الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الثلاثاء 2/6/ 2009



عقيل علي في دار الجمل :
احتفاء باهر بصاحب طائر آخر يتوارى

عبد العظيم فنجان
finjan_2002@hotmail.com
finjan_2008@live.com

"
انها حماقة كبيرة أن تقترف جريمة الشعر بروح نبي ، لا بروح صانع سجاد "
                                                                              أمير الدراجي

بمقدمة تحليلية لافتة ، و بإشراف مباشر من لدن الشاعر العراقي كاظم جهاد ، وبرعاية منشورات دار الجمل ، وتزامنا مع الذكرى السنوية الرابعة لرحيل الشاعر العراقي الرائع عقيل علي ، صدر عن نفس الدار ببيروت مجلد شعري ضخم ، يتألف من 250 صفحة ، بعنوان :" جنائن آدم ، وقصائد اخرى " يضم اعمال الشاعر الراحل المعروفة : مجموعة " جنائن آدم " التي كانت قد صدرت عن دار توبقال عام 1990 ومجموعة " طائر آخر يتوارى " والتي كانت قد صدرت عام 1992 عن دار الجمل ، اضافة الى قصائد اخرى غير منشورة للشاعر ضمها الشاعران خالد المعالي ، صاحب الدار ، والشاعر كاظم جهاد ، مشكورين ، الى المجلد تحت عنوان " فيما مضى " تحقيقا لرغبة عقيل ، التي ابداها قبيل رحيله الفاجع .

مقدمة الصديق جهاد كانت كافية لتسليط الضوء على " مشغل " الشاعر الراحل ، على دخيلته ، همومه ، سيرته الظافرة ، وعلى مرجعياته الشعرية ، لكن لأن هناك ثمة مايجب ان يقال لفئة من البشر ، لم تكف عن النباح ، والمضاربة على شعرية عقيل ، حتى بعد رحيله ، وايضا سوف لن تتوقف عن نشر غسيل اوجاعها المقرفة ، حتى بعد صدور هذا المجلد الباذخ ، اكرّس هذا الكلمة ، بوصفي شاهدا على مقاطع زمنية ، حياتية ، وشعرية عشتها مع عقيل علي :
تتضمن مجموعة :" فيما مضى " مختارات من شعر عقيل علي المتناثر ، هنا وهناك ، وهذه المختارات تضم 23 قصيدة ، نشرها الراحل في الصحف والمجلات العراقية ، في مراحل مختلفة من حياته ، لكن ليس بمعنى أنها مؤشر على نسف الصمت الذي احاط به نفسه ، فبدا عاطلا عن الكتابة كما يعتقد البعض : إننا هنا بحاجة الى أن نفرق بين الانقطاع عن الكتابة وبين التعفف عن النشر ، من اجل أن نفهم عقيلا ، وبالتالي من اجل أن نضعه في مكانه اللائق به ، وهذا لوحده كاف لنسف المزايدات والمضاربات .

عقيل الذي نعرف ، منذ منتصف السبعينات ، كائنا متوحدا : توحده هذا يأتي في سياقه الخاص ، وليس في السياق العام للثقافة العراقية يومذاك ، حيث هناك المركز السياسي الثقافي الذي يقرر مَن هو " فتى الشعر " ومَن هو "شاعر الحزب" : مَن هم شعراء المحافظات ، ومَن هم شعراء العاصمة : هذا المركز هو اشد ما كان يكرهه عقيل علي ، وبالتالي كان أشد حرصا على نسف مقولاته ، وقد استمد القوة على ذلك ببقائه مواضبا على رهانه الخاص في ان يكون هو مركز نفسه ، وهو وعي ينقص الكثير ممن عرفناهم ، وإن توفر فهو محكوم ببنية الادعاء التي يحوّل فيها الشاعر نفسه الى كائن فوق تاريخي ، وبالتالي لن يكف عن التنكيل بهذا وذاك ، وللاسف فإن هذه البنية : بنية الادعاء ، لا تزال فاعلة ، تطرد الكثير من حواليها ، وليس اقسى على عقيل ، في غيابه الان ، من ذلك الشاعرالذي يجوب العواصم على أنه الاب الروحي لقصيدة النثر في العراق ، فيما كان خاضعا لأوامر حزبه ، في السبعينات ، بكتابة قصيدة حب اشتراكية او عربية ، ولم يكتب قصيدة النثر الا بعد أن سمح له حزبه منتصف الثمانينات ، وهي نقطة سنعرج عليها فيما بعد .

قرأت مرة عن شاعر عراقي يقول مفتخرا ، دون ان يزن كلامه ، ما معناه : " إن صراع الاجيال يصل احيانا الى الشكل الدموي " : انطلاقا من هذه المقولة ، وانطلاقا من معرفتنا بالطبيعة المسالمة لعقيل علي ، تنكشف الهوة بين سياقه الخاص ، وبين السياق العام للثقافة العراقية ، الذي كان صراع الاجيال " الدموي ، والتنكيلي " احد مظاهره ، وهو مما جعل منه كائنا محيـّرا ، بالنسبة للكثيرين ، إذ لا ذات استعلائية ، و لا تنظيرات ذهانية : انه يكتب قصيدة ، وكفى ، ولذلك كان اصدقاؤه ، وجل مريديه ، من جنسه : بسطاء ، لكن بالمعنى الفلسفي العميق لهذه الكلمة ، يعانقون الهامش بقلب عامر بالامل .

ثمة نقطة اخرى تنسف مقولة الصمت الذي مارسه عقيل تتلخص بإشاعته ظاهرة التعفف عن النشر ، كموقف شعري من السائد بكافة اشكاله ، وقد عبر عن موقفه هذا في شهادته الشعرية التي نشرها في مجلة الكلمة منتصف السبعينات ، لذلك من المفيد جدا أن يعرف القاريء أن قصيدة " يا امرأة الخراب " التي ضمتها مجموعة " فيما مضى " هي قصيدة سبعينية ، نشرها عقيل في مجلة الكلمة ايضا ، لكنه لم ينشرها مرة اخرى ، اخلاصا للتجربة ، تجربة القصيدة تلك ، على عكس بعض مجايليه الذين رهنوا اسمائهم الى ماكنة الاعلام ، بغية الانتشار ، على حساب التجربة ، وليس خفيا على القاريء ان يقدّر الفارق بين مَن يهرول بين الصحف ، وبين من يتخذ من النار مسكنا لعاصفته .

قد يبدو هذا التعفف اجباريا من الخارج نتيجة للأوامر الحكومية والحزبية التي منعت ترويج قصيدة النثر في العراق حتى منتصف الثمانينات ، باعتبارها " مستوردة " ، ولا تنتمي الى " الشعر ديوان العرب " .. الخ ، لكن المتتبع لسيرة عقيل الشعرية ، من خلصائه واصدقائه ، يعرف أن لعقيل علي فلسفته الخاصة في النشر : حكمته الشخصية ، ولذلك من المناسب ان اورد الحادثة التالية :
اثارت مجموعتا عقيل الشعريتين " جنائن آدم " و " طائر آخر يتوارى " ، حال وصولهما الى العراق بداية التسعينات ، ضجة كبيرة داخل الوسط الثقافي ، لكن بدلا من ان يكون ذلك دافعا الى مراجعة دائبة للسائد والمكتوب ، عند كاتبي اغاني الحروب واناشيد المنتصر، تحول الامر الى مصادرة وتنكيل : هكذا انتقل الهمس المشكك بشعريته الى الصحف والورقيات ، فبادرتُ وطلبت من عقيل ان يدفع نصا جديدا للنشر . كانت علاقتي جيدة بالراحل رعد عبد القادر الذي كان يعمل كمدير تحرير لمجلة الاقلام ، وكان متعاطفا مع عقيل ايما تعاطف / طبعا لأنه شاعر : هكذا اتفقت مع عقيل على نشر النص في الاقلام ، لكن عقيلا أخذ يتمنع بعد ذلك ، حتى فوجئت به يشترط على رعد ان لاينشر القصيدة في عدد يحتوي على اسماء شعرية محددة ، فضحك رعد وقال له : " اطمئن ، قصيدتك ستظهر مع قصائد لجان دمو " فوافق عقيل ، أخيرا .

هذا التعفف عن النشر لم يكن ، بتقديري ، الا موقفا ابداعيا بحتا ، ولم يكن الا لحاجة شعرية تتلخص بمعاينة التجربة عن بعد ، يخالط هذا الموقف نوع من التعفف عن الاختلاط او الانخراط في الجوقة . قصيدة " شتاء النقود " بدأ عقيل كتابتها اواخر الثمانينات ، واكتملت اثناء عاصفة الصحراء . ولم ينشرها الا عام 1994، كذلك قصيدته " فيما مضى " كتبها عام 1990 ولم ينشرها الا عام 1994 أيضا ، وهما ، بالنسبة لي ، من اهم القصائد التي ضمهما مطبوعه الشعري الجديد .

