الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

السبت 24/6/ 2006

 

 

هذا المقال واحد من مقالات وحوارات عديدة ضمها ملف الشاعر عبد الكريم كاصد الذي أ ُعد إحتفاءاً به في المربد الثالث في البصرة 2006 ، والذي سينشر كاملاً في دوريات ثقافية وكذلك سيصدر في كتاب من قبل وزارة الثقافة العراقية .
أعد الملف وقدم له
الشاعر العراقي عبد الباقي فرج .
Abdulbakifaraj@hotmail.com


النقر على ابواب الشاعر عبد الكريم گاصد


حاوره الناقد العراقي مقداد مسعود

القصيدة : حقيبته، وحين نقرأ على ابواب طفولته، بعد ذلك بسنة او سنين، انفتحت الابواب ليتسلل راحلا عبر بادية السموات ، للناس نزهاتهم وللشاعر نزهة الالام ودقات لا يبلغها الضوء وعزفه المنفرد على عموده الفقري: زهيريات تنضح بالدمع المنهمر والألم المحض كل هذه المكابدات الكاصد عبدالكريم عاليا كراية وبسيطا كحقيقة جنوبية فأهلا وسهلا به في "ثقافة" طريق الشعب التي عمل فيها في البصرة من خلال اسهاماته الوضيئة.

ترى كم هي المسافة بين قصيدتك ( الجواد ) 1974 و قصيدة ( عراقيون ) المكتوبة في الثمانينات والتي قرأتها في مربد البصرة الثالث 2005 ؟

بين ( الجواد ) و( عراقيون ) دهورٌ وأحداث تبدو غابرة ، وأناس أحياء ما زالوا يطلون بوجوههم وكأنهم من عالمٍ آخر .. عالم لم يعد موجوداً ..
ترى كنتُ فيه يوماً ؟
الجواد الذي تغنيت به هو من ذلك العالم الذي لم يعد موجوداً والذي يطلّ عليّ بإلحاح ليستردني ، ولكن هيهات .
كنت عائداً يوماً إلى البيت ، فرأيت جواداً هزيلاً مربوطاً بعربة بائع نفط فتذكرت جياد شولوخوف في الدون الهادئ ثم لم أجد نفسي إلا وأنا أستحضر ما هو غائب ، لأضعه هناك في مواجهة واقع يتصدع .. واقع لم يبق منه سوى بضعة أحلام ونيران صغيرة نشعلها وسط خراب يمتد :

لست أنت الجواد الجميل
راكضاً في السباق
لستَ أنت الجواد الذي ارتفعت في الرياح قوائمهُ
وتلوّى على وجهه في الوحول
لستّ أنت الجواد الملول
واقفاً بين حمحمة العربات
وهي تحمل أمواتها
صاهلاً لصهيل الخيول
أيهذا الجواد الذي روّض الراحتين
أنت في هدأة الريح
- أذكر إطراقتيك -
شممت دماً
واهتديتَ على خيطه للقتيل
أيهذا الجواد الجميل

في الجواد كنت أغني صاعداً جبل الآتي مستشرفاً ما سيحلّ . أما في عراقيون فقد غنيت المأساة وقد حلّتْ دون أن أتوقف عندها مبشراً مؤدياً ، مثلما كنت في الجواد ، دور الشاعر البشير المنبئ بالعودة ولكن أيّة عودة !

