|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |

 
 

                                الأحد  1 / 3 / 2015                                                                                                                     الصفحة الثقافية

 
 

 

في ملكوت الظلام

د. سالم عوض رموضه

صدر للأستاذ الدكتور حسن البياتي القاطن حاليا في عاصمة الضباب مدينة لندن ديوان شعر جميل بعنوان "في ملكوت الظلام" عن دار الفارابي في طبعته الأولى عام 2008م. ورغم أنه أهدى إلي نسخة من الديوان حال ظهوره غير أنني لم أتصفح ذلك الديوان المميز إلا عبر نسخته الإلكترونية حال إشعاري بذلك من قبل المؤلف الأخ العزيز الشاعر المرهف الذي ربطتني به صداقة حميمة ما انفكت عراها رغم تباعد الأمكنة وتباين الظروف وتضارب الأهواء السياسية.

كان صباحا اكتوبريا منعشاً من عام 1998م عندما دخل مكتبي المتواضع في الدور الثالث من عمارة سكنية مستأجرة لمقر رئاسة جامعة حضرموت عند بداية إنشائها في منطقة بديري بالمكلا أستاذ جليل يعكس وجهه وقار الأستاذية وتنم حركات هيئته الفارعة النحيلة عن تواضع العلماء وأدب الشعراء الحساسين. قدّم نفسه بعد السلام أنه استاذ الأدب العربي في كلية التربية بسيئون, وكنت حينذاك نائباّ لرئيس الجامعة المغفور له بإذن الله الأستاذ الدكتور علي هود باعباد ومختصاّ بالشؤون الأكاديمية وعلى وجه الخصوص متابعة قضايا أعضاء هيئة التدريس في الجامعة الوليدة.

جذبني اسم الضيف القادم من العراق فبعد أن رحبت به وتفهمت القصد من زيارته تلك, سألته عن مدى قرابته من الشاعر الكبير عبدالوهاب البياتي إذ كان شباب جيلنا مغرما بأشعاره وأشعار قرنائه أمثال بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ومحمد الفيتوري ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وفدوى طوقان وعمر أبو ريشة ولطفي جعفر أمان وعبد العزيز المقالح وغيرهم من شعراء الجيل كثير. أكّد لي بأن هناك صلة قرابة بينه وبين ذلك الشاعر الراحل. إذن قد تكون أنت شاعراً مثله؟ فاجأته بهذا السؤال, فردّ بالإيجاب بكل أدب جم. كانت بحوزتي مصادفة في تلك اللحظة قصيدة يتيمة من جملة قصائد احتفظ بها لنفسي وليس في نيتي على الإطلاق نشرها على الملأ لأسباب كثيرة. منها إن تلك القصائد هي أقرب للخواطر الشخصية والانطباعات الذاتية ولا ترقى لمستوى أي صنف من أصناف الشعر الذي نعرفه عن أسلافنا. فالشعراء في نظري هم من شاكلة طرفة بن العبد الذي كنا نحفظ معلقته في الثانوية العامة بمدرسة حنتوب بواد مدني في السودان عندما بعثنا إليها أبان السلطنة القعيطية ومن أمثال البحتري وجرير وأبي تمام والمتنبي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومن جاء بعدهم من شعراء العصر الراهن والذين ذكرت بعضهم آنفاً.

ناولت الضيف مسودة القصيدة راجيا منه أن يحكم عليها من باب أني أحد تلامذته وليس لي الصبغة الرسمية حتى لا يكون حكمه به نوع من التحفظ. استغربت أنه بعد أن تمعّن في قراءتها يجيزها بل ويطلب مني نشرها وكان ما كان عندما كتب مقدمة جميلة ضافية لأول ديوان أصدره بعنوان (باب اليمن) بعد مراجعته من لدنه وقد تولت عملية إصداره مؤسسة العفيف الثقافية على صاحبها ومؤسسها أحمد جابر العفيف من الله سبحانه وتعالى شآبيب الرحمة وواسع المغفرة. وقد تضمن الديوان قصيدتين مهداه للشاعر الأولى بعنوان (إلى صديق) مؤرخة في شهر نوفمبر بعد أقل من شهر من أول لقاء مع الأديب الصديق, ردّا على قصيدة أهداها لي الشاعر وقد قلت في مطلعها:

