الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأحد 21/9/ 2008

 

على هامش مونودراما قاسم مطرود
"معكم انتصفت أزمنتي"
أول العبور

سعاد درير

مونودراما باذخة من طراز مسرحية " معكم انتصفت أزمنتي " للمبدع المسرحي المتميز قاسم مطرود ما كان منها إلا أن أغرتنا بالمرور فوق السطور .. إغراء مارسه علينا عنوان النص والإهداء قبل السطور الأولى من النص .. فما كان منا إلا أن اختلسنا بعض الإشارات الوامضة على ضوء قراءة عابرة ، على أمل الإبحار في ما بين السطور على ضوء قراءة عاشقة .. متى اقتنصنا الفرصة .

1 - الكتابة ألذات
لسنا في هذا المقام بصدد التعريف بالذات الكاتبة ( قاسم مطرود ) ، لأن إطلالة سريعة على كتاباتها كافية لرسم صورة تقريبية لها ، ناهيك عن أن سيرتها الذاتية في متناول القراء النهمين في الإقبال على الأطباق العقلية الرقمية . كل ما نفكر فيه ههنا هو محاولة تقديم قراءة في اسم الذات الكاتبة : قاسم مطرود .

يتشكل هذا الاسم من علامتين لغويتين تشكلان على التوالي اسم الفاعل ( قاسم ) واسم المفعول ( مطرود ) . وإذا كان الشق الثاني ( مطرود ) من الاسم الثنائي ( قاسم مطرود ) دالا يحيل على مدلول وحيد ، فإن الشق الأول (قاسم ) يحتمل معنيين كما سنرى :

الشق الأول

..... قراءة أولى…..
بمجرد أن تتلقف أعيننا كلمة " قاسم " تتبادر إلى أذهاننا تركيبة هذا الاسم باعتبار أنه اسم علم كغيره من أسماء الأعلام ( محمد ويوسف وعمر وعصام وأيمن ونبيل ومهدي .. ) . إذن ف " قاسم " مجرد علامة إشارية تعد بمثابة وعاء للفكرة (الشخص في حد ذاته) ، تشير إلى الشخص وتحدد هويته وتعطيه حيزا تعريفيا ، على اعتبار أن هذا ال " قاسم " قاسم بشحمه ولحمه وليس علاء أو عبد الوهاب ..

..... قراءة ثانية.....
تتحول كلمة " قاسم " من الدلالة التأشيرية إلى الدلالة على الصفة . فكلمة " قاسم " من هذا المنظور تحيل على صفة مشتركة أو على قاسم مشترك – على وجه التدقيق – بين " قاسم " الإنسان المبدع الفنان .. وبين مجايليه من الزملاء والأصدقاء .. أو كل من يقاسمونه نفس الخاصية أو الخصوصية التي حملتهم على الطرد . ولا يهم بالمرة إن كان هذا القاسم مشتركا بين " قاسم " وغيره من العراقيين أو العرب أو البشر بصفة عامة .

فما يكون هذا الدافع – القاسم المشترك الذي حتم على " قاسم " وغيره الانسحاب في صمت تحت وطأة الطرد التعسفي الصادر عن الظروف - أيا كان نوع هذا الطرد وهذه الظروف - ؟

الشق الثاني

في الشق الثاني أو العلامة اللغوية الثانية من الاسم الثتائي للكاتب نضع اليد على طبيعة الفعل وعلى نوع الخسارة المعنوية ( الطرد ) اللاحقة باسم الفاعل الذي لم يفعل شيئا وإنما فعل ( بضم الفاء وكسر العين ) به ، فصار في حكم المفعول .

إن ما لحق قاسما من فعل.. يكمن في عملية الطرد ، بكل ما تنفتح عليه من فضاءات أعفته ظروفها من الإقامة فيها ، بدءا من البيت الصغير( المنزل ) وانتهاء بالبيت الكبير( الوطن- الوطن مجازا، لأن الظروف هي التي تملي واقع الطرد، والوطن منها براء، ذلك بأن الحضن حضن أبد الده) ثمة أشياء كثيرة مارست على قاسم ضغوطاتها، بطريقة أو بأخرى ، الشيء الذي شجعه على الهروب ، إذ بسبب ظروف غامضة ومجهولة ابتعد وتنحى واختار المنفى.. ولا غرابة أن يحمل الاسم الثاني للذات الكاتبة (مطرود) مكونات النفي والمنفى .

ونعود ههنا إلى القراءة الثانية في الشق الأول من العنوان ، ونتساءل :

ما يكون هذا القاسم المشترك المسؤول عن فعل الطرد ؟
مؤكد أن الجواب عند قاسم ( حامل هذا القاسم المشترك العصي عن الفهم ) .

2 - الكتابة الوجه

المقصود بالوجه من وجهة نظرنا هو العنوان طبعا – عنوان الكتابة :

معكم انتصفت أزمنتي

نلاحظ أننا بصدد جملة انتصف فيها الفعل وتأخر الفاعل وتقدم الجار والمجرور :

2-1- فرش أول

مع ===== الجار .
كم ===== المجرور ، ويمثل مجموعة من المخاطبين ( النكرات )
الذين شملتهم عملية الجر ، وناب عنهم الضمير .
أزمنة === الفاعل المتعدد وليس الواحد .
ي====== تعود " الياء " ههنا على " قاسم " الذي تنسب إليه
هذه الأزمنة .
انتصفت=== الفعل المتأخر عن زمن وقوعه .

2-2- فرش ثان

هناك عنوان اتخذ صورة جملة . لكن دلالة هذه الجملة تتحول بتحول محمولات الجملة نفسها :

معكم انتصفت أزمنتي
معكم أزمنتي انتصفت
انتصفت معكم أزمنتي
انتصفت أزمنتي معكم
أزمنتي معكم انتصفت
أزمنتي انتصفت معكم

أكيد أن كل تلاعب في ترتيب مكونات الجملة يتلاعب بالمعنى هو الآخر ، لأن معنى الجملة الأولى يختلف عن معنى الجملة الثانية ، ومعنى الثانية يختلف عن معنى الثالثة .. وهكذا دواليك .

2-3- فرش ثالث

تدفعنا تركيبة العنوان المتلاعبة بخصوصية الزمن والمكان ( زمن ومكان الفعل ، زمن ومكان الفاعل ، زمن ومكان الجار والمجرور ) إلى التساؤل :

من يكون هؤلاء المجرورين ( معكم ) ؟
كيف انتصفت أزمنة الذات الكاتبة ؟
وأي أزمنة – هذه – التي تعرضت للانتصاف ؟

من خلال تأمل العنوان وربطه بنص المونودراما يبدو أن انتصاف الأزمنة يفيد دلالة التوقف ، ذلك بأن " النصف " دائما يمثل مرحلة ( حياة ) فاصلة بين مرحلتين ( حياتين ) . ويمكن تحديد هاتين المرحلتين في خريطة حياة قاسم مطرود في حياتين :

المرحلة الأولى = حياة داخل الوطن .
المرحلة الثانية = حياة خارج الوطن .

إن الحديث عن هذه المراحل يجرنا بالضرورة إلى الحديث عن أزمنة قاسم مطرود التي بلغت حيزا بين البداية والنهاية ، بين الأول والآخر .. وصار معها كالمعلق بين السماء والأرض :

زمن الوطن = أرض العراق
زمن الغربة = أرض المهجر

زمن الحضور = المهجر
زمن الغياب = العراق

زمن البقاء في الظل
زمن الرحيل
زمن الغربة
زمن العودة الفاشلة

على أن هذه الصور الزمنية لا تحتمل الصواب دائما ، لماذا ؟ لأن الوطن بالنسبة لقاسم مطرود لا يشكل العراق دائما ، فأرض المهجر أيضا وطنه : وطنه الثاني ، بل إنها الأرض المفروشة بالورد ( وإن كان في الورد شوك ، لأن أجمل الورد ما جرح ) .. هي الأرض التي استوعبته واستوعبت طموحاته في الوقت الذي رفضته فيه ظروف أرض الوطن ولفظته . وإن كانت هناك غربة في أرض المهجر ( وهي موجودة بالفعل ) فإنها لن تكون أبدا أكثر وطأة وحدة من الإحساس بالغربة بين أحضان الوطن الأصلي .

والشيء نفسه يقال عن صورة الحضور والغياب ؛ صحيح أن الحضور المادي لقاسم مطرود يتجلى على أرض المهجر ، لكن الحضور الحسي وكل الحضور هناك في أرض الوطن ، سواء في قلب قاسم أم في قلب الحبيبة الأم ؛ هناك حيث الأم التي طفقت تمني نفسها بعودة الحبيب الابن ، حتى آخر رمق ، وهناك أيضــــا حيث ينتفــــــض قلب الابن( قاسم) الذي مافتئ يحن إلى حضن المرأة التي علمته معنى أن يكون ، ورحلت قبل أن يغتسل بدموع البكاء بين يديها وعلى ركبتيها يوم التلاقي .

وعلى ذكر الأم نشير إلى أتها تشكل محور الشخصيات المجرورة التي ناب عنها الضمير ، وقد تقدم هذا الضمير (معكم ) الجملة ليحدد موقع هذه الشخصيات من الأهمية والتي لا نظنها تخرج عن الأم والإخوة والأصدقاء – كما ورد في نص المونودراما – مما يؤكد أن حبل الغربة الذي التف حول عنق قاسم مطرود جر أيضا في طريقه آل قاسم مطرود الذين اكتووا بنار الغربة مرتين : مرة في شخصهم جميعا داخل الوطن ، ومرة
أخرى في شخص قاسم مطرود خارج الوطن . ولعل ما يفصح عنه ارتباط قاسم مطرود بهذا الضمير الجمعي (معكم ) هو التعبير عن مدى ارتباطه بمن يعود عليهم الضمير قلبا وروحا وإحساسا .. وإن كان يدخل في دائرة تقدير هذا الضمير ( معكم ) كل العراقيين .

لكن ، هل من الضرورة بمكان أن يكون قاسم مطرود نفسه صاحب السيارة المعطلة التي يتمحور حولها موضوع النص .. خصوصا وأن نص المونودراما حافل بالإشارات الإنسانية التي تقتسمها الشخصية المسرحية مع قاسم مطرود ؟!

أم ترانا ننساق دائما مع التخمينات التي تبحث في شخصيات العمل الأدبي عن صاحب العمل ؟!

قد يصح احتمال أن تكون شخصية المونودراما لسان حال قاسم مطرود .. بل هي ذاتها قاسم مطرود .. لكن الأكيد هو أنه طعمها بما يتجاوز حدود وخصوصيات الذات الكاتبة مما يندرج في إطار التخييل .. لأننا لا نظن بالمرة أن قاسما يفكر أصلا في العودة والاستقرار في حضن الوطن بعد أن حقق ذاته وكيانه خارج أرض الوطن ..
( علما أن فكرة العودة تراود أي مغترب .. تراود دواخله وإن كانت حلما مذبوحا ) ؛ والأهم من هذا أنه فقد أدفأ حضن يمكن أن يرتمي بين يديه ليغتسل من تعب الغربة والاغتراب .. فقد شخصا عزيزا على القلب والعين : الأم .

فهل نتوقع من إنسان كرمته أرض غير الأرض .. أن يفكر في العودة إلى حيث كل شيء تبدل ، حتى الشوارع والبيوت والناس .. إلى حيث لا أحد في انتظاره إلا ألم الذكرى وحجم الإساءة الذي أثقل الذاكرة ؟!

ألا نرى أن الحالة تنساق مع معنى المثل الانجليزي القائل :

A prophet is not without honor save in his own country
" لا يعدم النبي آيات التشريف إلا في وطنه "

بمعنى أن أصحاب الدار أكثر من يضن على العظيم بالتقدير الذي يغدق عليه في دار غربته .

3- الكتابة الجسد

3-1- الإهداء

بادئ ذي بدء نشير إلى أن الإهداء شكل شبك الغواية الذي اصطاد دموعنا ولامس منطقة الإحساس في دواخلنا .. يكفي أن العيون اغرورقت بالدموع قبل أن نبارح حروف الإهداء :

" إلى أمي التي سارعت في الرحيل ، قبل أن أجهش بالبكاء على ركبتيها ، معتذرا عن جرح الغربة والفراق ، أهديك محبتي وشوقي واعتذاري " .

نحن في زمن تقلص فيه حضور الإنسانية .. وكلمات قاسم مطرود في الإهداء توحي بأنها صادرة عن إنسان مرهف الحس ، هش القلب .. وليس عن آلة تضرب بالإحساس عرض الحائط . فمن يحن إلى أن يجهش بالبكاء على ركبتي حبيب لا يمكن أن يكون إلا حبيبا ذا ضمير حي وروح حية هائمة وقلب ينتفض كالطير الجريح .. لذلك فالإهداء يجعلنا نتمزق داخليا ونحن نتحسس حجم الغصة في حلق قاسم مطرود الذي توجر كأس الرحيل - رحيل أمه - هامسا ملء الدمع بجرح الفراق .. جرح يغور في العمق .. بعد أن عز اللقاء والاعتذار .. وما فترت رغبة دموع قاسم في الانفجار ..

يهدي قاسم مطرود مونودراماه إلى الأم . والنص ككل يدور في هذا الفلك : محاولة ربط الجسور مع الصدر الحنون الأم – الوطن . من هنا يعكس الإهداء عمق العلاقة التي تربط الكاتب بأمه ، ويمثل جسر الحنين المنصوب على امتداد ضفتين : أرض الوطن وأرض المهجر. وهو إهداء طويل نسبيا مقارنة مع حجم النص ككل ، كما أن علاماته اللغوية لا تعدم صلة الوصل ولا تخلو من وحدة عضوية .

حين يهدي قاسم عمله هذا إلى أمه فإنه يعبر ضمنيا عن حس إنساني رفيع ، وعن عاطفة إنسانية سامية تشبك خيوط علاقة حميمة يفضحها الإحساس الواله بطعم الغياب الموجع والسابق لأوان اللقاء ، وهو ما يؤسس ميثاق الكتابة .

وتتجلى هذه العاطفة المشبعة بالحس الإنساني في الهوس بحب الأم باعتبارها شخصا وقيمة .. حب جارف يجعل منه طفلا يتصبب عشقا لحضن أغلى غالية ، إن لم يكن لارتشاف الدفء والحنان فليكن لاعتصار الدموع وكلمات الاعتذار وآهات الفقدان .. وما أقسى أن يتجرع فاقد الحبيب مرارة الفقدان ..

من هنا يوجهنا إهداء قاسم مطرود إلى دلالات النص وعوالمه ، ويفتح لنا نافذة للوقوف عند مقصديته .

3-2- الشخصية

يقدم لنا قاسم مطرود شخصية بدون هوية : " الرجل " ، تفتقد أبسط حقوفها في الحياة – المسرح ، حتى حق التسمية . فالعلامة اللغوية " الرجل " لا تقدم لتا أكثر من صفة تؤكد الخصوصية الجنسية للشخصية . أما ربط هذا الجنس بأداة التعريف " ال " فلا يقدم ولا يؤخر .

على أن كل ما يراود تفكيرنا ونحن بصدد تأمل هذه العلامة هو :

من يكون هذا الرجل النكرة ؟

ومع الاستمرار في قراءة هذا الاسم عبر سطور المسرحية يتردد في أذهاننا سؤال آخر هو في الحقيقة تتمة للسؤال الأول :

أم أن تأكيد التعريف في صفة هذا ال " رجل " يؤكد بالضرورة اقتصار صفة الرجولة على هذا ال " رجل " بعينه دون سواه .. ؟

كأنه الرجل الوحيد على الأرض .. الرجل الذي فعل وسوى .. في حين أن واقع حال المونودراما يقول العكس تماما ، لأن رجلها - هذا - ما برح يؤكد أنه معطل الفعل والحركة .

يولد السؤالان السابقان أكثر من سؤال .. أسئلة لا نملك أن نحسم في الإجابة عنها .. ويظل كل ما بوسعنا قوله إنها شخصية شديدة الشبه ، قالبا ، بشخصية " هو " في مسرحية " حياة إنسان " للروسي " ليونيد أندرييف " ، وإن اختلفت عنها قلبا ، ذلك بأن ملامح الشخصيتين متقاربة من حيث الغموض وفقدان الهوية ، على أنه من حيث التفاصيل شتان بينهما ؛ لأن ليونيد رسم حدود الشخصية بمنتهى الدقة ، وأغرق في ذكر تفاصيل المظهر الخارجي ، بينما أعفى قاسم الشخصية من كل تحديد شكلي ، وأطلق العنان لخيال القارئ لتجسيد الصورة الموافقة لفهمه ، وكأنه يؤكد ضمنيا أن الإنسان روح وإحساس ، وليس مجرد شكل – قشور .

3-3- المسرحية

نص " معكم انتصفت أزمنتي " مونودراما . والمونودراما مقام البوح والمكاشفة بامتياز . فقبل أن نبحث عن آخر يصغي إلينا ( الحوار ) لم لا نصغي نحن إلى أنفسنا ؟! فالذات أولى باستيعاب تعب الذات والحياة ..