عراقيّون
نأتي من مغاورنا السحيقة ، نقضم الأعشاب ، والموتى نقلّبهم ، ونسهر حولهم في الليل ندفئهم ، وعند الفجر نوقظهم ، ونبتدئ الرحيل بعصرنا الحجريّ تصحبنا الكلابُ وضجّةُ الأنهار .. آلهةٌ سبقناها ستأتي والدواب توقّفت للطلق ..
جاءوا من مغاورهم
أتى من وحشة المنفى العراقيّون

في مجموعتك القصصية ( المجانين لا يتعبون ) ثمة فرشة شعرية في القص اعتمدت فيها على الاقتصاد في الأسلوبية / الاشتغال على الومضة ، فجاءت القصص ، باختزال لم يؤثر سلباً على الحركة القصصية ، وهذا بدوره يكشف بالنسبة لي عن متابعتك للنتاج القصصي قراءة ، وهنا يبرز سؤالان :
1- هل ضاق وعاء الشعر بأحاسيس الشاعر عبدالكريم كاصد فتوجه إلى وعاء أكثر حريّة ؟
2- وهل سيضيق هذا الوعاء السردي فيلوذ الشاعر بوعاء سردي أوسع وأكثر حرية ، أعني هل ستجرب الرواية ؟ القصة الطويلة ؟

تسعدني إشارتك إلى الإقتصاد في الأسلوب ، والاشتغال على الومضة ، والاختزال الذي لم يؤثر سلبياً على الحركة القصصية ، وأود أن أوضح أن كتابتي القصصية لم تكن جراء ضيق الوعاء الشعريّ لسبب بسيط هو أنّ الشعر لا يحدّه وعاء أو شكل معينين ، تماما كالنثر ، في أشكاله اللامتناهية ، التي لم يستنفدها الكتّاب بعد . وحتى أساليبه القديمة هل تمت دراستها واستيعابها لننطلق إلى ما هو أرحب منها تمثيلاً لتصوراتنا وكتاباتنا .
كتبتُ أغلب هذه القصص سنتي 81 ، 82 ولم أعد إلى هذا الشكل إلاّ نادراً في السنوات التي أعقبت تلك الفترة ولكنني كتبت مجموعة قصصية أخرى للأطفال ( سأرفق لك مع مقابلتي هذه قصتين قصيرتين منها ) ، وكتاباً يحتوي على مئات الصفحات عن بصرة طفولتي وتجاربي في المنفى . وفي هذا الكتاب يتقارب الشعر والنثر ويتداخلان ويتبادلان أدوراهما وقد يتخذان شكلاً واحداً فلاتدري أين يبتدئ الشعر أو ينتهي النثر .
لم يعد هذا الفارق بالنسبة إليّ مهماً فأنا أرى أن قصة ( مقهى ) مثلاً في المجموعة هي قصيدة كتبتها وأنا في حالة شبيهة بتلك الحالات التي أكتب فيها قصائدي . وقل مثل ذلك عن قصص مثل ( الأشباح ، الأم ، وغيرها ) .
إنني أتنقل بين الأشكال مثلما أتنقل في فضاءات لا حدود لها . لا فرق لديّ بين شكل مغلق أو مفتوح . وما هو مغلق هو في حقيقته ليس ذلك إلاّ لمن يرى ظاهره .. هل شكل الزهيري شكل مغلق ؟ ويصح السؤال على الرباعية والسوناتة والهايكو .. ولكن هذا الشكل المغلق كتب فيه أعظم العوالم انفتاحاً .. رباعيات الخيام ، سونيتات شكسبير وكلّ المحدثين من الشعراء : سليفيا بلاث ، لويل ، بيريمان ، وكثيرون . هل هذا النص الذي سأورده لك نصاً مغلقاً في شكله المغلق :

أطلقتُ في الحلم يوماً كلّ أفراسي
تعدو وتعدو وتعدو وسْط أعراسي
حـتى انتهيــتُ إلى بابٍ وحــرّاس

صحتُ الطريـق فردّوا: ماوراءالبابْ
غيرُالظلام وغيرالريح. صحـتُ : البابْ
يرتجّ في الريح.صاحوا،ثمَّ غاب البابْ

في ظلمةٍ لم تزلْ ترتج ّفي راسي

وهل كان معهوداً في الزهيري من قبل .
الآن قد تجد في القصيدة الواحدة هذه الأشكال متجاورة .

