الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

السبت 19 / 5 / 2007

 


 

 شاعرة وقراءتان
 

جمال جاسم أمين

بعد أن أتمت الشاعرة (فليحة حسن) مراسم زيارتها لمتحف الظل في ديوانها الثالث وهي زيارة سرية لا تتم إلا عبر اتفاق الذات ولغة الإشارة التي اعتمدتها في المجموعة ، أصدرت كتبها التالية ومن أبرزها (ولو بعد حين ) ......... (إن لمتحف الظل ) مزاجا كتابيا خاصا أطلقنا عليه في دراسة سابقة (صدمة البدايات) حيث كانت الشاعرة تعمد إلى التكثيف ما تريد قوله في الجمل الأولى أو التصديرات التي نطلق عليها (التنصيص) عبر لغة استفادت كثيرا من أبنية الأداء القرآني والكتابات الصوفية التي تغلب الحدس على العقل والبرهان ولعلنا ندرك هذه المسالة بدءا عبر الإهداء الأول للديوان :
لي وله ولملكة الليل ...
اعتقد إننا أكثر من ثلاثة؛
إن مثل هذا الإهداء ينطوي على بلبلة حسابية مقصودة /الثلاثة أكثر من ثلاثة / وهي بلبلة نابعة من الاستيطان الخاص للشاعرة لا من المعرفة الرياضية المحسوبة أو الاستنتاج كما نطلق عليه ..لقد كانت القصائد في (متحف الظل) إفضاء دلاليا شاسعا عبر تقابلات ابتكرتها الشاعرة وكررتها على طول مساحة النصوص وبما يشبه الأزمة حيث كل باب يقودك إلى ظل مثلما (تقود الدروب الدروب ) على حد تعبير الشاعرة .
.أما في ديوانها الثاني (ولو بعد حين) ينتقل الأداء عبر قصيدة الحرب حيث يمكننا أن نعد القصائد في هذا الديوان على إنها قصائد حرب بامتياز ونعني بذلك التوصيف الفني لقصيدة الحرب لا التسجيل العرضي /التاريخ/هذا المطب الذي وقعت فيه الكثير من التجارب.. بإمكاننا إن نستدل على منحى الحرب في متون قصائد الديوان بدءا من العنوان(ولو بعد حين) حيث إن (لو ) بتعبير النحويين (حرف امتناع لامتناع )الأمر الذي نؤوله في هذا السياق على انه ليس (الامتناع )بالمعنى النحوي فحسب بل هو امتناع الحياة في زمن الحرب /امتناع الوجود الذي خلف فراغا لا يملؤه شيء سوى الرماد الذي غلف (وطنا ملوثا بالحروب) .
لقد استطاعت الشاعرة في هذه القصيدة (احبك .... والوطن ملوث بالحروب) أن تحقق توازنا بين القصيدة وأفكارها إذ قسمت القصيدة إلى مفاصل معروفة في الأغاني الشعبية العراقية (موال/ أغنية) لتستحدث من بعد ذلك بعدا آخر ا (الصدى) وهنا نسال :لماذا هذا التقسيم ؟هل يمكن تفسير ذلك من خلال اعتراف الشاعرة بالنص (نتسربل باليأس منقسمين على أنفسنا) ؟ نعم عندما تنقسم الذات أو تنكسر فكل شيء يجب أن ينكسر بما في ذلك القصيدة ؛فليس من اللائق أن يحافظ مبنى القصيدة على تماسكه وهو يُكتب بأنامل إنسان منكسر .. كما نجد إن هناك أكثر من مفارقة تعزز معنى الانكسار في مقطع القصيدة الأول (أغنية )/ أغنية تتسربل باليأس / اليأس –هنا- هو الأغنية والصفحات (صفعات) حيث تستفيد الشاعرة من التجنيس البلاغي لقلب المعنى وتأثيث فضاء المفارقة ، ثمة شيء آخر ينبغي الانتباه إليه في فضاء الانكسارات هذه إذ نجد أن إيقاع القصيدة ينتقل من إيقاع واحد تلتزم به القصيدة كلها مما يؤكد دلاليا أن القصيدة التي تنقسم على ذاتها والمكتوبة بأنامل إنسان كسرته الحروب لا يمكن إن تؤدي بصفاء إيقاعي تام بل لابد لهذا الإيقاع أن ينكسر هو الآخر وبذلك يتحقق التواؤم أو التوازي بين الأداء والمضمون عبر مناورة شعرية ناجحة تؤكد وعي الشاعرة لأدواتها ومعرفتها الدقيقة لما يتطلبها الأداء الشعري في مثل هذا الموضع ، فليس من باب المصادفة –مثلا –أن يبدأ مقطع (الصدى ) بجملة (هذا زمان الريح ) باعتبار إن لا قيمة لأي صوت أو صدى بلا (ريح) تحمله ، الأمر الذي يؤكد أن الشاعرة فليحة حسن تصل إلى مدلولاتها بأقصر الجمل وأدق التعابير عبر لغة مختزنة وواعية يتحقق فيها التوصيل دون الوقوع بالمباشرة الفجة وهناك كما نعرف فارق فني كبير بين المباشرة والتوصيل كما إن هذا الوعي في الكتابة يقف بالضد من أكداس الكتابات المجانية التي طغت في شعرنا العراقي تحت تسمية (قصيدة النثر) وهي بالتأكيد كتابات مفرغة من أي قيمة ولا صلة لها بهذه القصيدة .
إن معنى الحرب في ديوان الشاعرة لا تنحصر في القصائد التي تتبنى موضوعة الحرب بشكل مباشر بل أن كل قصائد الديوان حتى التي تحمل عناوين تبدو محايدة نجد إنها تعود إلى الموضوعة ذاتها ففي قصيدة (الوجه الآخر للرماد) نجد - مثلا - هذا التلازم الصارخ/تلازم المعنى والدلالة لا تلازم الصوت والتجنيس فقط عبر دائرة مغلقة : الرصاص
الخلاص الخلاص
الرصاص
ثم هذا التقطيع الذي بدا بالحروف الأولى من المقاطع :
غ
غ
غ
غربة في المرايا
غربة في البيوت
غربة في الشوارع /غربة في المدن

ما الذي جعل (الغين) في مفردة (الغربة) تتكرر في بداية المقطع بطريقة تثير العسر ؟ كتابة مقطعة ... الآن الحرب بحد ذاتها مقص كبير/ مقص ينقطع معه كل شيء بما في ذلك الكلمات ؟ويتكرر الأمر مع مفردات أخرى في القصيدة مما يؤكد المعنى ذاته ... انه إشارة إلى عدم التماسك والعسر في النطق أو ما نطلق عليه(الحبسة) والحبسة –هنا- ليست خللا بايلوجيا في وظائف الصوت بل هي أزمة فضاء يذهب إليه الصوت / هل هذه كل الحرب ؟ إنها بالتأكيد أكثر بل هي ذلك الحزن الذي نستشعره على طول مساحة قصائد الديوان لنقرا –مثلا- في (همسة ) / همسة من ؟
ارفل بالحزن ممسكا بدمي
المعلقون بأنياب الشاهدة ...
أصدقائي احتاط بجلد الماء وأنا أشير إليهم
أنها تشير للمقابر / لأكداس الجثث و(الوالد ) الذي باعته الحرب للكنات .. لقد أضاءت الشاعرة في ديوانها (ولو بعد حين ) جوانب مهمة من موضوعة الحرب التي هي إحدى المهيمنات المضمونية في القصيدة العراقية الحديثة / القصيدة التي لم تقرا نقديا بعد ، كما إن مصطلح (قصيدة حرب ) يحتاج إلى الكثير بغية ترصينه وترسيم حدوده النقدية والجمالية .. ربما سيحدث كل ذلك ولو (بعد حين ) كما تقول الشاعرة .