الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأربعاء 21/6/ 2006

 

 

هذا المقال واحد من مقالات وحوارات عديدة ضمها ملف الشاعر عبد الكريم كاصد الذي أ ُعد إحتفاءاً به في المربد الثالث في البصرة 2006 ، والذي سينشر كاملاً في دوريات ثقافية وكذلك سيصدر في كتاب من قبل وزارة الثقافة العراقية .
أعد الملف وقدم له
الشاعر العراقي عبد الباقي فرج .
Abdulbakifaraj@hotmail.com


عبدالكريم كاصد: اغترابنا كالسائر في الهواء بين أقوام لا نعرفهم


حوار: محمد جعفر

وفي أجوبته عبر هذا الحوار لا يغالط عبدالكريم كاصد رؤيته الشعرية، ولا يفلسف بما يثقل كاهل الشعر، فهو متمسك بقناعة أن للشعر من يحميه ألا وهو الشعر نفسه، بهذا لم يمت المتنبي وأبو نواس وامرؤ القيس، رغم إننا لا نملك نصوصا حوارية معهم حول ما قدموه من إبداع..

-1-

أركض حين يجئ الناس
محتشدين أمام الواجهة المفروشة بالقنفات
أركض مسحورا بين السيارات
أحمل كرسياً
ومصابيح ملونةً للزينة
لكنى أخشى لمسَ مخدّات الأعراسْ
وأخاف النسوة
أسأل أحياناً
هل يتزوّج هذي الأيام الناسْ؟

من قصيدة (أمام موبيليات العرائس)

* كيف ترى دخولك من وهم الطفولة إلى حقيقتها؟ وأي الأشياء تفاعلت في الذاكرة جعلتك تعيد هذا العالم وتلك الخبرة في ضوء الحاضر؟
* كاصد: "من وهم الطفولة الى حقيقتها" هو تعبير للشاعر والناقد محمد الأسعد، اتخذه عنوانا لدراسة له، قيمة حقا، عن مجموعتي "النقر على أبواب الطفولة"، في كتابه "مقالة في اللغة الشعرية"، يقصد به الخروج من عالم الافتراض والإيهام والدخول في عالم التجربة، حيث تلعب الفعالية الشعرية، على حد تعبيره، دوراً محرراً للوعي من رواسب الافتراضات والإيهامات التي تنشئها الثقافة السائدة، وهذا يعني العودة مجددا إلى الطفولة، والتوكيد على أن هذه العودة ليست حلماً بل هي واقع حسي يتجه نحو أحلامه. كتبتُ المجموعة إثر مروري، ذات يوم، في ساعة متأخرة من الليل، في مناطق في البصرة القديمة، لم أطأها منذ زمنٍ طويلٍ، كانت مسرحاً لطفولتي ولأحداثها الغابرة، فاستيقظت وكأنني اكتشفت شيئاً غفلت عنه زمناً. ومنذ ذلك الوقت وأنا لا شأن لي سوى التفكير بهذه المجموعة التي استحضرتْ أحياء وموتىً وأحداثاً غابرةً مظلمة لا أدري من أضاءها: الشعر أم الذاكرة أم كلاهما؟
لم يعد الماضي غائبا بل حاضراً يسكنني ولم يحضر معه الطفل بل المدينة بأكملها: أسواقها المتنقلة مع الزوارق، نوتيّوها المسنّون الذين لم يهبطوا المدن، عشاقها الذين يقودون حبيباتهم إلى الأنهار، عمّالها الذين يقلبون صناديق التمر طبولاً للسمر في الليل لينهضوا ديوكاً صائحةً في الفجر، أكواخها التي يختلط فيها الناس بالزنابير والدجاج والأسماك المنشورة على الحبال كالغسيل، الباحات الرطبة، الأبواب المفتوحة على السراديب. العميان الذين يرقصون حول النيران، المواخير المغلقة، العاهرات اللواتي يرحلن باكيات وسط سباب القوادين وضحك المارة، الأمهات اللواتي يندبن بناتهن القتيلات رغم الفضيحة، الأطفال الذين يموتون، القبور التي تضيء للموتى، البلهاء الذين اخضرّت لحاهم ولم يهرموا، الرواة الذين يعبرون مقاصير (ألف ليلة وليلة) في الأحلام ليدخلوا المصحات في الواقع، جامعات الملح في الصحراء يقلن تحت العباءات المنصوبة بالعصيّ، الحمّالون الذين كنا نكنس طريقهم من الحصى لئلا تنغرس أقدامهم الثقيلة تحت الأحمال، الأطفال الذين يُحملون فوق رؤوس النسوة ملفوفين بالعباءات السوداء في المآتم أيام عاشوراء المقدسة، السجناء الذين يخرجون مصفرّي الوجوه من هواء السجون وهم يتحدثون عن أسماء وأحداث نجهلها نحن الأطفال.دغل كثيف من الواقع: مآتم وأعراس وطفولة لم تستنفد بعد، رغم إني كتبت عنها ديواناً كاملاً هو ديواني الثاني (النقر على أبواب الطفولة) فمازال في داخلي ذلك الطفل يرافقني ويقودني إلى ممالك أبعد.. ربما لم أرها بعد.. لديّ ديوان آخر عن الطفولة مهيأ للطبع بعنوان "فوانيس".

-2-
* البصرة مدينتك التي تصفها "ساعة لا تدق، وجسور من خشب تصل الأعداء بالأعداء، وضريح لا يعرفه غيري "هذه البصرة التي تحترق "بجسورها الخشب، وأنهارها المحفورة بالدمع، وخيولها المربوطة في المساجد، وسفائنها المطلية بالقار" ما الذي تستطيع إعادته في القصيدة؟ وكيف تصل إلى عالم البصرة القديم.. عالم الطفولة المسحور برقصات الزنوج، وغناء الصيادين والبحارة، ورائحة الخليج والغرباء، والنخيل، وعمق التراث العربي الإسلامي؟
كاصد: في قصيدة (كتاب البصرة) تتأكد الوحدة الزمنية التي تحدث عنها الأسعد بجوانبها الأكثر اتساعاً حيث الحاضر يدخل في نسيج الماضي، فلا تفصح القصيدة عن زمنٍ محددٍ للمدينة، إذ يتجاور فيها الناس والأشياء والحوادث وتتداخل فيها الأزمنة، فلا حاضر ولا ماضي بل مدينة تتسع لكل أناسها وأحداثها وأزمانها، وكأن المدينة، في تشابكاتها هذه، تنفي حربها الدائرة وموتها المعلن بل إنها تكاد تنفي واقعها ذاته بكل ما فيه من حاضر وماض ومستقبل، لتحيله إلى طقسٍ أو أسطورة:
"..حين تأتي الريح من جهة الصحاري، يخفضون رؤوسهم للرمل ينتظرون مثل لقالق ملويةِِ الأعناقِ..مرّ الرمل والأعناقُ مطرقةٌ، وجاء الصحو والأعناق مطرقةٌ.. ومرّ ومرّ.. أهلُ البصرة ارتدّوا تماثيلا"
وقد تختفي البصرة في مدينة أخرى: " أم ترى ارتحلتِ بين لغط الأقوام في مدينة أخرى" أو تضيع: "أسواري الحجارة والسماء سفينةٌ تمضي وبيتي النخل أهجرهُ وأنتظر الطريق إليك" أو تعلن موتها وانبعاثها: " أيّ أعاجم مرّوا عليك؟ عساكرٌ رفعت بيارقها وبضع دساكرٍ مُحيت، وأهلي كيف قاموا من مجازرهم يسوّون الثياب (تلطختْ..) ويغافلون الجند؟ أهلي كيف جاءوا بي إلى نهرٍ تيبّس فانتهيتُ إلى خرابك؟ أولَ الآتين كنتُ وآخرَ الآتين، تنقطع السلالةُ فيّ، أبصر في غدي أمسي، فتجتمع القبائل فيك: هذي الرحبة الدهناء، تلك خريبةُ الأعراب، ذلك الجامع المفروش بالحصباء، أين أنا؟"غير أن البصرة-الطفولة تظل حاضرة هناك وسط كل هذه التحولات:
"...هل تأتين بين سلالك الخضراء؟ بين (الببغاوات) الجميلة تنقر الأقفاص؟ في باص الجنوب وضجة العربات؟ هل تأتين؟ أخضرُ ماؤك النهري نستبقيه أياما ونرحل.. (كم وودتُ لوانني استبقيته في الحلم) ماذا لو قلبتُ الليل والساعات؟ ماذا لو شربتُ وصيتي بالماء؟ ماذا لو جلبت الساحر الهندي واستوقفتك الليلة؟... ماذا حل بالبصرة؟"

-3-
وقبل موته بلحظتينْ
أطلّ في الغرفة،
واستدار هادئاً
يكتم في عينيه دمعتينْ
دعوتهُ أن يستريح
ثم نهضتُ خلفهُ
- لأفتحَ الباب -
عثرتُ بالضريحْ

* مرثية (الشاهدة) عن أبيك، هل هي مرثية العراق - الخراب الذي امتد من البصرة ليشمل الأرض والإنسان، أم مبعثها الطفل الذي يكتشف أو يحاول الاكتشاف من خلال الموت الأشياء من حوله ولكن بشكل ساخر وعابث بعالم الكبار؟
* كاصد: حين رثيتُ أبي رثيتُ فيه ما يواجه الخراب، رثيت فيه فضائل الإنسان العراقي البسيط التي أعتقد أنها قوة هذا الإنسان في مواجهة الأحداث، وتقلباتها وشرك المفاهيم وغموضها. لقد فاجأني حقا مأتمه المحتشد بالمعزّين من معارفه وأصدقائه والناس البعيدين والقريبين ممن أعرفهم ولا أعرفهم وهو الرجل البسيط الأميّ. رثيتُ فيه طفولتي التي مضتْ والتي فقدتْ أعزّ شهودها، ويفاعتي أيضا إذ كان لي صديقاً أو ابناً- إن شئت – "وكنتَ لي الصغيرَ تعاشر الجيران". رأيت من يدخل مجلس العزاء ويركع لينتحب أمام الناس، وهذا ما لم أره في أي مجلس عزاء آخر، والأغرب من ذلك أن هؤلاء الباكين، لم التق بهم من قبل.
" ليقبل المرضى إلى وليمتي
وحاملو الأطباق، والوحش الذي يلعق ركبتي، والمشيعون، والمجللات بالسواد، والنائحة الخرساء، والأجيرة المطلية اللسان، والعصا، وغاسلوه (حين مسحوا عن وجهه الماء بكى) وشجر الكافور والسدر، ودمعُ القارئ الأعمى، وماءُ الورد، والعمائم الخضراء، والأطفال، والمنتحبُ الراكع ذو العقال (لم ير الجسر الذي أوصله للبيت مغشياً عليهِ..)، والمعاولُ السوداء، والمواقدُ المنصوبة الأحجار، والنيران، والأحذية الرطبة، والماء الذي يقطر من سرادق العزاء،
والنائم في العراء
والدموع
ليقبل الجميع
فلن يجئ...
لن يجئ
رأيت أناساً يتقدمون مني ليفضوا لي، شفاهاً أو كتابةً، ما صنعه أبي من جميل لهم، أحدهم قال لي إنه كان موقوفاً لم يكفله حتّى أخوه، جاء أبي ليخرجه من السجن.
لقد كان أبي أرحب من ثقافتي، وأكثر صدقاً من حماستي، وأعمق درايةً ومعرفةً بالناس، وأهم من كل ذلك أكثر تسامحاً وإحساساً بالعدل:
(حين أبصرني مرة أبخس الكيل أمسكني
ثم علّمني أن أجوع)
كان موته قمةً له وهاويةً لي.


- 4-
اللغة والبناء:

* القصيدة كيف تولد عندك؟ هل هي حلم أم غناء صارخ في البرية؟
* كاصد: قد تكون القصيدة حلماً، وقد تكون صرخة في البرية أو في غرفة مغلقة، إنها قد تتسع لتشمل الحياة ذاتها وقد تضيق فتصبح كرأس دبوس، انها يمكن أن - تكون قصيدة ويتمان أو قصيدة هنري ميشو، قصيدة المتنبي أو قصيدة أبي تمام ولا غرابة في ذلك فليس ثمة ما هو أضر بالشعر من تعريفه، الشعر هو ما يعرّفني لا ما أعرّفه، أما ولادته فهي لا تحدد بزمان أو مكان معينين، وان كان لكل قصيدة جيدة مكانها وزمانها الخاصان، ولعل من مساوئ الشعر هو افتقاده هذين العنصرين: زمان القصيدة ومكانها، حين يصبح نظماً لا معرفة، تجريداً لا تجربةً محسوسة محددة، عندئذ تتشابه الأصوات والتعابير وبالتالي الأزمنة والأمكنة، ولعل ما يثير الاستغراب حقا أن البعض يرى في هذه الظاهرة تقليداً أو محاكاة للشعر الغربيّ، بينما يعرف أي مطلع على هذا الشعر، حتى من خلال الترجمة، أن لهذا الشعر أعلامه واتجاهاته العديدة ورؤاه الإنسانية النازعة إلى كل ما هو أنسيّ حيّ، لا إلى ما هو تجريديّ خارج زمن الشاعر- ولا نقول زمن الناس - ومكانه.

-5-

* تجسد قصائدك الحياة بتجلياتها المختلفة، إيقاعها اليومي ولقطاتها المألوفة والنادرة، ولكنك تحاول ببعض المقاطع من القصائد أن تأخذ منها شفافيتها أو مرحها، إن صح التعبير، في اختزالك الفلسفي لها، مثلا في قصيدتك (الحذاء والملك) يختزل هذا المرح والتهكم الساخر لحساب الفكرة، وفي قصيدتك الجميلة (عراقيون) نرى ارتفاع النشيج المر وتلك الأسئلة الموجعة، ثم يختفي صوت الشاعر كريم:
"عراقيون يفترشون أضرحة الأئمة والأقارب ثم ينتشرون، ينسون البكاء، كأنما قدر العراقي المقابر والرحيل مجنح القدمين، يحمل سعفه ونذوره ويؤوب مخذولا يجرّ دموعه، ويحطّم الألواح، يوقد في الهجيرة نارَه، ويغيب في ليلٍ من الأشباح".
كاصد: لا اعتراض لدي على ما تراه في شعري، وحين أجيب عن سؤالك فان إجابتي ليست رداً أو تفنيداً بقدر ما هي توضيح لقراءة أخرى خاصة بي، ربما لا تكون صحيحة. لا أدري إن كان القارئ على معرفة بشعري كله إو بعضه أم لا، لذلك أخشى أن يكون حديثي مجرداً حتى وإن أجهدتُ نفسي أن أكون فيه على النقيض مما أدعيه. قصيدة (الحذاء والملك) هي واحدة من مجموعة أعدها للنشر بعنوان (قفا نبك)، تحتوي على قصائد هي حكايات بالفعل نشرت قسماً منها في جريدة (الحياة) تحت عنوان (حكايات من الحمراء) و(شواهد) أما هذه القصيدة فقد نُشرت في كراسٍ احتوى على أسئلة وجهت لي.
تحتوي قصيدة (الحذاء والملك)، حقا، على فكرة مثلما احتوت على مرح وتهكم ساخر، أما إلى أي حدّ اختزل المرح والتهكم الساخر لحساب الفكرة فهذا ما لا أستطيع أن أقرره ولكنها، كما أظن، تصب في هذا المنحى الذي وُجد لدى شعراء آخرين، رواداً وغير رواد، والذي اعتمد الحكاية أداةً شعرية، وهذا المنحى يوجد في الشعر العالمي أيضاً ، كما أظن، من خلال اطلاعي على ما تيسر لي من آداب هذه اللغات.
وما أراه ضارا هو ابتعاد شعرنا الحاضر عن هذا المنحى، ولا أعني بهذا النمط من الشعر الأقصوصة ذات البداية والنهاية والحبكة - ولا ضير أن تكون ذلك - وإنما أعني به اعتماد هذا الشعر المادة الحياتية التي تقرب من القص والتي تختلف عنه باختزالاتها وإيحاءاتها وتميزها عما سواها من أنماط نثرية أخرى. لذلك حين يرد تعبير " لحساب الفكرة " أفكر في النثر لا بالشعر، بالنثر المجرد، وهذا ما أظن أن قصيدتي سعت إلى تجنبه غير أن النثر، كما أرى، ضروري أحيانا للشعر كعنصر من عناصره الكثيرة لكسر حدة البلاغة التي مازالت تزحف إلى شعرنا المعاصر بأشكال شتى. الحقيقة أن القصيدة هي ثلاث حكايات لا حكاية واحدة، وأعتقد أن الحكاية الأولى هي الأساس وما الحكايتان الأخريان إلا إضافتان يمكن حتى الاستغناء عنهما دون أن يضرا بهيكل القصيدة، لذا أجدني أمام اختيارين: الاحتفاظ بشكل القصيدة الحالي أو الابقاء على الحكاية الأولى فقط، وأنا أميل إلى الاختيار الثاني، منعا للالتباس، وقد قرأت الحكاية الأولى وحدها في الأمسية التي أقيمت لي في برلين مؤخرا.
أما بالنسبة إلى (عراقيون) فان اختفاء صوتي في المقطع الذي ذكرته لا أراه يضر بقصيدتي فقد يكون صوتُ الجوقة صوتَ الشاعر نفسه حين يكون الشاعر واحداً من الناس. المقطع الذي ذكرته في سؤالك أرى فيه صورتي الشخصية مجسمةً في المرآة.
إن الشاعر ليس صوته الخاص بل العام أيضا، ولا يعني العام دوماً اختفاء صوت الشاعر أو ذاته. بالعام يغتني صوت الشاعر ويصل إلى مساحات أرحب. والعام لا يعني أيضاً أفكاراً أو مواقف مسبقةً، بل تجربةً واختباراً ومعرفةً بالناس شعوريةً وغيرَ شعوريةٍ. هذا لا يعني إنكار ما للأفكار من قوة في الشعر وإنما يعني إنكارها مجردة في الشعر, وإلا لكان شعر المواعظ والفلسفات الميتة شعراً.
من جهة أخرى فان الشعر الذي هو محض لعبة شكلية إنما هو شعر لا حياة فيه، وان بدا أن له تأثيراً خاصاً في حاضر الشعر. إن كثيراً من الشعراء الشكلانيين لم يتبق منهم سوى أسمائهم حتى وان كانوا كباراً أو ألفت الكتب العديدة عنهم، إنهم شعراء ذوو أهمية في تاريخ الأدب لا في الأدب نفسه.

-6-

المرأة والحب

* كثيرا ما يتحدث البعض عن تجاربه "العظيمة"، السجن والكتابة... الخ ولكنه يغفل أو يتجنب الحديث عن هموم القلب ورغباته الدفينة، ويجعل من حديث الحب المحطة المهملة، فما الذي تحمله (نزهة آلامك) من هذه الهموم؟ ولماذا نرى في قصائدك نوعاً من المازوشية في تذكر الحبيبة: ففي قصيدتك (هل سأراك حقا؟) تقول:
لعينيك عشرُ غزالاتٍ تبكي
وشجيرةُ وردٍ يتساقط
وقبرٌ صغيرٌ.. صغيرٌ لا يتسع لاثنين
لقدميك..
سأفرش أحزاني
وأقول: اتبعيني
تقولين سآتيك حافية يا حبيبي
بزهرتي ويديّ الناحلتين
ولكن....
هل سأراكَ حقا؟
هل سأراكِ حقا؟
وفي قصيدة "غناء" تقول:
" وداعاً "
ومرّتْ خيولُ المساء الأخير
وأطفأت الريحُ قنديلها
الى أيّ ركنٍ صغيرٍ أوتْ
إلى أيّ ركنٍ صغيرٍ؟
سأمسحُ عن شعرك الثلجَ...
أدخل قبواً وأغلقهُ
لستِ ميّتةً
وأنا لستُ ميْتا
وأنا قرّبي الشمعتينْ
لنصبحَ بيْتا

فكيف تفسر ذلك؟
كاصد: لا أدري هل سيكون لتفسيري جدوى بعد أن قدمت تفسيرك ورأيت نوعاً من المازوشية في تذكر الحبيبة ولا أدري أيضا هل تعبيرك هذا مجازي أم حقيقي؟ ولكنني سآخذ ما هو أيسر لأقدم إجابتي أو تفسيري على حد رأيك.
أحقا إن هذه القصيدة مازوشية؟ الإجابة قد تكون بـ "ربما"، وربما بـ "لا" غير أن المازوشية في القصيدة تبدو بعيدة الاحتمال حين نعرف أنها كُتبت عندما ودعتُ زوجتي، أوّل مرة، قبل ما يقرب من عشرين سنة هارباً عبر الصحراء، على جملٍ وكانت مريضة وقد لحقتني فيما بعد، من هنا يأتي هذا التساؤل:
هل سأراكَ حقا؟
هل سأراكِ حقا؟
إن إشارتك لهاتين القصيدتين تسرني رغم اختلافنا في التفسير، فأنا يسعدني الإشارة إلى قصائدي القصيرة لأن من لا معرفة لهم بالشعر أو بقراءته، كثيرا ما يميلون إلى الأسئلة العامة الضخمة والإشارة إلى القصائد الطويلة فقط.

-7-

* كان الشاعر العربي وما يزال يتمثل في الحب أو الغزل صورة الحبيبة، ولكنك ترى الحبيبة من خلال نفسك، `فهي صورة لظلك، لقلقك الملازم لك:

أنتِ لم تلمحي قامتي تنتظر
في الضجيج المباغتِ هادئةً
أنتِ لم تلمحي قامتي حين تمتدّ....
في غرف الانتظارْ
أنت لم تعرفي غرفَ الانتظار
والهدوءَ المباغتَ وقْتَ السفر
وضجيجَ السفر
أنت لا تعرفين السفر

كاصد: وهل تريدني أن أرى الحبيبة من خلال غيري؟ سامحك الله... نعم قد تكون صورة لظلي وقلقي وقد لا تكون، وفي هذه القصيدة (ثلاثية السفر) ليست الحبيبة صورة لظلي، لقد أردتها هكذا ولكنها كما يبدو من القصيدة - لا الواقعة التي هي خاصة بي- أبتْ أن تكون تلك الصورة .. صورة الظل.

-8-
السفر والاغتراب

* (الحقائب)، (وردة البيكاجي)، (الشاهدة)، (نزهة الآلام)، هي شواهد وعوالم لرحلة العذاب، حيث يصبح الجمل الذي هربت عليه من العراق عبر الصحراء هو "القبر" وأنت "الشاهدة"، كيف تؤرخ، إن صح التعبير. تاريخ اغترابك: هل تؤرخه بالمنفى أم بما قبل النفي؟
كاصد: اغترابي قبل المنفى وبعده.. ولكن الاغتراب الأخير هو ما يعنيني فاغترابي الأول كان طبيعياً.. كان اغتراباً هو وليد صراع حقيقي في أرض حقيقية وبين أناس أعرفهم ويعرفونني، أما الثاني فهو اغتراب السائر في الهواء بين أقوام لا تعرفهم، وأوطانٍ لا تنتمي إليها، ووطن بعيد لا تعرف متى تعود إليه، ولقمة عيش لا تدري متى تفقدها، وأطفال افتقدوا لغتهم حتى وإن تحدثوا بها وما إليها من تفريعات، لذلك يدهشني عندما أسمع من يتحدث عن محاسن المنفى إلا إذا كانوا يعنون مساوئه التي أصبحت حقا محاسن لدى نفر كبير من الساسة والأدباء في المنفى.

-9-
* ما الذي أعطاك المنفى وما الذي أخذه منك؟
* كاصد: مهما أعطاني المنفى فانه أخذ مني الكثير وهل هناك ما يؤخذ منك أكثر من الأرض والناس؟ إنني أعرف ما أخذ مني المنفى ولكن لا أعرف ما أعطاني حقا؟ نعم.. أعطاني الفقر والمرض والجوع والتنقل الدائم من وطن إلى آخر، ولكنه أعطاني أيضا الإرادة التي تصلبت، والمعرفة، ونار الشعر القاتلة.
(إنني لم أنشر إلا الجزء اليسير من شعري وتجاربي المختلفة).

-10-
الشعر العراقي اليوم

* أين يتجه الشعر العراقي اليوم، مع تعدد الأصوات والمنافي؟
* كاصد: من الصعب تحديد مسار للشعر العراقي وللشعر بصورة عامة، ولكن يمكن القول إن للشعر العراقي موقعه المتميز في خارطة الشعر العربي، فلا يزال شعراء كسعدي يوسف والبريكان يواصلون عطاءهم، وكذلك شعراء الأجيال التي أعقبتهما، غير أن الشعر العراقي لم يحظ بالاهتمام من قبل النقاد، فالدراسات عن شعر الرواد وجيل الستينات تكاد تكون معدومة. ثمة شعراء مهمون أصدروا مجموعات شعرية عديدة لا تتم حتى الإشارة إليهم في المتابعات النقدية، كحسين عبد اللطيف، وكاظم الحجاج، ومهدي محمد علي، على سبيل المثال، والأخير أصدر أكثر من خمس مجموعات شعرية حتى الآن، وكتب قصائد مهمة أعتبرها من النماذج الجيدة في شعرنا العراقي، كقصائد (البئر) و(تنويع على مشهد) و(شيخوخة)، وغيرها من القصائد المتناثرة في مجموعاته العديدة، كذلك ثمة شعراء مهمون أهملهم النقد ولم ينتبه إلى إنجازهم الشعري، أما الأجيال الشابة فثمة أسماء عديدة تواصل تجربة من سبقها وهي ليست بحاجة إلى بركات الآخرين لتقديمها فهي أقدر على تقديم نفسها بنفسها من خلال مواصلتها الكتابة، أما استصغار الآخر باسم الأجيال والأقدمية فالشعر ليس وظيفة، ولعل مسؤولية النقد وانشغالاته بما هو يومي عارض تتضح أكثر في إهماله الإشارة إلى أعمال شعراء توفوا منذ سنوات في المنفى وهم مصطفى عبد الله، ومحمد طالب محمد، وقاسم جبارة، والأول كتب قصيدة اعتبرها من بين أجمل قصائدنا التي كتبت عن المنفى ألا وهي قصيدة (الأجنبيّ الجميل).
إن التعريف بشعرائنا وأجيالنا الشعرية، ومعرفة مسار شعرنا لا يمكن إنجازهما من خلال الإشارات والتلميحات التي لا تخلو من جانب شخصي، بما فيها إشارتي هذه، وإنما من خلال الأنطولوجيات والدراسات المتأنية وإصدار المجلات المتخصصة حتى لا نكون تحت رحمة مسؤولي الصفحات والمجلات الثقافية الذين أثبتوا جدارة بكل ما ليس له علاقة بالشعر أو تحت رحمة الموظفين من الأكاديميين.
إن تأكيدي على الأنطولوجيات للأجيال المختلفة ليس القصد منه التعريف بهؤلاء الشعراء، فأكثرهم ليسوا بحاجة إلى مثل هذا التعريف، وإنما تقديم ما هو جميل لقرائنا وللأجيال القادمة والتعريف بجمال لغتنا وحيوية شعرنا وقدرته على استيعاب ما يدور حولنا في حياتنا، أما ترك الفوضى القائمة على حالها، بفضل صحافيّينا الأكاديميين، وأكاديميينا الصحافيين، فلن يعود على شعرنا بأية منفعة سوى ترديد أسماء ليس لنا سوى ألفاظها على حد قول شاعرنا الرصافيّ رحمه الله، إنني أتساءل ما قيمة كل شعر الفرزدق والاخطل وأمثالهما من الفحول أمام شعر هؤلاء المجهولين الذين جمعهم أبو تمام في مختاراته "الحماسة"؟ ولولا الحماسة أما كان مصير هذا الشعر الضياع؟ أو لا نتشكك الآن في قيمة شعر شعراء قدمهم النقد لنا بصفتهم شعراء من الطبقة الأولى؟ حتّى البحتري لم ينج من هذا التشكيك، يذكر صلاح عبد الصبور في سيرته الشعرية أنه لم يجد بيتاً واحداً جيدا في شعره، هذا ليس رأيي، ولكني أورده هنا للتعبير عن نسبية ما يقال في الشعر؟ فلو تصفحت آراء النقاد القدامى وقرأت ما أورد وه للبحتري من أبيات على أنها النموذج الجيد للشعر مثل " ألام على هواك وليس عدلا " و " أجدك ما ينفك يسري لزينب ا" و " أصفيك أقصى الود غير مقلل "... الخ، لاحترت في تقدير الأذواق ولبدا لك عبد الصبور محقاً في رأيه إلى حد ما وان أجحف في التعميم فلا شيء في هذه القصائد غير جرسها الحلو الممتع.
* الشعر الذي أصبح لك وطنا، مملكة للحرية على حد قولك، كيف ترى يتجسد في كتابتك؟
* كاصد: قلتُ من قبل في لقاء أجري معي وأعيد هنا ما قلت: إن الشعر بالنسبة إلي مملكة للحرية، حتى لو انقطعت سنوات عن نشره لا عن كتابته، هوية حاضرة حتى في غيابها، فهو يبزغ فجأة في أية لحظة، في عينين عابرتين، في وجه مألوف أو غريب، في زاوية مهملة، في علاقة ما، وفي لحظة قد تكون الأبدية ذاتها. إنه حاضر في رؤية الشاعر للأشياء والعالم، وفي اختياراته في طريق المعرفة، لكن حضوره ليس معلنا بل خفيّاً هادئاً يكاد لا يُرى، وحضوره العلني الوحيد هو القصيدة.
قد ينطرح سؤال آخر لا يتحدد فيه الشعر بعلاقته بالشاعر التي هي علاقة خاصة جدا، وإنما يتحدد بغيره من وسائل العصر التي نشهدها وهي تتطور بشكل هائل: هل الشعر ضروري في هذا العصر؟ هل ثمة متسع للغناء؟ الجواب سيكون بالإيجاب حتماً، ولكنه إيجاب مفعم بالشك. هل سيعود الشاعر ثانية نبياً صارخاً في البرية؟ أم أنه سيكون أكثر دهاء مثلما نرى الآن في محاولته التلاؤم مع ما يحيط به من مؤسسات وإعلام يقول من خلالها كل شيء إلا الحقيقة.
هل الشعر غاية أم وسيلة؟ لَعِبٌ قد يشير أو لا يشير إلى حقيقة. لا أدري ولكنني سأظل أبدا وفي مخيلتي مثال الشاعر الغائب.

-12-
* كيف ترى مكانة الشاعر وكيف يتجسد دوره في الواقع؟ ودور قصيدته في التغيير؟
* كاصد: ليس لدي توهم أن الشاعر نبي أو قديس، ولكنني مازلت أرى أن للشاعر دوراً إن لم يتجسد في الواقع، فعلى الأقل في لغته، وقد يكون لهذا الدور، فيما بعد، تأثير في الواقع نفسه (كما يطرح ذلك إليوت في مقالة له عن وظيفة الشعر الاجتماعية)، وحتى هذا الدور الذي يوعزه إليوت للشاعر لا يخلو من مبالغة في تقدير دور الشاعر، مهما كان عظيماً، فقد تكون لغة الشاعر العظيم عائقا في تطور اللغة نفسها وفي تطور الشعر أيضا (كما يذكر إليوت في مقالة له عن ملتون)، وقد يكون الشاعر مهرجاً حين يكون بوقاً للسلطة، ونجماً في المهرجانات وهذا ما شهدناه ونشهده في المهرجانات والاحتفالات الرسمية، كما إن الأمثلة على الشعراء الساعين إلى الشهرة بأي ثمن لا تُحصى، وقد جرّ هذا المسعى الباطل إلى إحاطة الشاعر بالحواريين والمريدين من صحافيي الدرجة العاشرة وهواة الأدب ومقاوليه، لا بل إن الشاعر قد يكون مهرجا في اللغة نفسها. لكنني من جهة أخرى- إذا صرفنا النظر عن التفصيلات اليومية والأجواء الأدبية ذات الطابع الخاص - أستطيع أن أشبه مكانة القصيدة بالنسبة إلى الشاعر بتلك المكانة التي كانت تتصف بها الأسطورة بالنسبة للإنسان القديم في مواجهة عالمه الغامض، فالعالم المعاصر يشتد غموضا كلما اتجهنا صوب المستقبل، وهذا ما لم يكن في حسباننا من قبل، فهل سينقذنا الشعر كما أنقذت الأسطورة إنسانها القديم؟ أشك في ذلك، إنه مجرد تساؤل للاقتراب من حل يخص الشعراء أنفسهم، غير أن هذا الحل الذي يقترحه السؤال معرض لمخاطر شتى، فما أسهل أن تتحول الأسطورة إلى شعوذة حواة.

-13-
* تقول: "إنني أميل إلى الشعر الذي يحدثني بلغة البشر لا بلغة الآلهة"، ألا ترى معي أن الخطابات التي تستهين بعقل المتلقي هي لغة الشعر العراقي والعربي السائدة مع بعض الاستثناءات؟ وعلى الصعيد نفسه تتسلق القصيدة ذات النبرة الخطابية والحماسية على حساب جمالية الشعر بسبب لجوء البعض الى الغموض والاثقال بالبلاغات التي لا معنى لها؟
* كاصد: الخطابات والنبرة الحماسية وغياب جمالية الشعر والغموض، كل ذلك يمكن أن يغتفر، فهو ليس بالضرورة مقصوداً لذاته، وقد يكون تعبيراً عن قدرات محدودة لشعراء محدودين، ولكن ما لا يغتفر هو هذا النقد المجاني الذي يجعل من هذا النتاج العادي الشائع نموذجا يُحتذى. أن يكتب الشاعر قصيدة رديئة، ليس ذلك بمسألة ذات شأن، ولكن ما يستوقف الانتباه حقا هو أن يكتب ناقد مقالة رديئة عن شاعر رديء، وقديما أشار القاضي الجرجاني في كتابه "الوساطة بين المتنبي وخصومه" إلى أن عيوب الشاعر لا تسقطه بل تسقط الناقد الذي يقتصر عليها في تقييمه. إن تشويه عاطفة القارئ لا تقل أذاة عن تشويه أفكاره، لاسيما إذا كان وراء أحكام النقد هذه دوافع مبعثها المنفعة، ولا أعتقد أن هذه الظاهرة ستختفي مادام النقد لم يعد حواراً مع النص الأدبي أو تساؤلا، بل أصبح تابعا لثقافة سائدة قائمة على القمع والأحكام المسبقة. إنني أتساءل: ماذا سنخلف للأجيال القادمة إذا استمر وضعنا على هذه الحال؟ أي ذوق سنخلف لهم وأي نماذج سنشير إليها قائلين: هذه عبقرية لغتنا. يمكنك أن تتصفح أية مجلة لترى أي نقد يمارس. إن أخشى ما أخشاه أن يصبح نقدنا بلا ذاكرة، منقطعاً عما سبقه من أجيال نقدية وشعرية، إذ كيف نفسر غياب شعرائنا، قدامى ومحدثين، ابتداء من احمد شوقي وانتهاء بالسياب عن الدراسات الحديثة إلا ما نراه من النزر اليسير من الإشارات والكتابات الصحفية المكتوبة عنهم. إن مئات بل آلاف الكتب تصدر سنوياً في اللغات الأجنبية عن شعرائها، أين نحن من هذه الظاهرة؟