| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الخميس 3/3/ 2011

 

يوميات العراق والمنفى  (5)

ظروف طباعة ديوان - علي الشباني - الثاني

سلام إبراهيم

ظهر - هذا التراب المر.. حبيبي - * إلى النور وديوان - طارق ياسين - ينتظر منذ 1975
في زيارتي الأخيرة إلى العراق وجدت وضع صديقي الشاعر – علي الشباني – أزداد تدهوراً على تدهوره في زيارتي قبل الأخيرة. عاد صامتا طوال الوقت، شاردا، لا يقرأ، ولا يكتب. يستيقظ فجرا كما تعود طوال عمره ويخرج إلى الشارع ليقضي يومه متنقلا بين مقاهي المدينة بعد إحالته على التقاعد. بعد أن ألقته زوجته الأولى وأولاده في الشارع مما حدا بـ - حبيب ظاهر - صديقنا المناضل سابقاً والملياردير حاليا إلى توفير سكن له في عمارة يملكها بوسط – الديوانية -. أصبحت أيامه حالكة، كآبة قهرية، وحده، شرود، صمت، مضاف إلى أن العديد ممن حوله أنفض عنه، وصار يتحاشاه. حتى في مقهى – الراية - تجده جالسا لوحده صامتا يحملق بشرود في المارة والرواد. لازمته طوال الوقت حتى أنني نسيت بعض من أصدقائي. حاولت إنهاضه. ذهبنا معا إلى الطبيب النفسي. كان عسكريا قديما،فكتب له وصفة طبية حطمته تماما. حتى أن صديقنا الأديب– ثامر أمين – أتصل بيّ مساء يوم من المقهى وطلب مني الحضور فوراً، فـ - علي - لا يستطيع الوقوف على قدميه. وجدته فعلا مثل مخمور يتمايل على كرسيه ويتكلم بصعوبة. فسألت عما جرى له، فأخبرني بأنه تناول الأقراص التي أعطاه له الطبيب النفسي. حملناه حملا حتى شقته القريبة، جردناه من ملابسه واتصلت بابنه – شهد – من زوجته الثانية كي يأتي ويبات الليلة مع والده. كان – علي – يحرك شفتيه بصوت واهن وهو شبه غائب عن الوعي طالباً مزيدا من الأقراص. أخذت الأقراص معي ووضعنا جوار سريره على منضدة خشبية حائلة، قنينة ماء. تحسن بعد أيام قليلا.. أقصد جسدياً، فعملت على نفض الغبار عن أوراقه القديمة، فـ – علي - يمتلك أرشيفاً نادراً لتفاصيل مهمة في الحياة الثقافية في مساره الطويل. دأبت كل يوم بعد الاتفاق معه على نقل ما بحوزته من وثائق ورسائل، وأشعار ومخطوطات، وقصاصات صحف منذ ستينات القرن العشرين وحتى الآن. وفعلا صفيت المكتبة تقريبا وعثرت على الكثير. نقلتها إلى بيتي في العراق منتظراً اليوم الذي تتحرر فيه الثقافة العراقية فعلا من قيود سلطات جاهلة لا تحترم المبدع والمثقف، فتأتي سلطة تقوم بفتح متاحف لكتابها وشعرائها في كل مدينته حيث يحتفظ المتحف بممتلكات الكاتب والشاعر من كتب ومخطوطات وصور وحتى ملابسه كما هو الحال هنا في الدنمرك، ليس الكتاب فقط بل كل من يعني شيء بالنسبة للوطن، حتى بيوت الشيوعيين السبعة الذي قاوموا الاحتلال النازي وقتلوا حولوا بيوتهم إلى متاحف رغم أن الشيوعيين الدنمركيين لم يشموا رائحة السلطة قط طوال التاريخ الدنمركي. لبثت أياما أقلبُ مخطوطات أشعاره الموزعة على أكثر من عشرة دفاتر، فعثرت على مجموعة كبيرة من القصائد التي لم يضمها ديوانه الأول – أيام الشمس –. القصائد تنقسم إلى قسمين الأول هو امتداد لقصيدته التي جددت الشعر العامي العراقي وأفضت به إلى مناحي أبعد من تجربة مظفر النواب كاشفة عالماً جديداً مختلفاً، مخبوء في سحر اللهجة العراقية الغنية والعذبة، والقسم الآخر قصائد حماسية وغنائية كتبها في غمرة الخلاص من الدكتاتورية تتغنى في المناضل وأيام النضال من نمط القصائد التحريضية والأخيرة أحرى بالحزب الشيوعي العراقي العمل على طباعتها في ديوان مستقبلا. أشرت على قصائد النمط الأول المهمة بالنسبة لتطور القصيدة العامية العراقية على أمل توفر فرصة لطباعتها، وكنتُ أتمنى من القلب أن تظهر والشاعر على قيد الحياة لعلها تساعد في توازنه وهو في سني عمره الأخيرة. لم تكن أمامي الصورة واضحة، فقد عملت وبجهد شخصي على طباعة ديوانه الأول – أيام الشمس – الذي صدر عن دار – نينوى – في دمشق 2000. في الأيام التالية حاول الوسط الثقافي في العراق وبمبادرة من العديد من أصدقاء الشاعر على عمل شيء له. فأقام ملتقى الخميس الإبداعي في اتحاد الأدباء والكتاب في العراق جلسة احتفاء به في ظهيرة الخميس 23 أيلول 2010 أدارها الصديق الشاعر – كاظم غيلان -. بكرنا صباحاً مستأجرين سيارة وسافرنا؛ أنا، وثامر أمين، وعلي الطرفي مع علي الشباني طبعا، فوصلنا الأندلس قبل موعد الجلسة بثلاث ساعات. كان علي متعبا، شارداً. انتبهت حال نزولنا على الرصيف المقابل للاتحاد إلى قميصه الأبيض متآكلا عن الياقة. طلبت من ثامر شراء قميص جديد، فأتى بقميص أصفر مرتب ونظيف. أبدل قميصه في مقهى عند ركن الأندلس سيظهر به على الفضائيات العراقية التي احتشدت لتصوير الجلسة. كان – علي الشباني - قبل بدء الجلسة يسير كالمخدر ويحملق في القاعة التي اكتظت بالحضور وكأنه لا يراهم، وكان لطريقة الفنان – علي الطرفي – في بدء الجلسة أثراً هاما على نهوض الشاعر، إذ خرج من خلف الجمهور مرتجلاً خطاباً يستحث الشاعر، مستدعياً تأريخه الشعري والنضالي بكلمات ألهبت – الشباني - فقرأ مقطعاً من خسارة قراءةً مذهلةً شاهدها الجمهور العراقي متلفزة، مختتما القراءة بمقطعه الأشهر:

(من يغني الكاولي.. كلكم سكوت
لو دره البلبل بواچيه غنه.. يبلع لسانه ويموت
بس يظل مبضوع گلبه
شاور حروف الدفاتر.. ما لگه لحزنه دوه
شاور الشگره وبچه
كافي حزنك.. جرح گلبك.. والوكت خنجر عدو
يشتري الشوگ بعطش روحه ويهيم
رافگ الشوچ ويظل جدمه يتيم
شو يريد أضماد.. يتداوه بخناجر
والعمر.. چذبه عله باچر
)

أثناء قيامي لأداء شهادتي عن الشاعر والإنسان كنت أفكر في قصائده الأخرى المنسية، وكنت حملت معي مخطوطة نادرة لديوان - علي - الأول – أيام الشمس – الذي قدمه إلى الرقابة العراقية عام 1974 فوافقت أول الأمر لكنه لم يكن لديه المبلغ الكافي لطباعته وحينما دبر المبلغ كان قد فات على وقت الإجازة ستة أشهر فقدمه للرقابة مرة أخرى فمنع من النشر، إذ بعدها بأيام صدر قانون حضر الشعر العامي. . ختم الرقيب أشارة المنع جوار أشارة الموافقة على كل صفحة من المخطوطة. حكيت تلك التفاصيل للحضور وأخرجت لهم الديوان وعرضته، ثم عرجت على ظروف طباعته في الخارج زمن الدكتاتور وكيف قمت مع بعض الأصدقاء وهم زوجتي؛ ناهدة جابر جاسم، وكريم الحلاق، وإبراهيم عبد الحسين وكلهم كانوا ثواراً في الجبل بتحمل تكاليف الطبع، سافرت إلى دمشق لغرض ذلك، فساعدني هناك كل من الشاعر - جمعة الحلفي – والفنان - طالب الداوود – فقام الأول بمراجعة القصائد بينما قام الثاني بصفها وتصميم الغلاف. واتفقنا على رفع قصيدة ملحمية أسمها – ليل التتر – سيجدها القارئ في – هذا التراب المر.. حبيبي -، خوفاً على حياة الشاعر الذي لم يغادر العراق قط. بعدها أشرت إلى القصائد التي عثرت عليها بين أوراقه والتي من الممكن أن تكون ديوانا ثانيا للشاعر متمنيا أن تتبرع مؤسسة أو حزب، أو شخصية متمكنة في التكلف بطباعته. قلت مع نفسي لعل وعسى، فقد أتعبني ديوانه الأول فأكثر أصدقاء الشاعر – علي الشباني -ممن كانوا في الخارج لم يساهم رغم مفاتحتي الشخصية لهم. وكذلك الأمر مع مخطوطة ديوان الشاعر المبدع – طارق ياسين – المتوفي في عام 1975 الذي لدي نسخة من مخطوطته النادرة وكتبت مقالة عنها مع نماذج من أشعاره المذهلة ونشرتها في الثقافة الجديدة العدد 273 تشرين الثاني – كانون الأول 1996 راجياً من دور عراقية أو أحزاب التكفل بطباعة ديوان شاعر مات ووضعت عنواني لدي الثقافة الجديدة التي كانت تصدر في الخارج لكن لا من سامع ولا مجيب ( عثرت بين أوراق – الشباني - على ديوان طارق الكامل بما فيه قصيدته الملحمية – حلب بن غريبة – وقمنا بصف الديوان وإخراجه وتصميم غلافه ودفعنا التكاليف أنا وزوجتي، نتمنى أن يقوم حزب أو دار نشر أو مجلة أو شخصية متمكنة بالقيام بطبعه وتوزيعه خدمة للثقافة العراقية والعقل العراقي.. وهذا بمثابة نداء ثاني لمحاولة طباعة ديوان الشاعر – طارق ياسين - بعد نداء الثقافة الجديدة 1996 ).
حينما نزلت من المنصة راجعا إلى كرسيي همس بأذني الجالس جواري – جاسم الحلفي – عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي:
- سأتكفل بطباعة الديوان على حسابي!
وطلب مني عدم الإعلان عن ذلك وقتها. وجاسم – أبو أحلام – وهذا أسمه الحركي قضى زهرة شبابه مع الثوار في جبال شمال العراق مقاتلا من أبدع المقاتلين الذي نجوا من الموت طوال سنوات القتال. ولحد هذه اللحظة يتذكر سكان أربيل من الأكراد قصصه التي تحولت إلى أساطير في التداول الشفوي. عدت إلى الديوانية وحملت دفاتر الشاعر إلى مكتب يصف الكتب، فقام بصف القصائد وإخراجها واختيار غلاف مقابل ثمن مدفوع طبعا. وقمت مع - ثامر أمين - باختيار عنوان الديوان. كما صححته كلمة.. كلمة، اكتشفت هنا في نسختي التي حملتها معي إلى الدنمرك بأنه فلتت مني بعض المفردات، لكنها قليلة جدا. وقبل سفري حملت الديوان إلى بغداد ووضعته لدى صديقي المناضل – عبد الحسين داخل – فأوصله إلى – جاسم الحلفي – قبل أيام اتصل بي كاظم غيلان ليخبرني بصدور الديوان..

أعتقد أن الشعر العراقي العامي كسب ديوانا مهما كاد ينسى ويضيع وأتمنى أن يبادر أي شخص متمكن أو مؤسسة أو حزب في طباعة ديوان - طارق ياسين -المهم جدا والجميل والعميق الذي ينتظر منذ 1975 سنة وفاة الشاعر، وهو كما ذكرت معد للطبع مصفوف مع الغلاف.
 

* صدر عن دار الرواد – بغداد - 2011
 

يوميات العراق والمنفى  (4)
يوميات العراق والمنفى  (3)
يوميات العراق والمنفى  (2)

يوميات العراق والمنفى  (1)

 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات