الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأثنين 18/8/ 2008

 

الصورة والأداء
في شعر محمود درويش

قاسم حول  *
sununu@wanadoo.nl

سألت المخرج والروائي والشاعر الإيطالي بيير باولو بازوليني:

لمن تعمل أفلامك؟

فقال:

إنني أعمل أفلامي لمشاهد إسمه بازوليني.

بازوليني في كتابته السينمائية التي تتسم بشاعرية أخاذه لا يضع أمام عينيه المتلقي، بل هو يكتب بوضوح الرؤية والرؤى ويترك الفيلم دون أن ينتظر ردود الفعل في تقييم المتلقي، لذلك جاءت أفلامه متوازنة في شكلها ومضمونها لأنه لا يبنيها على أي أساس من المساومة بين الحلم والآخر.

ومحمود درويش الشاعر الذي تجاوز في شعره المكان والزمان دون أن يخرج منهما ودخل في الشعر مدخل صدق، باتت القصيدة عنده مرتبطة بذاته، فالصورة الشعرية التي تكتمل وتوحي وتقدم نفسها بألوانها بضوئها وظلالها وبقيمة التشكيل فيها وانسيابية الحركة في دراميتها الشعرية ليس من السهولة أن يرتقي إليها المتلقي قراءة فحسب، ومن هنا أتت أهمية أدائها.

ولما كان الشاعر محمود درويش يمتلك قدرة الأداء إضافة إلى جمال الكلمة وبناء الجملة وبناء القصيدة دراميا، فإن المتلقي يشعر بمتعة وتألق غير متعة القراءة.

قدرة الشاعر محمود درويش على الأداء تتمثل في موهبة قل ما يمتلكها كبار ممثلي المسرح سوى ندرة منهم. فعبقرية الممثل لا تتمثل بالتطابق والانسجام مع الشخصية المؤداة والتعبير إنما تتمثل بقدرته على الاحتفاظ بمساحة محددة يتركها لليقظة وهو شأن ليس سهلا، أن تنسجم مع الحدث وتبقى تتحكم فيه وفي السيطرة على انسجامك لكي تدرك مدى جملة الصمت ومدى تأثير الإيحاء ولحظة التململ أو يقظة الانتباه أو السفر مع الصورة أو غيابك أو حضورك في المشهد. هذه القدرة التي نسميها عبقرية الممثل متوفرة لدى محمود درويش وهو ليس ممثلا إنما يؤدي شخصية محمود درويش حالما أو محمود درويش قلقا.. محمود درويش في المشهد الشعري. وإذا كان الممثل هو مفردة من مفردات لغة التعبير المسرحية فإن الشاعر محمود درويش هو اللغة التعبيرية كاملة لأنه يؤدي حالات الشاعر كلها والحدث كله ويموسق الأداء دونما موسيقى تصويرية ويرسم الصورة كاملة دونما رسم بالإضاءة والمنظر.

ألم يكن ذلك شرطا من شروط المستحيل؟!

بعض الشعراء يقرءون في ليالي السمر حتى في أكثرها خصوصية وإلفة وتقاربا. لا أظن أن لمحمود درويش رغبة القراءة في مثل تلك اللحظات .. ولا أدري، لكنني هكذا أظن، لأن المسافة بين موقع الأداء وموقع الجمهور لها حساب في قوة المشهد الشعري عموما وعند محمود درويش بشكل خاص. أن تكون بين المتلقين أو أن تكون على مسافة منهم بكل ما تعنيه المسافة سواء بالمعنى الدرامي أو غير الدرامي!

وبالمقابل، لو تصورت إن محمود درويش يقرأ شعرا أمام مائة ألف مشاهد في مسرح ليلي مفتوح، لا أظن أنه سيرتقي لا بقصيدته ولا بأدائه، فكلما عظم وعي المتلقي كلما اكتملت القصيدة وتألق الأداء، لأن وعي التلقي يصبح مفردة من مكونات المشهد الشعري، وسعة مشهد التلقي يسقط عظمة الوعي بالضرورة!

في الصورة الشعرية لو تأملتها في شعر محمود درويش تعرف أن الوصول إليها كتابة أو أداءا، تسبقها دائما مكونات حدثية ومشاعر ورؤى تقود إلى تلك اللحظة، وهذا متأت من بناء درامي شاعري يتجلى أكثر في المطولات الشعرية لمحمود درويش التي يمكن النظر إليها نظرة بنيوية بالمفهوم الدرامي للبناء فالذروات المتتالية في القصيدة الشعرية يسبقها تصاعد في الحدث وتتبعها استراحة أو فسحة من التأمل تقود إلى ذروة تالية مع تصاعد في الأحداث والذروات وصولا إلى ذروة النهاية، وكلها مبنية بناء محكما وزاخرا بالصور حتى أنني وأنا أستمع إليه مؤديا أرى الشعر مرئيا بكل مكونات الواقع مرئية في المشهد المسرحي والسينمائي بمعنى الواقع مع لغة التعبير عنه بكل مفرداته الفكرية والفنية الجمالية.

هل يتمكن المأخوذ باليقظة إزاء العصر وغموض الوجود أن يقف مسترخيا في الأداء مثل محمود درويش، مستخدما صوته ويديه وأنامله وخيوطا من المغنطة ما بين حدقتي العينين ونقطة ما داخل المكان المكتظ بوعي التلقي؟

أنها لحظات تشبه خروج الغواص من عمق البحر المزدحم باللون والعشب والحيوات المبهرة والأوكسجين، ثم الظهور إلى ما فوق الماء مزهوا ومسترخيا كمن فاق من حلم جميل .. تلك هي لحظة الاسترخاء وهي ذات اللحظة التي يولد فيها الشعر مكتوبا ثم يتلى أداءا كما عند محمود درويش.

كثير من الشعراء لا يتقنون فن الأداء، أو يصار إلى تقليد الممثل الفاشل في أدائه، لكن محمود درويش يمتلك موهبة استثنائية في قراءة شعره وهي سمة التطابق بين شعره وأدائه. فموهبة الأداء لا تقل أهمية عن موهبة الشعر، والذين لا يجيدون قراءة شعرهم لا يمتلكون بالضرورة موهبة التعبير، فهل إن الموهبتين متلازمتان، أم أن موهبة الأداء شأن منفصل عن موهبة الخلق والإبداع؟

هنا يمكن القول بأن قوة الأداء للشاعر وقدرته على تجسيد الصورة الشعرية صوتا وحضورا تجعل من شعره أداة تعبيرية إضافة إلى مكوناتها الحسية، وإبقاء الشعر في كتاب مغلق فإن المتلقي عندما يقلب أوراق ديوان الشعر لا يستطيع الارتقاء إلى موهبة الشاعر، فجمال الأداء والقدرة على امتلاكه يختصران مسافة الوعي بين المبدع والمتلقي، ولكن هذا قد يضعنا أمام معادلة محيرة بعض الشيء، فالقول أن الشعر لا ينبغي أن يبقى مكتوبا، يسحبنا للسؤال كيف نقرأ شعر من رحلوا وكيف نقرأ شعرا مترجما لشاعر من شعراء الهنود الحمر مثلا وفق اشتراطات أداء الشعر المكتوب؟! في مثل هذه الحالات فإن التلقي يبقى ناقصا، فالشعراء الراحلون كانوا يقرءون شعرهم في احتفاليات الشعر مثل المربد، فقراءة الشعر هي ظاهرة متوارثة ولكن اختلفت وسائل التعبير وأمكنته. وظهور الصورة والصوت المتزامنتين تقودنا إلى معرفة إننا في عالم الحداثة، وهذا الحداثة التي اكتملت بعض شروطها في الحياة الاجتماعية تشكل التقنية إحدى ملامحها ما يدعونا لتحويل كتب الشعر إلى شرائح بصرية متقنة التنفيذ فنيا وجماليا عبر لقاءات من القراءات الشعرية تتسم باحترام أناقة الشعر في وضع الكاميرا والإضاءة والصوت في مكانها اللائق دون أن تخدش صلاة الشاعر في أدائه بحيث يصبح تسجيل الأداء جزءا مكملا للعملية الإبداعية. أما الشعر المترجم من وإلى اللغات فإنه يبقى شعرا آخر وقد يكون فيه المترجم شاعرا، لكنه غير صاحب القصيدة في كثير من الأحايين!

في حالة الشاعر الكبير محمود درويش فإن لشخصه شاعرا وفنانا مكانة ينبغي الوقوف عندها كثيرا والعمل على فرزها لتبقى وثيقة مرئية ومسموعة في مكتبات العصر الثقافية مع حنان الكتاب وتأريخه الطويل في صداقات البيوت المهذبة.



* سينمائي عراقي مقيم في هولندا



 

free web counter