في هذا النص المونودراما يقدم لنا قاسم مطرود شخصية موغلة في الضياع ، شخصية معلقة بين السماء والأرض ، شخصية بلغت مفترق الطرق تحت جنح الغياب فعز عليها المضي أو الإياب . إنها شخصية " الرجل " النكرة ( رغم أن قاسم مطرود قدمه معرفا بأداة التعريف " ال " ) الذي فر من قسوة وطنه إلى ما وراء البحار ، وبعد أن بلغ من الغربة عتيا اكتشف أن القسوة ذاتها في كل مكان ، مع اختلاف بسيط في الأشكال والألوان .. لذلك قرر العودة إلى وطنه ، لكن قبل ربط الاتصال بأهله وذويه ، وفي منتصف الطريق تحديدا ، تعطلت سيارته ، فربض على جانب من الطريق في انتظار مساعدة أي عابر .. طال به المقام في الطريق وما من معين ..

في محاولة من " الرجل " للتأقلم مع مناخ الانتظار يحاول مسح صفحة من الجريدة .. يتجاوز عمدا الصفحة الأولى وما تحبل به من هم سياسي ليحط بعينيه على الصفحة الأخيرة التي عادة ما تغرف منها العين ما يسر القلب .. لكن إذا به يصعق من خبر عن سيارات الإسعاف التي بدل أن ترأف بالمرضى – في مدينة لودز البولندية – تعجل بموتهم من أجل بيع جثثهم .. وههنا يضطر " الرجل " إلى وضع الجريدة جانبا .

في هذا الوقت الميت بالضبط ( وقت الانتظار ) تنهال الذكريات على " الرجل " الذي يسافر في عوالم نوستالجية ، وهو يبوح بشجن الأمس ، ويصف لحظة الوداع الأخير .. تشتعل ذاكرة " الرجل " وتشتعل جمرة الماضي والحاضر في صدره ، ليحكي لنا تفاصيل رحلة الغربة والاغتراب الوجودي .. ومع تسلسل الحكي يكتشف استحالة عودته :

" إنك حقا مجنون ، تفكر بالعودة وسيارتك معطلة ، لا يمكنها التحرك من مكانها لا من حيث أتت ولا إلى مبتغاها الأخير ، هنا سيطول بقاؤك ، والليالي السود أنيسك " .

لكن ، هل يكون تعطل السيارة وتوقفها إشارة ضمنية تعكس رفض اللاشعور للعودة إلى الوطن ؟!

ربما تتأكد صحة هذا التخمين حين يقتنع " الرجل " بأن الضياع قدره ومصيره :

" في بلدي ضعت وفي المنفى " .

وحين يتأكد " الرجل " من استحالة إكمال الطريق أو العودة من حيث أتى ، ما يكون منه إلا أن يلتقط حقيبته ويهيم على وجه الأرض خوف أن تعترض طريقه سيارة إسعاف تطمع في أجزاء جسده كما لو كانت قطع غيار لإصلاح الآدميين المعطلين .. والحق أن إشارة قاسم مطرود الذكية إلى سيارة الإسعاف - هذه - إشارة في محلها ، وإن كانت متخيلة ، ولا غرابة أن يتحول الإنسان إلى سلعة تشترى وتباع في عصر التشيؤ .

لقد كتب قاسم مطرود ملحمة الذبول .. ذبول أحلام المواطن العربي الباحث عن متنفس خارج الوطن ، بعد أن جرب حظه داخل الوطن .. وقد هام حديثا عن الغربة وإكراهاتها حتى خيل إلينا أنها زورق موت بطيء على أمواج أمل ميت .

هناك روح متشظية ، وذات متمزقة تغتسل بنزف الجراح ، وقسوة جاثمة .. قسوة تشمل الزمن وأهله .. وقد صدق المولى عز وجل إذ قال في كتابه الكريم : " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون " سورة البقرة – آية 74 .

هناك قلب عربي .. وهناك رحلة اغتراب .. وهناك رغبة في الارتماء بين أحضان الوطن – الأم .. وهناك عجز ..

هناك تباعد وافتراق .. على شفا حفرة من التلاقي .. ليصبح المثل الانجليزي الموالي سيد الموقف :

There is many a slip between the cup and the lip
" إن بين الكأس والشفة مزالق كثيرة "

ما يمكن قوله باختصار :

قبل الرحيل .. لا شيء يغري بالبقاء ..
وبعد الرحيل .. لا شيء يغري بالبقاء ..
لا شيء يغري بالعودة ..

إنه التعبير عن حياة معطلة .. ومستقبل معطل .. تعبير بأسلوب راق .. لكنه موجع ومؤلم .. وحتى سيارة الإسعاف - المنقذ والمخلص - لا يرجى منها أمل في الأخذ بيد الإنسان إلى بر الأمان .. بل تتحول إلى سيارة الموت .. لأنها ، إن وجدت أصلا ، لن توصله إلا إلى بر التشيؤ والفقدان ..

إن شاء قاسم مطرود ، نسمي هذه المونودراما الباذخة ، التي تكشف عن شاعرية لا يخطئها الذوق :

ذاكرة الانتظار
أو : في انتظار غودو
( في انتظار الذي قد يأتي وقد لا يأتي ) .

3-4- التمسرح

تؤكد كثرة الإرشادات المسرحية المفعمة بالتفاصيل ( حتى التفاصيل الزمنية ) في مونودرامانا - هذه - أن النص كتب تحت ضغط هاجس العرض . ويمكن الإشارة في عجالة إلى بعض مكونات العرض انطلاقا من الشاهد الإرشاد في نص قاسم مطرود :

3-4-1- تصميم المنظر – الديكور

( من وسط المسرح نسمع صوت محرك سيارة معطل .. يتم الكشف عنها وعن الكرفان الذي تجره خلفها وفيه العديد من النوافذ والستائر الشفافة ، وهي متوقفة على شارع طويل وخلفه مجموعة من الأشجار الكثيفة على طول الطريق .. ومن خلف الأشجار نلمح شارعا آخر خال من السيارات إلا من أعمدة الإضاءة الخافتة ) .

3-4-2- التصويت

( ينظر إلى الجمهور لنصف دقيقة وبصوت منخفض : " يا لخيبتي .. " ) .
( يعود إلى طبقة صوته الأولى : " الموضوع مهم .." ) .
( يكمل قراءته بصوت شبه مكتوم ) .
( بحزن : " لم أعثر على ما أردت " ) .
( نسمع صوت الرجل الذي يصرخ طلبا للنجاة ) .
( بصوت منخفض وحزين : " هناك ، زحف التصحر إلى النفوس والشوارع والأزقة ، وأنا الحالم بالنسيم ) .
( يضحك حتى يصل مرحلة البكاء ) .
( بحزن وبعد لحظة تأمل : " صعب علي يا أحبتي أن أعود إليكم ثانية ) .
.. إلخ .
تجدر الإشارة ههنا إلى أهمية الصمت الذي وظفه قاسم مطرود بشكل معبر ، ومن ذلك أن يدل الصمت على الحالة الانفعالية للشخصية ، كحالة الخوف مثلا :
( يصمت الرجل بعد أن يتملكه الخوف ) .

3-4-3- التعبير الجسدي

3-4-3-1- تعابير الوجه

( بقعة ضوء على وجه السائق الذي يبدو عليه التعب والضجر ) .
( يغمض عينيه محاولا النوم ) .

3-4-3-2- أوضاع الجسد

( يجلس على الكرسي قبالة الجمهور وظهره إلى الكرفان ) .
( يقفز إلى الأعلى وهو يصيح ) .
( يقف وسط المسرح ) .

3-4-3-3- الإيماء

( يتحرك الرجل داخل الكرفان .. نشاهده وهو يمرغ جسده علامة الاستيقاظ ) .
( يخرج رأسه من الباب ) .

3-4-3-4- الحركة

( يأخذ المسرح ذهابا وإيابا ) .
( يستدير إلى الجمهور ) .
( يخرج من سيارته ) .
( يقترب من سيارته ، يركلها ) .
( يستيقظ من نومه ويضرب رأسه في سقف السيارة ) .
( يخرج من الكرفان ) .

والملاحظ أن عمليتي الدخول والخروج لا تخرجان عن فضاء السيارة والكرفان، وبالتالي لم يحدث أي خروج للشخصية خارج الخشبة اللهم في نهاية المسرحية ( خروج نهائي ) .

3-4-4- الإضاءة

( يشعل فانوسا حيث يبدأ ضوء الفانوس يخترق شبابيك الكرفان ) .
( بعد أن يخيم الظلام ومن داخل الكرفان نسمع صوت الرجل ) .
( يتم تعتيم المشهد قليلا قليلا ولا يبقى سوى ضوء الفانوس ) .
( بقعة ضوء على وجه الرجل ) .
( سيارات مع وميض إضاءتها .. تمرق بسرعة حتى تضيء خشبة المسرح كله ) .
( يعم الصمت ثم إظلام نهائي ) .
( تضاء خشبة المسرح وكأننا في صباح اليوم الموالي ) .

3-4-5- الأكسسوار

( يدخل إلى الكرفان ، ليخرج حقيبة ) .
( يلوح بسلسلة المفاتيح التي بيده ) .
( يخرج ومعه كرسي صغير وصحيفة ) .
( يحضر منضدة صغيرة ) .
( يحضر كرسيا ويضعه إلى جانب الطاولة ) .

3-4-6- الموسيقى

( يشغل المسجل .. نسمع صوت الموسيقى ) .
( مازال صوت الموسيقى مستمرا ولكن بصوت منخفض ) .

3-4-7- المؤثرات الصوتية

( صوت سيارة إسعاف ، حتى يضاء الشارع الخلفي لمضي السيارة .. ويختفي الصوت تدريجيا ) .
( يسمع صوت شاحنة على الطريق ) .
( نسمع من بعيد صوت شاحنة أخرى قادمة ) .
( صوت سيارة إسعاف قادمة من بعيد ، وشيئا فشيئا يملأ الصوت الخشبة كلها ) .

3-4-8- التوجه إلى الجمهور

( " أريد الجلوس إلى جانبكم وأحكي لكم قصتي التي لا تنتهي " ) .
( " ولكن لماذا أتعبكم بقصتي وترحلاتي " ) .

3-4-9- اقتراحات إخراجية

( يمكن أن نترك المشهد على ما هو عليه لأكثر من دقيقة حسبما يراه المخرج مناسبا ) .
( " تصبحون على خير " نترك هنا أيضا للمخرج الفترة الزمنية التي يراها مناسبة لبقاء الرجل نائما على خشبة المسرح ) .
( سيارات .. تضيء خشبة المسرح كله لمرتين أو ثلاث حسبما يراها المخرج مناسبة ) .
( يجب إعطاء الفترة المناسبة الحقة لفترة نوم الرجل وقدوم الصباح ، ولتكن هذه تجربة جديدة في التعامل مع الزمن المسرحي ) .
( إنه في حيرة من أمره ، ويمكن أن يمنحه المخرج هنا بعض الدقائق المصحوبة بالموسيقى والتي نوصل من خلالها صعوبة الأمر الذي هو فيه ) .

على ضوء هذه الإشارات .. يتوقف مرورنا ، على أمل مرور آخر أبهى وأعمق .. من قبل قارئ ثاقب البصر والبصيرة .. وهذا مسك الختام :

" معكم انتصفت أزمنتي " مونودراما هادئة ، لكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة نظرا لما تفجره من أحاسيس وانفعالات ، مشتعلة اشتعال الذاكرة الانفعالية ، يضطر معها الصمت إلى أن يفقد صمته ..

مونودراما حالمة ، تصدح بالأسى والشجن .. تحلق في سماوات الذات ، تسافر في طوبوغرافيا الأنا .. وتنساب عبر الروح ، مرصعة عباءة الليل : ليل المنفى ، بنجوم الذكرى والحلم .. والأمل ولو كان أملا كاذبا ..

مونودراما تتصبب حنينا وأنينا .. تعبر عن صخب الذات .. ومنه تشق طريقها إلى الذات الممتدة جسرا رابضا بين الأنا والآخر ، وبين الهنا والهناك .. الذات التي تعزف سوناتا الفقدان على أوتار الرحيل والحرمان ..

" معكم انتصفت أزمنتي " مونودراما جديرة بكل عبور وإبحار .

 

المصدر : معكم انتصفت أزمنتي ، قاسم مطرود ( مونودراما منشورة في أكثر من مجلة إلكترونية ) .

يمكنكم الإطلاع على النص بالضغط على الرابط أدناه
https://masraheon.com/phpBB2/viewtopic.php?p=8192#8192
 

free web counter