صاحِ قد شرّفني إهداؤك الراقي بأبيات مطُلّة
يوم يمّمت المكلا
نازلاً في أرضنا أهلاً وسهلا

والقصيدة الأخرى بعنوان (بوح حزين) مواساة للصديق الشاعر في محنته القاسية أثر الحادث الأليم الذي ألم به وكان مطلع القصيدة:

نشدّ الرحال إليك غداّ
يا أغلى حسن
فنحن أُناسٌ يدين كلانا لهذا الزمن

وكان لا بد من زيارته على التو في مدينة سيئون للاطمئنان على حالته الصحية بمعية أستاذ فاضل آخر ولكن في تخصص تربية وعلم نفس وهو الأستاذ الدكتور محمد محمود الخوالدة من الأردن الذي كان أستاذا زائراّ بكلية التربية بالمكلا.

هذه المقدّمة كان لا بد منها قبل أن أورد مقالتي حول الديوان ( في ملكوت الظلام ) محور المقالة نفسها. ولا أزعم لنفسي بمنتهى الصدق والوضوح في هذه العجالة مقاماً أكبر من مقام التلميذ لأستاذه. الديوان انطلق كما يقول الشاعر نفسه من قبو الظلمة إلى باحة النور في لندن مطلع عام 2008م واستهلّه بقصيدة جميلة مؤثرة ومعبّرة عن محنته ورضائه بقدر الله وقضائه تحت عنوان (سبعة أعوام في ملكوت الظلام) لم أمل من قراءتها عدّة مرات فهي جميلة للغاية فيها من التوق لباحة النور في الغد الآتي وحنين لبلاده العراق بتربته الطاهرة ونسماته العليلة. صوّر الشاعر ذلك الغد كشاعر تجتاح أنغامه وأشعاره أقصى الصعوبات والمعوقات. إننا نعتقد بأن ذلك اليوم سوف يأتي بإذن الله وبفضل الطب المتطوّر والعلم الحديث, وكأني بالشاعر المرهف الحس يتصوّر مقدم ذلك الغد الحنون في هديل الحمائم وخرير السواقي وحفيف سعفات النخيل وكلها صور جميلة من البيئة العراقية الجميلة كما خاطب فيها دجلة والفرات في مشهد عاطفي نبيل.

وفي قصيدة جميلة أخرى من الديوان يصور الشاعر نفسه كالعندليب المنزوي خارج السرب, ولست معه في هذا الوهم فهو العندليب الذي يصدح بأنغامه للسرب كلّه الملتف حوله تقديرا وامتنانا وإعجاباّ.

أما قصيدة الكابوس رغم عنوانها المتعب فهي رائعة وبديعة صوّر فيها المشهد السياسي في العراق بحكمة وموضوعية. انتقد النفاق السياسي الحاصل في أرض الرافدين وطائفة التكتلات الانتهازية تحت مسميات الائتلاف والتوافق وغيرهما. كما حذّر بكل شجاعة من خطر الخارج المتمثل في طقوس وكهنوت الملالي ومؤامرات اليهود وكيدهم للأمة العربية, كما حذّر كذلك من زرع بذور الفتنة بين طوائف العراق وأثنياته التي عاشت متلاحمة متوائمة قروناّ من التسامح والتعايش السلمي.

تضمن الديوان مجموعة لا بأس بها من القصائد التي كتبت في سيئون وصنعاء وغلبت عليها الناحية العاطفية وارتباط الشاعر كأب وكجد بأبنائه وأحفاده وأسباطه وظّف فيها القافية ووجهها صوب الدلالات الطفولية ومنها (رسالة أخرى من سيئون) لفلذات أكباده جميلة وعلي وسوسن وتارة في قصيدة أخرى تحت مسمّى (كنوزي الثلاثة) وخصّ سوسن فيها بأنها آخر العنقود وقصيدة (إلى ولدي علي) بثها بحب وشوق من أحد عنابر الجراحة في المستشفى الاسلامي بمدينة عمّان. وقصيدة أخرى في نفس السياق (إلى مريم) حفيدته المريضة في البصرة, التي عمل أستاذا مؤسساً في جامعتها. بيد أن قصيدة (ثلاثة مزامير من سفر الطفولة) التي اتسمت بصياغة ذات طابع طفولي فرائحي كان لها أثر إضافي يتعلق بي شخصيا ففيها قصيدة جميلة ذات ذكرى أجمل لأبنتي فاطمة التي شاهدها في المكلا في بيتي المتواضع عندما دعوته لتناول الشاهي وكان عمرها وقتذاك لا يتعدّى العامين, إضافة لبقية المزامير الفرائحية حيدوري وحسّوني وزنوبة وزومة ومريومة. كما لم ينس الشاعر الصديق أن يزرع في جنائنه الشعرية المتعدّدة زهرة من جنينة المكلا باسم (جميلة الحضرمية) ضمن (سبع زهرات من جنائن شتّى).

وشمل الديوان كذلك قصيدة رائعة بعنوان (هواجس) أهداها للشاعر اليمني ع.م. وأخاله يقينا يقصد الأديب والشاعر اليمني الكبير عبد العزيز المقالح, انتقد فيها عادة مضغ نبتة القات عند اليمنيين ولكن بطريقة مهذبة جداً, فهو يقول أنه لا يخزّن القات حسب المصطلح اليمني أي يمضغه ولكن إن أحرج ومضغه فهو لا يقول لصاحبه ما أعذبه فما أروع هذا التعبير الآسر.

وإن كنت أجد صعوبة وغصّة في التعليق على بعض القصائد التي يشكو فيها الشاعر حزنه وتوجعه فأنا أشاطره ذاك الحزن الأليم والتوجع القاهر فهن قصائد نابعة من القلب والعاطفة صدّر هذه المجموعة بقصيدة (التماس) إلى الشاعر العظيم رهين المحبسين أبي العلاء المعرّي وتبعتها قصائد أروع بعناوين مقصودة مثل (العتمة) و(سارق الأشياء الجميلة) و(المغيّب) و(الحارس) و(استغاثة) و(تعويذة) وغيرها وبطبيعة الحال القصيدة الأم التي وسم بها عنوان الديوان وهي القصيدة التي تصدّرته بعنوان (سبعة أعوام في ملكوت الظلام).

وفي الديوان قصائد جميلة أخرى تناولت شتى المواضيع الاجتماعية والسياسية تلزمها وقفة أخرى ليس مني ولكن من أصحاب التخصص في الأدب والنقد.

وفي قصائد جميلة اختتم بها الديوان منها (رحلة سمعية) هنأ فيها كاتبا عراقياً جاداّ كان بالأمس القريب تلميذه وقصيدة بعنوان (الصبية العمياء) يرجع فيها للزمن الجميل في مطلع خمسينات القرن المنصرم ونشرت في ديوان له (من شفاه الحياة) صدر في بغداد عام 1956م وكان مسك الختام قصيدة (أبتي حبيبي يا عراق), ما أجمل ما صاغ فيها من تعبيرات الحب والشوق والغيرة على أخلاقيات العراق وأهله الطيبين والذود عن شرفه واستقراره.

أدعو الله السميع العليم أن يفك أسر الشاعر الصديق الأستاذ الدكتور حسن البياتي الذي حباه الله برفيقة عمر تشاركه في السرّاء والضرّاء وهي خير مؤنس ورفيق, وأن يطيل الله في عمره حتى يتحفنا بديوان قادم " في باحة النور" إنه سميع مجيب.
 


المكلا في 25 فبراير 2015م
 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter