الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأثنين 19/3/ 2007

 


المدى - آراء وأفكار

الحقيقة كما عاشها الحلوائي

محمد علي محي الدين

من التقاليد الرائعة لدى الساسة والمفكرين ، والزعماء والقادة العسكريين، والمشاركين في الأحداث العامة، أو صناعها، كتابة المذكرات، وتختلف المذكرات من واحد الى آخر، تبعا لطريقته في السرد، ومكانه من صدق الكلمة، وجدية الطرح، وكم من المذكرات ما كانت وبالا على أصحابها، لما حوته من المغالطات، وفضح لأسرار خاصة كان الأولى التستر عليها، وإبقاؤها طي الكتمان لما فيها من أمور لا يصح التصريح بها، أو الإفصاح عنها، مما هي ضمن المحظورات في الجانب الأخلاقي منها على الأقل، ولكن هكذا كان يصدر بعضها، وهو يحمل في طياته من العجر والبجر ما لا يمكن الركون إليه، والأخذ به، على ما لأصحابها من الاحترام في نفوس الآخرين، ولست في هذه العجالة ملزما بالإشارة إلى هؤلاء، ولكن القراء الكرام يعرفون الكثير منهم، وما هذه المقدمة ألا تمهيد لما أود الإشارة إليه في مذكرات الأستاذ جاسم الحلوائي، المناضل الجسور، والشيوعي الأصيل، الذي بوأه جده واجتهاده، الصعود إلى قمة الهرم في الحزب الشيوعي العراقي، لجهاديته الرائعة، ومواقفه المعروفة في سنين النضال.

ولقد كان لانحداره الطبقي، أثره الواضح في مجمل سيرته النضالية، ونلاحظ عمق تأثير هذا الانحدار في سلوكياته بمختلف الظروف والأزمان، وربما لهذا الانحدار أثره في ابتعاده عن الإسفاف الذي عرفت به الطبقات المترفة، أو الأرستقراطية، لذلك جاءت مذكراته بسيطة بساطة الحقيقة نفسها، بسردها الأحداث كما هي دون ر توش أو تزويقات الفها البعض في كتابة المذكرات، أو ابتعاد عن ذكر ما يسيء لهم أو لمواقفهم فيها.وسأمر مرور الكرام، دون الدخول في تفاصيلها وما حوته بين طياتها، ففيها الكثير مما يستحق الوقوف عنده في إطراء أو إضافة أو توضيح، لولوجها في فترات حرجة من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي عبر مسيرته الطويلة، ولعل ما ظهر لي بعد القراءة الأولى يدفعني الى القول دون خشية، أن بعض الحقائق الواردة فيها، صححت الكثير مما علق في ذاكرتي من أخطاء لمستها في مذكرات بعض من كتب عن تلك الفترة، فقد أورد البعض أمورا تمثل وجهة نظرهم، حاولوا من خلالها تبرير الأخطاء والهفوات برميها على عاتق الآخرين، للخروج سالمين من تبعاتها، في الوقت الذي كانوا في القمة من المشاركين في صنعها، ألا أن الأستاذ الحلوائي لم يحاول التنصل عن خطأ أو هفوة، بل بين مسؤوليته عن جميع الأخطاء وتحمله لتبعاتها، رغم أنه ليس في الصميم منها، أو السبب فيها، ولكنها المسؤولية الجماعية التي تعني المشاركة في الغنم والجرم، والخطأ والصواب، وما أحرى الآخرين أن يحذوا حذوه، وينهجوا نهجه ، فتلك لعمري مزية الكاتب الأمين.
ولابد لي من قبل الخوض في التفاصيل، بيان مزايا هذا الكتاب الصادر عن دار الرواد المزدهرة للطباعة والنشر، وخلوه من الأخطاء المطبعية، وهذا أمر نادر الحدوث في المطبوع العراقي سابقا، تستحق عليه ـ هذه الدار ـ الحمد والثناء، والإجلال والإكبار، رغم أن كتابة العنوان وتصميمه من الفنان فيصل لعيبي ، كانت دون المستوى المطلوب، فهو أشبه بالأحجية، وكتابة الحروز التي يلجأ إليها السحرة والمشعوذون، يتعذر قراءتها ألا بعد التدقيق والتحقيق، رغم إعجابي بأخي الفنان وقدرته على التصميم والإخراج، ولعل لغيري رأيه المغاير، ألا أن ذلك ما تبادر إلى ذهني بعد قراءتي للغلاف.
ومن ملاحظاتي الأخرى حول الكتاب:
1ـ يلاحظ القارئ وجود فترات متقطعة لم يجر الكتابة عنها، رغم أن تلك الفترات حافلة بالنشاط والحيوية، ومزدحمة بالأحداث التي تدعو طبيعة المذكرات إيراد أحداثها، وبيان تفاعلاتها وتأثيرها، ورأيه في الأمور التي رافقتها، لكونه من صناعها والخائضين في غمارها، لما في ذلك من استجلاء لنقاط جديدة قد تنفع الدارس والمؤرخ لأحداث تلك الفترة.
2ـ الملاحظ أن الأستاذ الفاضل، قد جعل لمذكراته عناوين فرعية، استدعته الى تغيير السياق التاريخي السردي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، عند خروجه من السجن بمرسوم العفو الصادر من حكومة الثورة في آب/1958 ، أنتقل إلى أحداث آذار 1959 ، بفصل عنوانه الاصطدام، أورد في بدايته حكاية الخلاف بين فرع الوطني الديمقراطي في كربلاء، ومنظمة الحزب الشيوعي، ثم عاد لتسلسل الأحداث، ودوره في بناء المنظمة بعد خروجه من السجن، وكان عليه متابعة سرد الأحداث وما قام به من نشاط في بناء المنظمة وتفعيل نشاطها في تلك الفترة، حتى الوصول إلى ما رافقها من اصطدام مع الآخرين، ولعل هذا الخلل نابع من نشره مواضيع المذكرات على شكل حلقات منفصلة، لأحداث مختلفة، كان عليه أعادة صياغتها لتأخذ مداها التاريخي في السرد والتسجيل(ص64 وما بعدها).
3ـ كذلك العنوان الرئيسي الوارد ص47 (عشية ثورة 14 تموز) فقد سرد مذكراته اعتبارا من انتفاضة تشرين 1906 ، رغم ان السياق السردي للأحداث كان متصلا، ألا أن هذا العنوان السابق لأوانه جعل القارئ في حيرة، ولو كان العنوان(مقدمات ثورة تموز) لا عشيتها، لكان أحرى بالقبول، لأن عشية الثورة تعني قبل ليلة من حدوثها، ولكنه سرد أحداث أكثر من سنة ونصف قبل الثورة، وهو ما جعل العنوان في غير محله.
4ـ تحت عنوان الهروب من معتقل خلف السدة ، أورد مداخلات زواجه، وابتدأ الموضوع بتعهده لزوجته بالهروب في حالة إلقاء القبض عليه، ثم أورد بدايات تعرفه بها، وكان الأولى أن تكون هذه الفقرة في سياقها بعد الزواج، لا أن تكون مقدمة للموضوع، وهذا الارتباك في التسلسل أثر بشكل سلبي على المذكرات.
