوش لتبليغ ابي عامل بقرار الحزب باناطة مسؤولية التنظيم الحزبي لناحية القوش اليه .
ولدى التحاقه في كلية الحقوق وانشغاله في التدريس وادارة مدارس الارمن، طلب من قيادة الحزب تجميده ( والكلام لا زال للفقيد). وبعد التخرج والاستقرار العائلي ، عاود نشاطه بهمة اكبر وانيط به مسؤولية الخط العسكري للفرقة الثانية حتى تقاعده عام 1965.
وبالنظر لكفائته، وجده وتفانيه في العمل في صفوف الحزب، تسلق سلم الحزب حتى وصل الى اعلى المراتب فيه ( عضو اللجنة المركزية) ثم المكتب السياسي ولمدة طويلة. وبقى مخلصاً لمبادئه صامداً رغم التعذيب الوحشي الذي مورس معه عامي 1963 و 1978، ورغم النكبات التي مر بها ومحاولات الاغتيال والتصفية بالقذف من الطائرة وقطار الموت ومحاولة انهائه بالاصطدام المفتعل الذي راحت ضحيته زوجته الوفية وزميلة نضاله عام 1975.
وعن عمله الحزبي، والمراكز التي شغلها ، استشهد باقوال رفاقه في النضال وعلى راسهم أعضاء اللجنة المركزية ، والمكتب السياسي للحزب بمعرض نعيه وتابينه في جريدة الحزب والطريق وعلى لسان تلاميذه الحزبيين في المناسبة نفسها.
اما انت يا ايها الجبار ، فشهادتي هي المعايشة والزمالة، والصداقة والاخوة التي كانت تربطنا لاكثر من ستين سنة عام دخولك الدار ، مرورا بالزمالة التعليمية في مدرسة القوش الابتدائية لاكثر من خمسة اعوام، والزمالة الثالثة على مقاعد كلية الحقوق ، وفي الحياة العملية التي امتدت لاكثر من نصف قرن الى يوم فراقك المفجع.
كنت عصامياً يا ابا عامل، لانك كونت مستقبلك الدراسي بنفسك بالرغم من انه لم تكن من عائلة علمية فمن معلم في المدارس الابتدائية الى ليسانس في الحقوق ومحام ناجح مستقيم.
كنت عصامياً يا سليمان لانك التحقت بصفوف الحزب كنصير ، وتسلقت بكفاءة درجاته حتى وصلت القمة ( عضو المكتب السياسي) عصامياً كنت ايها الجبار ، لان في سلوكك وتصرفاتك اصبحت قدوة لاقرانك ومثالاً يقتدى به للاجيال اللاحقة.
يا ايها الانسان الانسان، حقاً كنت انساناً بما تحتويه هذه الكلمة من معنى ، لانك كنت تحب الناس كل الناس على اختلاف دينهم وقومياتهم وتربيتهم، لم تؤذ احداً في حياتك، كما لم تتكلم على شخص بغيابه مطلقاً متواضعاً بسيطا مخلصا ً في صداقتك ، عملت الكثير الكثير لبلدتك الحبيبة القوش ولتلاميذك الحقيقيين والحزبيين منهم.
تمد يد العون لكل من يقصده سواء في المجال المادي او المعنوي منها.
نم في مثواك قرير العين ايها العملاق، فانك الحي في قلوب وضمائر محبيك ومعارفك.
نم قرير العينين ، لانك دخلت التاريخ من اوسع ابوابه سواء تاريخ بلدتك او تاريخ حزبك، وحتى تاريخ العراق ككل.
نم قرير العينين، لان معارفك وتلاميذك ومحبيك لم ولن ينسوك طالما عرق ينبض في اجسامهم ودمهم يجري في عروقهم.
حقاً ان رحيلك لخسارة كبيرة ، لا بل هو الفاجعة بعينها
سليمان. ان تسليتنا جميعاً أولا ، في هذا الاجلال والاحترام الذي تجلى في تشييعك وتابينك عند رحيلك، ليس على نطاق ابناء بلدتك، ورفاق حزبك فحسب بل حتى من قبل الاغراب، فهذه البرقيات التي ملأت الصحف والرسائل الالكترونية ، والفضائيات الاعلامية ، والمهرجانات والتجمعات والاجتماعات بمناسبة رحيلك، وفي ذكرى الاربعين لفقدك التي ملات الدنيا باسرها ، ليس فقط في العراق بل شملت معظم انحاء المعمورة تخفف من الامنا وفجيعتنا.
واما تشييعك فكان حقاً بمثابة الاستفتاء الشعبي لشخصك ومن خلاله لحزبك العظيم.
وما يخفف من فاجعتنا ايضا هذه الباقة العطرة التي انجبتها من بنين وبنات واحفاد ،وأخيراً تعازينا القلبية لاولادك العزيزين والى كافة افراد عائلتك وتلاميذك والاصدقاء والمحبين .
واخيرا اقول حقاً انك لم ترحل يا بطل.


 

 

Counters

 

أرشيف المقالات