الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

السبت 10/6/ 2006

 


هذا المقال واحد من مقالات وحوارات عديدة ضمها ملف الشاعر عبد الكريم كاصد الذي أ ُعد إحتفاءاً به في المربد الثالث في البصرة 2006 ، والذي سينشر كاملاً في دوريات ثقافية وكذلك سيصدر في كتاب من قبل وزارة الثقافة العراقية .
أعد الملف وقدم له
الشاعر العراقي عبد الباقي فرج .

Abdulbakifaraj@hotmail.com

 

فانتازيا العبث .....
قراءة في ديوان ( دقات لا يبلغها الضوء)

للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد


محمد جميل أحمد

يضمر الشاعر في حواره مع الكائنات ، استعارة ما للعالم، من خلال ذاكرة مستعادة، و تاريخ شخصي ، وخيال يرهن باستمرار الرموز العابرة ، فيما تجترح تلك الذاكرة انخطافا ًمستمرا في تداعياتها بحسب ما تنفتح عليه من صور وحيوات.
في ديوانه (دقات لا يبلغها الضوء) الصادر عن دار الكنوز الأدبية في طبعته الأولى بيروت 1998 ، يكتب الشاعر العراقي عبد الكريم كاصد ، فصولا من ذاكرة شعرية تسرد مصيرها في ركض يصل الهاوية بالخلاص . ويسجل عبر تقنية الفصول ما يحيل على استعارة سردية في دلالة تلك الفصول على نشيد عبثي ، يعيد تعريف الكائنات ، ويخلق نسيجها من وراء الطبيعة والمكان ، والإنسان . بينما ترتبط التيمة الناظمة لتلك العناصر بمصير مفجوع ، وذاكرة مفتوحة على الخراب . كقبور الأصدقاء التي تلمع في الغبار.
يقيم الشاعر حواره مع عناوين مفرده ، عبر دوال رمزية تكشف عن خفة الروح إزاء حياة مقتلعة ، تبدأ باستمرار من وعي الكينونة بلحظتها الوجودية المتذررة ، وتتأمل شرطها الذي لا يغفل عن مديح العدم ، واكتشاف ما هو مسكوت عنه من المعانى الخاملة لعبارات شهيرة تتحول في وعي الشاعر إلى انتباه لذلك العدم .
( وضعوا الشمس في يمينه / والقمر في شماله/ ولم يك ثمة نهار / ولم يك ثمة ليل).
هذا القلب للرموز يتحول إلى لعبة جدلية تحتفي بما يمكن أن تقف عليه صورة العالم المعكوسة حين تكون بديلا مفترضا لحياة مليئة بالعبث الأسود.
يصغي الشاعر لأسرار الباطن ، وحياة غير منظورة . يسعى إلى ترهينها بعيدا عن البلاغة ، فتأتي العناصر في نصه متخففة قدر الإمكان من كثافتها الخارجية . ويستدعي عبر الإصغاء ، ما يرن في المخيلة ، من كائنات و صور هجينه تتوارد كهوامش للغة ، والوعي ، والغياب . حيث تبدو الإشارات أكثر إشراقا في النص كلما أصغى الشاعر إلى ملاذ يماهى يقينه العبثي مع الفضاء الأسمى لموسيقى الكون .
فالنصوص في هذه المجموعة تنفتح على تأويل عبثي للحياة ، يطرد به الشاعر وعياً شرسا بالعالم الخارجي ، ليتحصن في ما يمنحه التحاما بالعناصر في صورتها الأزلية من عالم المثل(غير الأفلاطونية). فهو يستعيدها برؤى مفترضة ، كما لو كان الأصل هو ذلك التذرر الكياني الذي يمنحه حياة موازية ليقينها العبثي . فيسجل هجاء الأيدلوجيا والأحلام ، والفضيلة حين يقول الشاعر من قصيدة (المدينة الفاضلة) : (المدينة التي عبرت إليها على بساط من ريح / وجواد من رمل / وسفينة من ورق …. هاهي الآن تعبرني/ على بساط من ريح / وجواد من رمل / وسفينة من ورق) .
وبالرغم من أن المجموعة تتردد بين النثر والإيقاع في نصوصها ، إلا أن هذا ما يمكن أن يشير إلى فرز ابتدائي ، و منسوب في متن اللغة ، فيما يكتشف القــــارئ
شعرية توفرت على إبدال نشط بين تيماتها. فحين تفصح بعض النصوص عن لغة
مشهدية عالية ، تنخفض الموسيقى إلى ما يصاحب تلك الصور من إيقاع بصري يحذف أصداءه الزائدة .
كما يرتفع النبر بسرعة من أجل ضبط أكثر للمعنى ، وتوتير لمقدماته التي تتوالى فيها دوال العطف بهدف المفارقة الدرامية. كما في قصيدة (احتفال) حيث يقول :
(كانوا يقسمون على المصاحف أنهم شجرٌ / وأن الآخرين الريح / كانوا يسجرون / ويسجرون/ وكان تنور الكلام يفح مستعرا ً / وكانوا في النهاية / يكذبون) .