5ـ رغم هذه المآخذ ـ على فرض وجودها ـ ألا أن في المذكرات جوانب ايجابية حرية بالتبجيل والإشادة، فقد أدلى برأيه في أمور شائكة يتورع الكثيرون عن الخوض بها، منها ما رافق بعض الفتاوى التكفيرية وبواعثها والأسباب الكامنة وراءها، ورغم أنه أوضح الشيء الكثير، الا أن ما لم يكتب أكثر والسكوت عنه أجمل وأحسن، في مثل هذه الظروف، ولكن مجرد الإشارة كان إضاءة لماحة لواقع نحاول تجاوزه ونسيانه لأسباب ذاتية وموضوعية، قد تزول في يوم من الأيام فتظهر الحقائق كما هي، وتبان الدوافع الكامنة وراء الكثير من الحوادث التي رافقت تلك الفترة، بإرهاصاتها المختلفة وحوادثها المثيرة، وهو ما سجلته في أوراقي مشفوعاً بالأدلة والأسانيد.
6ـ لعل ما هو حري بالإعجاب والإكبار، ادلاء المؤلف بآراء سديدة حول الوضع الراهن وآفاق المستقبل، في ظل الأحداث الجارية في العراق، فقد كان لإشاراته المختلفة، واستنتاجاته في ضوء الواقع، وما حدث في دول أخرى، ما يعين الآخرين في تلمس الطريق للخروج من الأزمة الحالية التي تأخذ بخناق المواطن العراقي، ورغم إن المذكرات تسجيل لماضي غابر، ألا أنه حاول استشفاف ما يعين على دراسة الحاضر بكل إرهاصاته وتقلباته، والطرق الكفيلة بمواجهته وفق رؤيا صائبة بنيت على أسس من الواقعية المطلوبة في مواجهة الأحداث، ولعل جرأته، في كشف ما جرى ويجري في دول مجاورة، كفيلة بتحذير الآخرين من المرور بنفس الحالة التي عانى منها الآخرون، وعدم تكرار الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها بعض الحركات السياسية لعدم قراءتها للواقع بصورة صحيحة، ما أدى إلى وقوعها فريسة سهلة بأيدي القوى الرجعية والمتشددة، وعلينا الاستفادة من تلك التجارب المريرة وأخذ العبر منها، للخروج من عنق الزجاجة التي تمر به الحركة الوطنية والديمقراطية في العراق.
7ـ لعل أوضح ما ظهر للعيان في هذه المذكرات، أن مدرسة الشيوعيين العراقيين، رغم ظروفها المادية الصعبة، تمكنت من تخريج أساتذة في التحليل السياسي، يتعذر على الدارسين المنهجيين الوصول إلى مستوياتهم في التحليل والدرس، فالأستاذ الحلوائي لم يصل بدراسته المنهجية إلى ما وصل إليه حملة الشهادات العليا في الأدب واللغة والسياسة، الا أن مدرسة الحزب تمكنت من أبراز طاقة رائعة في الاستنباط السياسي بلغة عربية سليمة، ومنهجية واضحة، يحسده عليها الكثيرون، وهذه المدرسة خرجت المئات ان لم يكن الآلاف ممن هم على شاكلته، ولعلي مدين بالجانب الأكبر من ثقافتي السياسية والعامة، لهذه المدرسة الوطنية، التي أصبحت علامة بارزة في تاريخ العراق الحديث.
8ـ المزية الأخرى لهذه المذكرات أنها اعتمدت على الشهادات الحية، واستجلاء آراء الآخرين فيها قبل طبعها، ما جعلها صادقة في طروحاتها، أمينة في نتائجها، راسخة في تناولها، لم تعتمد الحدس والتخمين، أو الرواية البعيدة عن موقع الحدث، فاستعان المؤلف ببعض المطلعين والقريبين لتدعيم ذاكرته، وإعطاء الأمر مصداقية أكثر، لصدوره عن مطلع عارف ببواطن الأمور.
9ـ قد يحاول الكثيرون التغطية على الأخطاء والتجاوزات، وإسباغ بعض التوصيفات عليها، الا أنه تجنب هذه الأمور، وطرح الوقائع كما هي بمصداقية عالية، ظهر ذلك جليا واضحا في موضوعة الديمقراطية في الحزب الشيوعي، حيث لم تفعّل تلك الديمقراطية في الحزب رغم أنها من صميمه، وخصوصا في الانتخابات بسبب طبيعة العمل السري، والظروف التي عمل فيها الحزب، الا أن ذلك لا يعني انعدامها كليا، حيث كان للكثير من القرارات طابعها الديمقراطي السليم، وخصوصا عند توفر الظرف الملائم لتطبيق الديمقراطية، وأن ظهور بعض القيادات الفردية كان بسبب طبيعة الظرف السياسي غير الملائم لظهور القيادة الجماعية، أما في فترات العمل العلني، فالديمقراطية هي المعيار في اتخاذ القرارات، وإقرار المواقف الخطرة للحزب، وتجلى ذلك واضحا في رفض خط آب التصفوي، عند الاعتراض عليه من بعض أركان القيادة والقاعدة، ومنذ مؤتمر الديمقراطية والتجديد، سار الحزب بخطوات واسعة في تفعيل الممارسة الديمقراطية في عمله الحزبي، ومازال عليها وأصبحت السمة البارزة لعمله في مختلف المستويات.
10ـ لعل القارئ الكريم يشاركني الرأي ، بأن مذكرات الحلوائي حفلت بالكثير من الدروس والعبر، التي علينا الاستفادة منها في الظرف الراهن، ولعلها ستكون دافعا للآخرين في كتابة تجاربهم وذكرياتهم، لأغناء الأجيال اللاحقة بالخبرة، والاستفادة منها في البناء الجديد للحزب، لأن تجارب القادة السياسيين درس رائع وممتع ومفيد يستلهم منه الآخرون دروسا في النضال والتضحية من أجل المباديء والمثل السامية، التي يناضل من أجلها الشيوعيين، ولا يسعني في الختام ألا إزجاء الشكر والتقدير لدار الرواد المزدهرة على ما قدمت من زاد فكري وجهد مشكور في الطباعة، وأن تكون إصداراتها بالمستوى اللائق باسمها الكبير في عالم المعرفة، وأن تكلل جهودها بالنجاح ودوام التقدم والازدهار.


المدى - 19 /3/ 2007