أتوقف أمام مقالتك الرائعة ( ثمن الشعر ) والتي قرأتها ضمن مخطوطة ( الأجنبيّ الجميل ) الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الذي لن يرحل ( مصطفى عبدالله ) ثم أعدتُ قراءتها ضمن المطبوع والآن أودّ أن اسألك ، بعد أن جعلنا القاص الجميل محمود عبدالوهاب ننتبه لثريا الكتابة ( العنوان ) : ترى كم عنوان اخترت حتى وصلت إلى العنوان المعبّر بحق عن شعرك وشعر مصطفى ؟ فقد كان ثمن الشعر باهضاً يليق بموقعكما النضالي الرافض لأيّ نوع من أنواع المساومة مع نظام فاشي مثل نظام عصابات صدام حسين .
من خلال المقدمة ثأرتَ لرداءة ترتيب قصائد مصطفى في المطبوع الأول بينما تبقى مبادرة مؤسسة ( المدى ) بحدّ ذاتها جيّدة في الاهتمام بنتاج مصطفى ، وقد شخّصت الأمر في العدد الخاص بمصطفى عبدالله في الثقافة الجديدة ، والآن أود أن اسألك هل أنت راض عن ( الأجنبيّ الجميل ) الأعمال الشعرية الكاملة الصادرة عن دار الشؤون الثقافية ؟

العنوان هو إضاءة . قد يكون علامة أو دليلاً . وثمن الشعر ليس علامة لها محمول واحد أو إشارة واضحة إلى عالم النص ، وإنما هو دليل لا يشير إلى جهة محدودة في النص ، أي أنه ليس في علاقة مباشرة بالنص فهو لا يضئ النص وحده وإنما يضئ النص وكاتبه . إنه الإشارة الأكثر غنى لهذه العلاقة أي أنه ليس مقتصراً على إضاءة العلاقات في النص وحده . وبعبارة أبسط إذا كان العنوان دليلاً إلى النص لإضاءته أي إضاءة علاقاته فإن عنوان المجموعة هو دليل إلى علاقة النص بالشاعر.
ومثلما يضئ العنوان النص ألا يضئ النص العنوان نفسه عندما يكون منبثقاً من النص نفسه ، أي أن العنوان يمكن أن يكون ثريا تلمع من بعيد لتضئ النص وممكن أن يكون لؤلؤة تلخص البحر .
من الذي يضئ في أنشودة المطر العنوان أم النص وكذلك المملكة السوداء
ثمة انحراف مجازي في العنوان .. انحراف غايته لا التكتم وإنما إضاءة العلاقة الأرحب من علاقات النص .
نعم ، راض وغير راضٍ
راضٍ لأنني استنفدتُ كلّ ما أستطيع أن أعمله .. لم أكتف بقراءة مخطوطات الشاعر المصورة التي بعثها إليّ شقيقه في براغ .. لأنني شككت أن ثمة فراغاً في هذه المخطوطات .. فراغاً ينبغي ملؤه ، ولكن لا أعرف كيف ، لذلك قررت السفر إلى براغ للاطلاع على مخطوطات مصطفى الأصلية . وبالفعل فقد استطعت أن أملأ هذا الفراغ أو بعضه بالاطلاع على الصفحات الأصلية التي لم يصور بعضها سهواً أو لم يتم ترتيبها بشكل مضبوط ، أو لوجود أكثر من أصل . وفي هذه الحالة عليك أن تدقق في تاريخ النص ونشره وتشابه أشكاله واختلافاتها .

ولكنني من جهة غير راضٍ لأنني لم يتسن لي الاطلاع على كل نتاج مصطفى سواء ما كان له صلة بالشعر كأوبريتاته ، أو نثره الآخر .

أنت كتبت مكاشفاتك الشعرية ومصطفى له مكاشافاته أيضاً . أين الخط الفاصل بين المكاشفتين ؟

كتبت مكاشفات عام 1974 وكتب مصطفى مكاشافاته في وقت لاحق وبين القصيدتين فارق زمني وأسلوبيّ واضح وقد لا يجمعهما غير التسمية الدالة على كل واحدة منهما وليس على الاثنين . مكاشفات مصطفى لا تشبه أية مكاشفات أخرى . لها عالمها الخاص المتداخل الذي لا يشي بصورة واحدة أو شبيهة أبداً .

في [ النقر على أبواب الطفولة ] أستعدتَ طفولتك ... هل حاولت الكتابة بلغة مجاورة لأحاسيس الطفولة وأنت أب لسارة وزياد ؟

للإجابة عن هذا السؤال أفضل أن أورد قصيدة كتبتها لابني زياد :

انشغالات زياد

مرّت غابةٌ
فناداها زياد:
" إلى أين أنتِ ذاهبةٌ أيّتها الغابة ؟ "
قالت الغابة :
" لأنزّهَ وحوشي "

**
قال زياد لظلّه :
" هل نلعبُ ؟ "
فأجابه الظلّ :
" لا أكلمك اليوم "

**
حمل زياد بيته
ورماه بعيداً
ثمّ ركض صائحاً :
" اتبعني "

**
وقف زياد
على آخر غصن
متطلّعاً إلى السنجاب أسفل الشجرهْ
هاتفاً :
" أيّها السنجاب
سأسقط بندقةً ولن تمسكني "

**
رأى زياد ظلّه في الليل
فدعاه إلى النوم
قال الظلّ هازئاً :
" أيّها المغفّل أنا لا أنام "

**
قال الطائر :
" سأضع البحر مكان السماء
والسماء مكان البحر
وأتطلّع إلى الموج "
قال زياد :
" وأنا أيضاً "

**
من شجرة الليل
إلى شجرة النهار
ومن شجرة النهار
إلى شجرة الليل
سأطلع كالقمر
وأختفي كالشمس

**
قالت الغابة :
" أنا من يخفي الشجرة "
قالت الشجرة :
" أنا من يخفي الغابة "
ثمّ وقفتا في الطريق
بانتظار شهادة الليل

**
ذهب الظلّ حديقةً
ورجع شجرةً
قالت الشجرة : " أنا الظلّ "
قالت الحديقة : " أنا الظلّ "
قال زياد " أنا لا أحد "

**
نشر زيادٌ جنحيه وطار
مناديا أخته التي وقفت هناك
مشدوهاً
في الحلم

**
وضع زياد قدماً في الغيم
وأخرى في الأرض
وقال :
" ساصعد إلى السماء "

**
أراد زياد أن ينام
فرأى خرافاً تهبط من السقف
عدّها حتّى تعب من العدّ
ثمّ تركها وحيدةً تثغو
في النوم

قصيدة كتبها زياد :

الجنود يصطفّون كالأشجار
الأشجار تصطفّ كالجنود
الجنود يذهبون إلى الحرب
الأشجار تعود من الحرب
الحرب لا تذهب
ولا تعود
الحرب تقف إلى الأبد
بانتظار الجنود

ترجمتَ لجاك بريفير وسان جون بيرس ويانيس ريتسوس ، هل من ترجمات أخرى وهل جربت الكتابة بلغة أجنبية ؟

لدي الكثير من الكتب المترجمة والمختارات لشعراء من العالم لم تجد معظمها الطريق إلى النشر، أما بالنسبة إلى كتابة الشعر باللغة الأجنبية فأنني لم أكتب ولا أعتقد أنني سأكتب يوماً . لكي يستوعب الشاعر لغته نفسها يحتاج إلى عمر كامل إن لم نقل أعماراً ، فما بالك باللغات الأخرى ؟ إلاّ إذا قصدت النظم بها بلا عاطفةٍ أو روح.

غادرت مدينتك قسراً وعدت الآن إلينا منتصراً . ترى أين تضعها ضمن مدن كالفينو المرئية واللامرئية ؟

نص
البصرة مدينة لا مرئية
ليستْ البصرة ما أرى . إنها مدينة أخرى ... مدينةُ تاريخٍ مندثر ليست في واقعٍ ، ولا في حلم .
هل عادت البصرة التي أعرفها مدينة من مدن خيالي ؟
قد تكون البصرة أثراً في الواقع ومملكة في الحلم ، التقي أشباحها هناك في سرداب مظلم أو مقهى خشبيّ مائل أو بيت مهجور.
مدينة لا تذكرك إلاّ بماض يبتعد كلما اقتربت منه .. مدينة لا تعرف غير الحجر.. لا علامات في الطريق ولا إشارة إلى ما ينبئ عن وجودٍ آخر ..
أحجارٌ أحجارٌ ورؤوسٌ تطلّ بين فترةٍ وأخرى عاريةً أو معممةً تحدّق فيك مذهولةً حين تمرّ ... وجوه لا تنتظر شيئاً كأنها وجدت هناك منذ آلاف السنين ...
وجوه لبشرٍ أو حجرٍ .
فجأةً تحس أنك جزء منها .. من أحجارها فتوشك أن تقف تمثالاً لولا أن احداً يتقدم منك ليصافحك .
هل أتحدث عن البصرة ؟
ينتابك ، أحياناً ، وهمٌ أن ليس لهذه المدينة تخوم أبداً فتخشى ألاّ تغادرها ، وحين اكتشفتَ مرة أخرى أنك اجتزتَ حدودها الممتدة بلا علامات لم تصدق . وقد كان ظنك في محله فالمدينة لم تغادرك منذ ذلك الوقت كأنّ مرضاً استوطنك فلا فكاك منه .
أنسكن المدينة أم المدينة تسكننا ؟
تدخلها فتصغر حتّى تكاد تكون حائطاً واحداً .. بيتاً واحداً
وحين تغادرها تأتيك حيطاناً وبيوتاً .. أزمنةً ومقاهيَ .. أناساً لا يبرحون أماكنهم إلى ارض أو سماء .. أناساً لا يهرمون ولا يموتون. يدخلون الأزقة ويخرجون وملء أيديهم سلال رطب أو أطفال (لعبٌ ربّما ) ، لكن هيهات أن تستريح إليهم فأنت الآن لا تسمع لهم صوتاً أبداً ، كأنهم بعيدون عنك أميالاً في باطن الأرض . إنهم يشيرون دائماً فلا تنقطع إلى جهة إشارتهم بل تتأملهم مأخوذاً بهم.
أين هم الآن ؟
وحين رأيتهم مرةً كانوا يهمّون بالمغادرة.

***
وحين تسأل نفسك : ماذا تريد من المدينة ، لا تجد جواباً ، بل يصعد شئ في سلالم روحك ويهبط حتّى تكاد تهمّ بالبكاء فتغلق أبوابك وتنصت ..
إنها الريح .. ماذا تحمل ؟
إنه الماء .. ماذا يحمل ؟
إنه الزمن يسيل بين جذوع الأشجار . ولكن لمذا ينتهي كلّ شئ إلى هذه الصخرة لتكتب عليها وصيّتك ؟
أية وصيةٍ ؟
وأنت الوارث كلّ شئ لم تورث أيّ شئ .
كنتَ تحسب أن آلافاً من الأميال تفصلك عنها وحين قطعتها وعدت كانت المدينة أنأى . تراها المدينة ذاتها ؟
لا البيوت بيوتها ولا الناس أناسها ، ولكنْ ثمة أثرٌ ضائعٌ لي أراه هناك في زاوية لايراها أحد .
ماذا أفعل ؟ هل أتتبع أثري لذهاب أم لعودةٍ ؟ لميتين أم أحياء ؟ لبيوتٍ أم خرائب ؟ أم أغمض عينيّ وأنتظر نسمة تمرّ .
كأنني ذلك القادم الذي ينتظر القارب في العالم الأسفل ليعبر إلى الضفة الأخرى .. الضفة الثانية التي لم أرها وقد حلّ ظلامٌ كثيفٌ مشبعٌ بغبارٍ يلمع في الضوء مثل كريات زجاجيّةٍ صغيرةٍ تصطدم بسيارات مسرعة تتّجهُ الآن إلى كهوفها .
كيف لم أعرف أنها غابة أيضاً .. غابة يختلط فيها البشر بالوحوش وتنصت الأشجار مرتابةً ولا يتحرك الحجر حتّى لو تهشّم أحجاراً .
ماذا أفعل في الغابة ؟ هل أمثل دور الحكيم الصامت الممسك بالرمح فلا أنطق أبداً ؟ هل أخرج لأروّض حيواناً يعدو ؟ أم أسامر البشر بقصص الحيوان ؟ والحيوان بقصص البشر؟
ماذا أفعل ؟
هل أعيد الغابة إلى المدينة والمدينة إلى الغابة ، واصيح أنا القادم بشريعة البشر : لا مكان لوحشٍ هنا؟ سيضحك البشر عندئذٍ وقد تلتهمني الوحوش .. أنا الحكيم الصامت ذو الرمح ..
من يصدّقني ؟
ماذا أفعل ؟
ماذا أفعل ؟
يقول المسافر وهو يتطلع إلى السماء علّه يجد طريقاً إلى مدينته .. خريطةً إلى إشاراته القديمة التي تومض فجأة لتختفي .. إشاراته الغابرة .
ها هو يلمح طريقاً طويلاً وسط ركام النفايات والماء الراكد الذي انعكست فيه نجومٌ بعيدةٌ باهتةٌ ليصل أين ؟
كيف أنت ؟
كيف أنت ؟
وحين تجلس وسط الأرائك لا تصدّق أنّ ما يفصلها عن الخراب مجرّد جدار، وعن سمائك مجرّد سقف ، وعن روحك مجرّد جسدٍ ، وعنك .. عنك مسافات لا نهائية لا تقرأ فيها غير نجومٍ تتوالد ، وطرقٍ تمتدّ ، ومسافرٍ وحيدٍ في سماءٍ قفراء .. قفراء ولا أحد .
هل تبكي ؟

***
وأغرب ما في البصرة سماؤها ، فهي تشفّ في الليل حتّى يكاد يضئ ويستحيل نهاراً ، فيرى أهل البصرة فيها ما لايراه الآخرون في السماء ، وقد يذهب الظن ببعضهم فيزعم أنّهم يرون فيها صورة أمواتهم وهم يتنزهون أو يقيمون موائدهم ويسمرون .. وقد تختلط صورهم بصور الموتى فلا يعرف الغرباء أموتى هم أم أحياء ؟ ولطول تحديقهم في السماء أهملوا ما يجري على الأرض. وما كان يجري في الأرض لم يخطر على بال أحدٍ ... هوام تتسلق أعضاءهم كما يفعل الهوام بالموتى ، بل إنّ بعض الغرباء أقسم أنّه رأى بيوتهم وهي تتحدب حتّى كادت تشبه المقابر ..
غير أن أهل البصرة حين علموا بما قاله الغريب ضحكوا ولم يجدوا لفظةً لنعته سوى لفظة : مجنون!
ولعلّ أكثر سكّانها مرحاً هم شيوخها الذين يتطلعون في صورهم محمولة في السماء .. خفيفةً .. طائرةً أبداً ، تتنزه بين الأموات والنجوم ، والنساء العابرات بخفّةٍ كالظلال .. حتى إنهم لم بكونوا يخشون موتاً وقد استحالت حياتهم موتاً وموتهم حياةً ...
وحين سأل أحد الغرباء : وما يفعل عميانهم ... أجابوه : التطلع إلى السماء أيضاً فلم يعلّق ...
ولكنّه تطلع إلى السماء ومضى .

***
بين سفوان والمدينة صحراء غمرها يوماً طوفان هائل فتنقلّ عليها الناس بالقفف المطلية بالقار ، ثمّ عادت صحراء ثانيةً لم يشهد منها الطفل سوى مبنىً وحيدٍ يطلّ من بعيد ، وجامع قديم تكاد منارته المائلة على الطريق أن تسقط . ويالدهشته حين رأى مرّةً ، ولم يكن طفلاً ، صديقه الذي طالما شاركه الجلسة عند مائدة العقل معتمراً كوفيته وهو يتنقل بدشداشته البيضاء بين السيارات الواقفة في محطةٍ للبنزين ، ولم تكن دهشته أقل حين امتلأت الصحراء بالبيوت دون أن تمتلئ في ذاكرته ، فهي الصحراء ذاتها أبداً .. الصحراء التي اجتازها يوماً طفلاً بصحبة امرأتين ، بحثاً عن قتيل مفقود . يتذكر الطفل الذي كان حافياً جثةً وضبعاً يقف على الجثة ورصاصة فارغةً .. ثمّ يستدرك لا لم يكن ثمة ضبع بل جثة رآها بعينيه ، ثمّ يستدرك لا لم يكن ثمة جثة بل رصاصة فارغة ما يزال يذكرها ، مثلما يذكر قربة الماء ...
من القتيل ؟
لمن الرصاصة ؟
ماذا تفعل المرأتان في الصحراء ؟
كيف تحملت قدما طفلٍ لسع الصحراء وشمسها ؟
كان العائد بين سفوان والمدينة ينشر ما طوته الصحراء .. ينشر ما طوته ذاكرته .. ينشر وينشر حتّى لم يعد هناك حجرٌ يذكّر بالبيوت الممتدّة بلا نهاية .. العارية من الظلال .. السائرة ... أين ؟ .. ولكن كلما نشر ما طوته الصحراء كلما تراكم الرمل على الطفل حتى تكاد يغطيه تماماً
ولكن لماذا تتخيله القصيدة سائراً تحت الرمل :

ذكرى بعيدة غامضة رقم1

عصفت ريحٌ
فتوارى تلٌ
وامرأتان
وطفلٌ
مشدوهٌ
يتغطى بالرمل
طفلٌ
ما زال يسير بلا أثرٍ
يبحث عن ميْتٍ يبكيه ،
وظلان
يسيران
وراءه ..
طفلٌ
يبصر ضبعاً
ورصاصاتٍ فارغةً
في الصحراء
ويبكي

طفلٌ
مشدوهٌ
يتغطى بالصحراء

***
غير أن العائد الذي اجتاز الصحراء إلى المدينة لم يعبر إلى الضفة الأخرى حين التقى بالنهر .
كم سنةٍ مرّتْ ؟!
كان النهر ينفتح ويلتقي هناك بالسماء .. نهرٌ شاسعٌ كالبحر ..
قوارب يستقلها أطفالٌ باتجاه قريةٍ على الشطّ .
يتذكّر الطفل نهراً آخر وسماءً أخرى ومدرسة تستفيق فجأة وسط النخل ليستقبل طلاّبها وافدين من مدرسة أخرى . عندئذٍ يرتفع المسرح باذخاً : ستارة من سعف ، وعلم مرفوع يتوسط الساحة – المسرح ، وطلبة ينشدون :

مليكنا مليـكنا نفديك بالأرواح
عش ســـــالما عش غانــــــــما
بوجهك الوضاح

أصداء تتردّد في روحه فيصغي :

ذكرى بعيدة غامضة رقم 2

كان النهر سماءً
وسماء البصرة نهراً
يلتقيان
هناك ..
ويرتحلان
إلى أيّ سماءٍ أو نهرٍ يرتحلان؟
إلى أيّ سماء؟
يبصر فيها الطفل
مياهاً
وسراباً يلمع
وجزيرة كنزٍ
نائيةً
وقواربَ غادرها الأطفال
( قواربَ
أصغرَ من راحاتِ الأطفال )
وأستاراً من سعفٍ
تُرفعُ
خضراء
عن الساحة
والعلمِ المرفوع
وبضعة أصوات
تُنشد
والماء يسيل
( على النخل )
الماء يسيل
يسيل ...
يسيل ...
يسيل

الساحة التي شهدها مراتٍ في الفجر وحلم بها مرات واستعاد مشاهدها في منفاه هاهي تعود بكل ضجيجها ثانيةً ولكن :
لماذا .. لماذا ما يزال العائد يسأل : أين هي الساحة ؟

في هذه الساحة التي تشبه الساحة الآن وقف مرّةً في طريقه إلى مدرسته يتطلع في أقدام مشنوقين وسط حشدٍ من الناس ، وقد راعه أن يرى الموت وهو يحدّق فيه ويرافقه إلى مقهىً في الساحة التي كانت مقبرةً يوماً .. ساحة أم البروم :

الموت في مشهد إعدام

حين سمعتُ الضجّةّ في الزحمةِ أيقنتْ
أنّ شجاراً يحدثُ أو أن صغيراً دهسته الأقدامْ
لكني أبصرتُهُ محموماً يتدافع نحوي ، فتساءلتْ
أين رأيتهُ ؟ في أيّ زحام ؟
في يده – أذكر- صرّة أثوابٍ لمريضٍ
وعلى خدّه طعنةُ سكّين
كان يحدّق في وجهي مهموماً ..
فتشاغلتْ
عن عينيه برؤية أقدام المشنوقين
ثم اعتذر وأغضى
ودعاني أن أبتاعَ له شيئاً في السوق
أو أن نشربَ شاياً في المقهى
حدّثني عن حمالين اقتتلا
( كان يشيرُ إلى الساحة )
ثم بأسمالهما حُملا
وبكى حين تذكّر وجهَ صديق
أيقظه صوتُ شجار
قال : مررتُ عليك .. متى ؟
- لا أذكر -
لكنّي أبصرتك من نافذةٍ ذاتَ نهار
تتحدّثُ عن أشياء
لا أفهمها ..
ألقيتُ على وجهكَ ظلاّ
وعبرتُ على استحياء
وارتجفت صورتُهُ المقلوبةُ في الفنجان
كنتُ أحاذر طول الجلسة من كتفيه
لكنّه جرّ ذراعي دون استئذان
وتطلّع في ساعتهِ ..
ثمّ مضينا في صمتْ
قال : أمرّ عليك الليلة إن شئتْ

1969
( من ديوان الشاهدة )

في حديث لك في مجلة ( نزوى ) تحدّثت عن عذابات المنافي وعن كلّ ما جرى طوال نزهة آلامك وكنت في كامل صدقك . ثمة رأي آخرللأستاذ محمد سعيد الصكار مفاده : " إن المنفى لم يأخذ مني شيئاً ) ، ما رأيك أنت ؟

قد نختلف في نظرتنا إلى المنفى مثلما نختلف في نظرتنا إلى أمور كثيرة في الحياة . قد يكون صحيحاً ما قاله تعبيراً عن تجربته الخاصة ولكن ما قاله قد لا ينطبق على الآلاف من المنفيين ممن فقدوا الكثير في المنفى . حقّاً لقد افقدني المنفى الكثير ولكن ما أعطاني إياه لن يعوض خسارتي أبداً

جديد الشاعر عبدالكريم كاصد ؟

لديّ في المطبعة الآن ثلاثة كتب هي : هجاء الحجر ( مجموعة شعرية ) ، نزهة الجبل ( مجموعة مترجمة ) ، أحوال ومقامات ( كتاب نثري وشعري في آن واحد )