| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأربعاء 30/5/ 2012

   

ذكريات مسيرة

نضال عبد الكريم

احاول ان احافظ على ذكرياتي في فترة وجودي في كردستان ، نصيرة ضمن عدد من النصيرات جنبا الى جنب مع اعداد كبيرة من الانصار الشيوعيين ، حملنا السلاح ، لنحارب الدكتاتورية ، منذ ان بدأت حملتها ضد الحزب الشيوعي العراقي في عام 1978 . اريد ان اسجل هنا ذكرياتي عن مسيرة الانسحاب من مقراتنا ، بعد خسارتنا معركة بشت ئاشان اثر هجوم من قبل قوات الاتحاد الوطني الكردستاني في آيار 1983 .

ولمن لا يعرف بشت ئاشان ، فهي قرية مهجورة في اسفل جبل قنديل الشامخ ، والذي يشكل نقطة حدود مع ايران ، تغطي الثلوج قمته وسفوحه اشهرا عديدة من السنة . اختار الحزب الشيوعي العراقي هذه القرية والوادي ليكونا مقرا خلفيا لقيادة الحزب واعلامه ، ولكن التطورات السياسية والعسكرية بين الحزبين الكرديين الرئيسيين وضعتنا كطرف في الصراع بينهما ، وآلت تلك التطورات الى هجوم عسكري من قوات الاتحاد الوطني ضد مقرات الحزب في بشت ئاشان ، الأمر الذي اضطرنا الى الانسحاب نحو سفح جبل قنديل والانتقال الى الجانب الآخر الذي كان برعاية الحزب الديمقراطي الكردستاني .

للأسف الشديد لم يكن انسحابنا منظما كما ينبغي ، ولم نكن نعرف خط انسحاب واضح ، ولم نكن مستعدين الى الانسحاب اصلا ، لأن قيادة الحزب لم تتوقع ان يهاجمنا الانحاد الوطني في مقر المكتب السياسي في بشت ئاشان ، كما صرح الفقيد فاتح رسول عضو اللجنة المركزية آنذاك . وهكذا كانت مسيرة الانسحاب التي ابتدأت منذ عصر يوم 2 آيار 1983 طويلة وموحشة وقاسية .

قبل مسيرة الانسحاب بأيام ، وعندما كان التوتر سيد الموقف ، كان النصير عبد الحسين شعبان ( ابو ياسر ) يجمع بعض الأوراق ويضعها في كيس نايلون ويذهب بها الى اعلى الجبل لدفنها هناك ووضع شاهدة عليها للتدلل على المكان عند العودة اليه ، ومثله فعل النصير صباح المندلاوي ( ابو النور ) الذي كانت لديه كتابات ادبية ومسرحيات لا يريد لها ان تحرق ، فوضعها في علبة حليب نيدو فارغة وذهب بها الى اعلى الجبل لدفنها هناك .

ابلغوني بالانسحاب ،اعلموني ان آخذ وثائقي واتجه نحو نهاية الوادي ، والصعود اعلى السفح ، مع الآخرين ، مررت بالحانوت الذي كان يبيعنا بعض المستلزمات ، رأيته مفتوح الباب ، اخذت منه بعض التمر والسكر ، ومجانا للمرة الاولى والاخيرة ، وبدأت صعودي سفح جبل قنديل مع الآخرين مثلي الذين لا يعرفون الى اين نتجه ، وما ينتظرنا ، وماذا بشأن الآخرين الذين تركناهم وراءنا ، اسئلة كثيرة تمر امامنا ولا يستطيع احدنا الإجابة عنها .

في المسيرة ، كان الرفيق جاسم المخرج الاذاعي الذي كان احد العاملين في اذاعة الحزب ، التي كانت تبث من بشت ئاشان ، يجلس القرفصاء على صخرة عالية نسبيا وينظر من اعلى الى مبنى الاذاعة الذي يحترق بعد ان قرر الرفاق نسفها وحرقها ، كان ثابتا في قرفصائه رغم اصوات الانفجارات ، يحدق بالنيران وعيناه تشبه جمرتين تقدحان شررا ، لم يكن ليسمع مناداتنا له . بعد ان خفت لهيب النيران نزل من الصخرة العالية ، وقال لي : امشي ، ابو جواد وراءنا.

في المسيرة كانت الرفيقة لينا ، زوجة الرفيق خالد قد وضعت طفلهما الأول قبل يومين ، ولم يسعفهما الوقت حتى لتسمية المولود الجديد . كانت لينا تسير امامي وكان طفلها عبارة عن فم يصرخ كل لحظة طالبا للحياة . لينا لا تملك الحليب واصابها نوع من الانهيار ، تناوبنا على حمل الطفل ، ولينا تصرخ أين خالد ؟ هل استشهد ؟ كل ساعة تمر تصبح الحياة اكثر صعوبة ، فالبرد قارس والمجهول امامنا .
فجأة ظهر امامنا الرفيق الشهيد الطبيب ابو ظفر ، حمل الطفل وذهب الى لينا ، قال لها : اهدئي ، ضعي الحلمة في فمه حتى لو كانت خالية . لينا كانت تهذي وبالكاد تمشي ، وبدأ لون الطفل يميل الى الزرقة ، وضعه الدكتور ابو ظفر على سترته واخذ بعض من السكر ، وخلطه بالثلج الذي تحت اقدامنا ، فرك الثلج بالسكر ، ووضعه في فم الطفل ، ولأول مرة بدأ الطفل يستعمل لسانه في التذوق ، وبدأ يهدأ ، كان يصرخ للحظات ويسكت ، وكان الرفاق يساعدون لينا في صعود جبل قنديل ، كنا نصعد الجبل دون معرفة للوقت ، كانت غريزة البقاء تدفعنا الى ذلك ، والبعض منا قد انهار من التعب .

في المسيرة كان يظهر بشكل مفاجئ ، رفاق جدد ، لحى خشنة ، وجوه جائعة ، تسأل عن بقايا تمر أو سكر أو كسرة خبز ، كان الرفاق يبحثون تحت الصخور عن سكر وشاي ، وكانت هذه عادة الرعاة ، يضعون في كل مكان يمرون به ، السكر والشاي والملح ، ولكن احلامهم كانت عبارة عن سراب في صحراء قاحلة ، فأي راع يصعد بقطيع الغنم الى جبل قنديل حيث الثلوج تغطي قمته على مدار السنة ولا يوجد تحت الصخور سوى الافاعي في سبات .

في المسيرة ، وحين اشرقت الشمس في 3 آيار 1983 ، فجأة ظهر طفلان ، الاول له من العمر ثلاث سنوات والثاني سنة واحدة ، كانا مع امهما قادمين من منطقة نبي يونس في الموصل لزيارة والدهما الذي كان رفيقا معنا في بشت ئاشان . طلب الدكتور ابو ظفر مساعدة للطفلين اللذان كانا يرتعشان من البرد وامهم التي تندب حظها بالخروج من نبي يونس ، طلب من الرفاق حمل الطفلين ، كل رفيق يحمل الطفل لمدة ساعة ثم يسلمه الى رفيق وهكذا . ولم يكن الامر بالهين ، فلم يستطع احد تكملة ساعة ولكن في نفس الوقت لا يمكن رمي الاطفال على سفح الجبل ، حين يحمل الرفيق الطفل ذو الثلاث سنوات وهو نائم وملفوف في بطانية لا يستطيع حمل بندقيته معه ، ولا أحد يستطيع بسبب من التعب والجوع ان يحمل بندقيتين ، وهكذا تخلى الرفاق عن بنادقهم ، الا ما ندر ، امام بقاء الاطفال على قيد الحياة . كان الدكتور ابو ظفر يقدم المساعدة وتهدئة من فقد اعصابه ، لم يكن احدنا يكلم الاخر ، الجميع اما صامتين أو في حالة هستيريا .

ظهرت ام خولة امامي ، سألتها عن ابو خولة أجابتني انه خرج مع رفاق آخرين منذ الصباح الباكر ، وكنت قد خرجت معهم ، لكنهم اعادوني الى المقر مع الدليل الذي رفض ايصالهم الى الجانب الاخر بسبب الثلج الذي يغطي قنديل . عند النزول الى سفح قنديل من الجهة الاخرة ، كان على ام خولة ان تهبط تزلجا ، جلست ام خولة على الثلج مباشرة ، اغمضت عيناها ، وغطت وجهها بيديها ، واندفعت الى الاسفل

وفي الاسفل كانت هناك مجموعة من الرفاق تستقبل الرفاق المتزلجين ، مشينا لساعات ثم جاءتنا سيارات نقلتنا الى الداخل الايراني ، حيث استقبلتنا قوات حدك ، اخذوا الرفيقات الى بيوت اعضاء حدك ، والرفاق وضعوهم في المدارس .

الرفيقة الطبيبة اشواق ، العروس التي لم يمر على زواجها شهر ، تبحث عن زوجها الرفيق رعد بين الوجوه . الرفيق سالم يبحث عن زوجته الشهيدة عميدة بين الرفيقات ، يسأل عنها ولا يدري ان خاتم زواجهما كان اغلى من حياتها . كان سالم لا ينام الليل ، يحوم حول اماكن الرفاق ينتظر القادمين الجد ، ربما كانت عميدة معهم ، كان يجلس في مدخل القرية ، ربما يراها قبل غيره ، وقطع الأمل بشاهد عيان ، سقط سالم منهارا لمدة يومين ، كنا ننظر اليه خلسة من الشباك ، كان طعم الدم والغدر بين اسناننا ، كانت المشاعر متضاربة ، ساخطة على الحزب والحلفاء وعلى وعلى ، كنا دائما نحاول ان نسأل ونسأل ونسأل شاهد العيان عن نفس الشيئ لعدة مرات . كانت اوامر اوك لمقاتليه تقول ، من مسدس وأقل فهي غنيمة لك ، ومن بندقية وفوق فهي للحزب ، ولذلك قُطع اصبع عميدة لسرقة خاتم الزواج .

سألت كثيرا عن زوجي ابو جواد الذي بقى في المقر لانجاز شيئ ما مع رفاق آخرين ولم احصل على جواب الا في اليوم التالي عندما اخبرني الرفيق باسم ، بأن ابو جواد في الخلف ينتظر القادمين ليدلهم على اتجاه الطريق الذي يتوجب سلوكه ، التقيته في اليوم الرابع .

سألني النصير مكي حسين ( ابو وسيم ) بعد ابو يحي هل سمعت عن شهيد آخر ؟ قلت نعم كان سعد ، سعد وماجد اخوة شباب مراهقين لم يصلوا الى سن الثامنة عشر آنذاك وهم كل ما تبقى من العائلة التي تمت ابادتها من قبل المخابرات العراقية . لم يبقى غير ماجد هل تعرفين اين هو ؟ لم اكن اعرف اين هو ، ، ونحن نصعد الى اين ؟ لا احد يدري وينضم الينا رفاق كانوا تائهين او الصدفة قادتهم الينا .

الجميع كان في حالة ذهول ، والجميع يسأل الدكتور ابو ظفر عن علاج لوجع المعدة التي كانت جائعة لايام وامتلأت فاصوليا يابسة فجأة ، كان بعض الرفاق حفاة ، فقدوا احذيتهم في الطريق ، والبعض كانت ملابسه ممزقة ، بقع دم ، بقايا قيئ من معدات خالية ، البعض يحمل جروحا في اماكن مختلفة .

بعد اسبوع بدأ الرفاق يلملمون بعضهم البعض ، ويسألون عن المتأخرين في الوصول وعن شهود عيان لمجازر البرابرة . ، احدهم حدثنا عن الشهيد عبير وكيف سقط من اعلى الجبل وملأت صرخته الجبل ، ام بهاء بدأت تفقد توازنها بعد استشهاد رعد وعميدة ، كانت تنتظر ابو ظفار اخيها ، تأخر شاهد العيان والأمل بالأسر أفضل بكثير ، كانت كاللبوة الجريحة تهاجم كل من يبتسم ، اما اشواق فكنا نصحو ليلا ، نحن الرفيقات على نشيج بكائها ، لم تكن تكتمه لا البطانية ولا المخدة ، وبعد يوم انضمت ام بهاء الى اشواق ، كانت عايدة تذهب خلسة الى مكان منعزل بعيد نوعا ما ، قررت ان اذهب خلفها ، كانت تجلس متربعة على الارض متكأة على بندقيتها وتبكي بحرقة ، كانت تبكي الجميع .

وفي يوم ، جاء رفيق يحمل بيده اوراقا ويجمع الرفاق ويسألهم فردا فردا ، عن احتياجاتهم ، من ملابس واحذية ، وماهي مقاساتهم ، حتى يشتروا لنا ما نحتاج اليه ، وحينما سأل الرفيق عبوسي عن حاجاته اجاب عباس : انه بحاجة الى امرأة ، في هذا اليوم ضحك الجميع .



آيار 2012
 


 

free web counter

 

أرشيف المقالات