ويكتب الشاعر عناوين للخراب والأسطورة حين يتكلم عن الحرب. ذلك أن العبث في نصوص المجموعة يراكم تفاصيل لا تكف عن شحن الذاكرة بفيض من خزين العنف والدمار الذي يلحقها باستمرار. فتأتي تداعياتها في وصف الحرب كما لو كانت هولا ً ينزع عن الشاعر إدراكه المحايث للمأساة البشرية ، فتتحول، بفعل ذلك الوعي الشرس ، من جنون إنساني إلى قيامة ملحمية بامتياز . يقول في قصيدة ” ما تردده الحرب ” : ( في أعراسي يمتزج البشر بالآلهة / والظهيرة بالليل / والبيوت بالرماد………. / هللويا /هللويا/هللويا).
إن النزوع إلى أسطرة الكوارث جزء من الوعي الذي يتحصن بأقصى حالات التذرر ، حين يستعيد وجه المأساة على نحو متجدد.
لكن عناوين الإفراد في نصوص الشاعر توحي استبطانا للأشياء بحسبانها جزءً من تاريخ شخصي ، يقوض نظامها المفترض ويحيلها إلى بنى مفككة . فالمجموعة التي انطوت أغلب قصائدها على عناوين مفردة من مثل ( الوليمة ـ توهم ـ رومانس ـ أوراق ـ عزاء ـ الشرفة ـ لعبة …. إلخ ) دمجت تلك العناوين ضمن فصول ذات عناوين مفردة أيضا مثل ( فصل الهباء ـ فصل المرض ـ فصل الشعراء)
وتأتي الأشياء والمعاني ، في بعض النصوص كما لو كانت تأويلا معكوسا للغة باعتبارها إحدى تعبيرات القراءة اللسانية . أي أن الشاعر هنا يقرأ نفسه من خلال الإصغاء للأشياء ، ولغتها ، وإشاراتها . مختبرا حالات غريبة في محيط داخلي من الفنتازيا . ليكسر الحد الفاصل بين الواقع والرؤيا، مثل قصيدة ” حياتي ” التي يقول فيها عن حياته :
(منذ المشهد الأول/ وأنا أحملها مثل تحية كاريوكا/ ” بين يدي محسن سرحان في ” فيلم سمارة ” / سائرا فوق سماء خالية/ تعلوني الأرض) . أو حين يكتب سردا بحدود مقلوبة تنحو فيه الدلالة إلى حدها الأصلي للتعريف . فهي هنا تفيد أن النص طباق لها ، بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. لكن هذا الشيء الآخر ينطوي على برهان معكوس ، وشخصي جدا ، كما في قصيدة ” زجاجة ” التي يقول فيها :
( لو قلت لك أن رجلا واحدا هـّدم حياتي / لما صدقت َ / وقد رأيت العالم في زجاجة الساحر/ لو قلت لك أن رجلا واحدا / هدم بلادا / لما صدقت / وقد رأيت الساحر في زجاجة العالم) .
لا تعطي النصوص قراءة ناقصة رغم الفصول التي تجتمع فيها . فباستثناء فصل (أوراق) ، تأتي النصوص بعناوين مستقلة في فصل واحد . فهي بقدر ما تنطوي على كثافتها الذاتية ، بقدر ما تمتلك دلالة اكتمال في الفصل الذي تندرج فيه على نحو إشاري . كما في (فصل الهباء) الذي تنسج عناوينه معنى واحدا يختزن إشاراته السياسية دون حمولة مباشرة حتى في العناوين.
مثل قصيدة (الزائل) التي يحذف فيها الشاعرُ الطاغية َ من وجوده الحقيقي حين يقول : (لست َ تاريخا ً / ولا جغرافيا / أيها المنسوب إلينا / كما تنسب الأشنات إلى البحر/ والوباء إلى الله) . كما تأتي عناوين القصائد : (زجاجة) و(احتفال) و(ما تردده الحرب) التي أوردناها سابقا ضمن هذا الفصل ، لتكتمل صورة الطاغية مع العديد من العناوين الأخرى في ذات المعنى من فصل الهباء .
تلغي النصوص باستمرار ما يرهن تيماتها إلى نمذجة ما. ذلك أن تحقق النصوص يكمن في تكوينها عبر حساسية تتجاوز سقف المعاني المتوقعة ، أو المفترضة ، إلى فضاء تجريبي ينشأ من الرغبة العارمة في الإصغاء لحيوات أخرى عبر ذلك الإلغاء. فحين يدمج الشاعر أحلامه ، وهواجسه ، ورؤاه ، من خلال تكوين يفرز سياقاتها المجردة ليدخلها في شبكة دلالية هجينة ، بين الخيال والواقع ، والحقيقة والمجاز. يضعنا أمام تماس عنيف مع العبث بوصفه تخليصا للفن من الواقع .
هكذا استطاع عبد الكريم كاصد تنظيف الذاكرة من وعيها الشرس عبر شحذها بمجاز مسنن ، يقفز على الوقائع والهواجس لتستمر الحياة كما هي .