الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الخميس 24/9/ 2009

 

برتولد برشت : المعنى لا يعني حتمية الدمج بين العلامة والمرجع

سلام الاعرجي *

ثمة خصوصية يتمتع بها النص البرشتي في القراءة وانتاج المعنى وخصوصية اخرى متمثلة في شكل الخطاب المسرحي المشبعة بالتقنيات ذات الاثر التغريبي . خاصيتان ذاتا اثر عظيم في جعله متفردا بكيفية انتاجية صادرة امكانية التزاوج القسري بين الفاعل والمدلول وكذلك التزاوج المراوغ بين العلامة ومرجعياتها . ان ممارسة فعل الازاحة والاحلال في المنهج البرختي يمتد من النص المكتوب الى الخطاب المقروء ماديا - خطاب العرض المسرحي - حيث استطاع خلخلة واختراق النظم البنائية المقنن لها عبر منطوقها الحرفي والمرجعي بل ترك للمنطوق امكانية ممارسة قصدية مصادرة لمرجعيات المنطوقين وتهشيم بنى اللغة داخل الكيان الواحد بخلخلة أزاحية تحاكي المرجع ولاتلبث ان تغادره , اي مصادرة ايقونية الدال , بفعل تغريبي يحقق قراءة تفصل بين العلامة وتاثيرها , كما يرى رولان بارت في دراسته مقالات نقدية في المسرح , قراءة تنصب على التاريخ كحتمية مادية لابد من اعادة انتاجه وفق معطيات ومسببات مغايرة لتسهم في تحرير المضاف والمكمل لتلك الحتمية التاريخية من خلال تحرير فكر القارء للخطاب ذاته , ولاتتم تلك العملية الال بتهشيم الخطاب ذاته عبر مصادره التسلسلية الحديثة من خلال بنى تتجاور الا انها نسيج متقطع حيث يمنع المتقطع من الخطاب المعنى النهائي للقالب الجامد كما يعتقد بارت في دراسته , مقالات نقدية في المسرح . ان علامات الخطاب البرشتي ذات خاصية تؤكد قابلية قرائتها المضاعفة لتفردها - العلاقة - في عكس دلالات العلامات المقابلة , أي ممارسة لعبة العاكس العلامي . لقد مارس برشت أضفاء تعددية قصدية على وفق اطلاق قدرة التلقي على التأويل في القصد الواحد وبمنهج جدلي يتحررمن قصد مفرغ من قصديته الا من الرمز الذي يؤسس دلالاته بوعي المتلقي وليس بما يدل عليه . المتلقي عنصر سلبي تجاه حتمية الخطاب الدلالية المبثوثة , اي انه جزء من ذلك الخطاب فهو يمتلك القدرة على تحطيم خرافته الحتمية اي انتاج القرار , وبناء على راي البنيوية في ان البنية الاساسية للمسرح في نظرهم هي بنية العرض زمن الادراك والاستيعاب كما ورد في دراسة ( فرانتسيك دياك البنيوية في المسرح ) أن قراءة خطاب برشت لابد ان تتوقف على تقاليدية ذلك النص متمثلة في بنيته الكيفية اولا, والكشف عن التقنيات ذات الاثر التغريبي المشتغلة على عموم الخطاب البرشتي ثانيا . لقد عني كل من ( برشت وارسطو ) في الحبكة وانزلاها منزلة الروح من الجسد وبقدر ما تماثلا فقد تناقضا في العديد من التقعيدات الكيفية , فهو وأن تتابع حدثي الا انه رقق وأضعف الصلات الحتمية بينهما معتمدا منهجية المشهدية وهي حكايات متكاملة متجاورة لكل واحد منها بنيته الخاصة وكأنه مسرحية ضمن مسرحية - وهذا ما يؤكده برشت في كتابه المنطق الصغير في المسرح - حتى صار خط تنامي الحدث فيها بيانيا لا يقود الى ذروة واحدة بل تدرك الاحداث غاياتها دون تخارج او توالد فثمة خطة جزئية في ذات الحدث وداخله تتصل بالخطة الحركية العامة - حسب , م.س.كوركنيان في دراسته نظرية الادب - المنجزة للفكرة وقد تبدو المشاهد المفسرة لبعضها البعض متباعدة زمنيا من حيث التعاقب الا انها متقاربة جدا في وحدتها الفكرية - كما في مشهد الطاعون وصمود غاليلو ومتابعة ابحاثه ومشهد الاستسلام اثر تهديد لجان التفتيش - مؤسسة مستوى النص الاسلوبي , اما حد الوقت الكافي فهو تراكم متناقض تكشف عنه الحكايات في سردية غايتها السيطرة على الواقع المعروض , فهو يرى الاتجاهات المتناقضة في الواقع العنصر الحي فيه .وأذا كان الحدث المحاكى تاريخي فهو - برشت - ليس مدونا له بل يعني الحكم عليه من وجهة نظر حلقة أجتماعية أرقي لتأشير وجهة التغيير والتأثير في أشكال السلوك الاجتماعي وانماطها - أن أفضل طريقة لفهم القرود هي من وجهة نظر ما يليها في عملية الارتقاء - ان القراءة المعاصرة للحدث التاريخي تعني مواجهته بتراكم خبراتي يقع على جزئيات ذلك الحدث حتى يخضع لفرضية معاصرة لها قدرة التغيير والاقناع لأمتلاكها رؤية حركية الحدث المستقبلية . التاريخ نتاج انساني أغترب عنه في ظل ظروف الانتاج , ولرفع أغترابه يعني تحرير وعي الانسان ومنحه قدرة التجاوز ليقابل الفهم والعقل مفهوم الشفقة الارسطي , لأن شخصيات برشت أعضاء في مجتمع طبقي وكائنات بشرية غير جديرة بالعناية الا بمقدار تفاعلها وسلوكها واستجابتها أزاء ظرفها الموضوعي , فكانت صياغة الحبكة دراسة عقلية معاصرة لأزمة الانسان في سياقها التاريخي لأعادة انتاج نواقص المرحلة التاريخية التي شهدت ولادتها والتي ليست هي سوى التعبير عنها - حسب فريدريك آوين في دراسته برشت , فكره, فنه , عصره - وبذلك يكون برشت قد احل الوعي محل الخوف الارسطي من خلال تجريده القوة المستلبة - بكسر اللام - من سماتها الخارقة والمطلقة والنهائية , ويحل التغريب محل التطهير , فكان الابعاد - التغريب - استلاب الاستلاب , أي أستلاب ايجابي .الا ان الزمن الذي يطرح رؤية البطل زمن مغترب بسبب تناضر الزمن الواقعي وزمن التلقي ولرفع أغترابه- الزمن - حمله تناقضية ,زمن الحدث ماضي , ينعكس في الحاضرزمن التلقي يتجاوزه برؤية مستقبلية / تأويل , اي ان اعادة انتاج الخطاب ستكون من قبل المتلقي . ولكي لايبدو الجوهر الانساني قيمة متاصلة في الذات المجردة فقد صور شخصياته على وفق نسبية تاريخية لاتسمح بان تكون أمتدادا لشخصيات معاصرة فقد اسقط البطولة والخلود وثبات العادات والملامح الاجتماعية , الشخصية ليست بؤرة استقطاب بل فردية في موقعها وفق ظرفيها الذاتي والموضوعي المرحليين , وهي ظاهرة اجتماعية . فهي كينونة محددة بحكم عدم ثباتها ودوام تغيرها لأنها تمثل العمليات الاجتماعية . انه يصور الفرد لاعلى اساس مشاعره ومبررات افعاله بل هو حقيقة لايمكن تجاوزها عند وصف الواقع , وليس لأن المجتمع تجمع أفراد , بل يفسر الفردية من خلال واقع الحادثة , فهي كيان ذاتي , عضو في طبقة اجتماعية - ظاهرة اجتماعية - حيث يقول في دراسته ( محاورات المسنكاوف ) لقد تجنبت تكوين شيء أشبه بالنازي بالولادة . وأمعانا في واقعيتها - الشخصية - فقد صورها كوحدة متناقضات , وياتي تحقيق تماسكها بكشف سماتها الفردية التناقضية , فهي تحمل نقيضها في ذاتها ليصادر أنتمائها لمبادئها التي تحملها منذ الصيرورة حتى الحتف - كما مع الشخصية الارسطية - لقد اكتسبت شخصيات برشت الفردية أبعادها الملحمية وبعدا آخر , التأريخية , فهي أنعكاس لواقعها الاقتصادي والاجتماعي في سياقها التاريخي , ومارس بحقها قراءة نقدية معاصرة فجاء أغترابها مرحليا . الاول: الاغتراب جزء من كيان الذات الانسانية لايمكن تجاوزه , والثاني عالج فيه اغتراب الشخصية خارج ذاتها , أي خرج بالصراع الى المجال الاجتماعي -غادر الانسان بوصفه فرد - فمكنها من رفع اغترابها لوعيها بواقعها , اما الثالثة , انتقل بها من الذات الاجتماعية الى الانسانية النموذج , والتي ظهر معها التاريخ الانساني على الرغم من عائديته الى الانسان , انتاجا مغتربا في العصر الراهن ولم تعد مأساة الشخصية تبدلا في حظها او نتيجة خطأ فادح بل تتمزق الشخصية لانها لاتسعى الى تحدي العرف وتغيير القانون الفارض لغربتها . اما لغة الخطاب - النص - فكانت منسجمة من حيث الدلالة والتدليل مع طبيعة العصر , فهي لغة الانتاج لغة الحياة اليومية , العمل يمنح المفردة مفهومها الذهني وهو الكفيل أيضا بتطويرها , فضلا عن تنوعها وحيويتها وقدرتها التعبيرية عن ادق الافكار والمشاعر , ويرى ( كوبتسكي مستندا الى رأي فاختفانجر ) ان لغة برشت هي اللغة الفطرية الفصيحة والتي تستقي مادتها من أفواه الناس , وحين تكون عاجزة على الايصال والتعبير فهو لايتاخر على اقتباس بعض من الابيات الشعرية او المقاطع النثرية نازعا اياها من سياقها ليودعها سياقا آخر فيعيد انتاجها . لغته ايضا مفرغة من الشحنات العاطفية والخطابية مخافة ان تثير مشاعر المتلقي , أنها لغة حركية ينسجم فيها الصوت مع الايماءة ويتحقق ذلك في تناقضية المدلول الواحد في الموضوع الواحد معنياتيا , وموحد تلك التناقضات : خط الحدث العام . ان افراغها من تناقضاتها يعني تجريدها دلاليا من شكلها الحي المتعدد الانهائي والمستبعد لكل تكوين نهائي .أن لغته واقع الفكرة المباشر المرتبط بها عن طريق التفكير , فالفكرة صورة ذهنية منعكسة عن الاشياء والظواهر ألاان انعكاسها الذهني لايعني حتمية الدمج بين العلامة والمرجع , فالتغريب يعني فقدان العلامة مرونتها حين يقع فعل الفاعل على الفعل وعلى وفق حتمية تقود الدلالة معنياتيا الى تأكيد الصورة الذهنية بمرجعية ما لتفسر المعنى على قصدية سطحية ومستهلكة . ان الترابط الفيزيقي - المادي - بين الدال والمدلول في الايماءة والعلامة لايمكن ان يتحقق , بالاضافة الى عدم وجود اي شبه بينهما على صعيد لغة النص , ثمة أنقلاب منطقي في لغة النص البرشتي حرر وأطلق وظيفة العلامة تجاه تعددية قرائية حتمية ويأتي ذلك نتيجة عدم أرتباط ( الاستبدال الاستعاري ) - الكناية - بوظيفة العلامة القائمة على مبدأ التشابه المفترض بين الذي يحقق ما يسطلح عليه علماء ( السيميوطيقا ) العلامة الايقونية , أي ان الكتابة لاتتوفرعلى مفهوم أستبدال السبب بالنتيجة ولايمكن له ان يرتبط بصنافة علامية اخرى ( المؤشر ) ذلك لأن تلك العلامة على حد قول ( كير أيلام في دراسته العلامات في المسرح )تحيل الى الشيء الذي تشير اليه بفضل وقوع فعل هذا الشيء عليها في الواقع , ولايمكن ان تكشف عن نوع من التجاور او التوازي المادي حتى على صعيد المؤشرات اللغوية الصرفة , الضمائر , اسماء الاشارة , فالعلامات الاشارية لايمكن أن تدل الى أي تشابه بنائي بين العلامة والدلالة المقصودة فالعلامة الاشارية هي الاخرى خاضعة الى الفكرة التي تنتجها ذاتها , المفسرة , فالضمير في لغة النص لايدل على الحاكي او الراوي بل يدل على لذات المحكي عنها في سياقها التاريخي . ان الكناية البرشتية تتمرد على القاعدة البلاغية على مستوى النص فحين يخضع الكل للجزء يسعى الى ارجاع الكل الى أجزءه ليسقط مفهوم الذات او الفرد المتوحد بذاته , أما مفهوم التصدر كتقنية لغوية , فهو احد آليات التغريب في النص كاستخدام لفظ غير متوقع - تعليق - تحول وتعيق الفكرة المنتجة علاميا - المفسرات - ليصبح المحوول هو الغاية أوالقصد . أن ابعاد العلامة عن وظيفتها المقننة يكسبها نهجا يطلق عليه علماء السيميوطيقا التصدر أما كيفية أشتغاله على النص كمخرج هذا ما نتحدث ه في الجزء الثاني من الدراسة.
 


* أستاذ مساعد دكتور .
أستاذ فلسفة الفن في كلية الاداب جامعة الكوفة
أستاذ الاخراج المسرحي في الفنون الجميلة جامعة بابل
سكرتير رابطة بابل للفنانين والكتاب /هولندا

 



 

free web counter