في هذا الصدد : " التعفف عن النشر ، وعدم الانخراط في الجوقة " اتوقف ايضا – دون تسمية احد ـ عند مقال كتبه احدهم ردا على مقالة الشاعر كاظم جهاد :" عقيل علي والشعر الستراتيجي " التي نشرتها مجلة " عيون " العدد 18 السنة التاسعة 2005 الذي كان يتضمن ملفا خاصا عن عقيل علي ، يقول صاحب المقال مانصه : " مات عقيل علي مشكوكا في شخصيته " ولعمري لست اعرف اهانة ابلغ من هذه الاهانة لشاعر سلّم امانته ورحل الى جوار ربه ، ولكنها الجوقة ورد فعلها عندما يرفض عقيل علي الانخراط بها ، فصاحب المقال يقول انه اقام لعقيل دعوة شعرية في احدى المعاهد ، لكن عقيل أبى القراءة ، واتخذ من الصفوف الخلفية للقاعة مجلسا له ، مستأنسا بالاخرين وهم يقرأون اشعاره . هذه " سبة " كبيرة على عقيل إذن ، عندما يرفض الصعود الى الواجهة ، مكتفيا بجلوسه على المقاعد الخلفية : " سبة " لا تنتهي بالاطاحة بعقيل علي وهو ميت ، بل تمتد لتطال الاخرين : لا حظوا : بعد ذلك ينتقل " التشكيك في شخصية عقيل " في المقال الى " الشكوك تدور حول مساهمة كاظم جهاد نفسه في صناعة عقيل علي وتداخله في كتابة شعره .. " وليس هناك قبحا ابلغ من هذا ، فإذا كان كاظم – حاشاه – متورطا في ذلك : ما معنى علاقتنا نحن بعقيل علي ؟! ولم كل هذا العناء في ادعاء صحبته ومعرفته ؟! ومع ذلك ما علاقة جهاد بمجموعته الاخيرة التي تم جمعها من الصحف والمجلات العراقية الصادرة بعد رحيل كاظم من العراق ؟!

لا يفقه صاحب المقال ان رفض عقيل القراءة هو من جنس اشتراطه على رعد عبد القادر ان لا تشاركه في عدد الاقلام اسماء معينة من الشعراء ، وانى له ان يفقه أن عقيلا لا يمنح نور صحبته الا لمن تلمس في دواخله نورا مقابلا . مجالس عقيل علي التي كان يتحدث عنها جهاد في مقالته ليست تلك التي اشترط فيها عدي ان تثبت مواعين الشرب على الطاولات في اتحاد الادباء ، كإهانة بليغة لهم . والامتعاض الذي يتحول الى غضب جامح من هذا كله كان يؤدي بعقيل الى أن يشيع حالة من الفوضى المحرضة الخلاقة ، التي تؤدي به الى الطرد من الاتحاد ، تماما كما كان يفعل جان دمو وعبد الامير الحصيري وعبد الحسن الشذر وسواهم من الخارجين عن سنن القطيع .مجالس عقيل ، على وجه التخصيص ، هي في الخلف تماما من كل هذا ، ولقد لمسناه شهودا على ذلك عندما كان عقيل بعافيته النفسية والجسدية ، وبعد ذلك ايضا .

حسنا ..
من اجل الاستزادة ، ولمعرفة جذور عقيل علي الشعرية والمعرفية ، ومن اجل القاء بصيص الضوء على علاقة جهاد بعقيل ، أورد هذه القبسات من رسالة خاصة ، بعثها لي المفكر الراحل امير الدراجي بعد نشر مادتي :" هكذا قال عقيل علي لمفتش اللحوم " عشية رحيل عقيل صيف عام 2005.

يقول الدراجي :
" اجل كنت اقضي الليالي في غرفته على السطح ، كي اعلمه ان الطريق الى الكشف هو الالم ، هكذا كان انجب مني حين اختار الموت قبلي واوقف سؤالا قاطعا ، لم ترد عليه غير اللاجدوى والعبث وهدم النص في جسد اتقن الازدواج بين الحيوان والرب ، وكلاهما واحد ، لكن طغاة البشر صنعوا مقياسا للوضاعة والنبل ، ولكن في الجوهر كان نبل البشر لا يقاس بخوف بعير يطارده الذباحين ، لقد خلق البشر اكبر منازل الوضاعة والنذالة .. "
" كثيرا سمعت عما اثره عقل عدي صدام حسين بمجموعات خائفة ، احال خوفها قاعدة للامان ، وراحت تقيم منهجا للقبح الاكراهي ، وكان التشوه والتشويش ثمنا للبقاء ( انني ابكي قافلة عدي وكتابها ولا احقد عليهم ) ،لان التشوه والقبح والخراب كان طريقا للامان في عالم مقياسه البقاء باقل من قسمة حيوان ، هؤلاء كانوا يبحثون عن سرقات عقيل ، هذا الكسول الذي لا يقو على منع سارق له فكيف يسرق ؟ كثيرون سرقوه ، وقد راقبت صباه منذ 1963 يوم كان فرنه في محلة الصابئة ، وكنا في متوسطة الناصرية ، وهي منفى السرسرية والمشاغبين بعد عزلهم من المتوسطة المقابلة للمستشفى المركزي ..اجل ذلك الصبي الشيطاني ، كنت تركته قبل ثلاثين عاما ، عبر معركة وشتائم وصراخ وصفعة على وجهه ، حيث كنت اغار عليه من دعاة التطهير الصوفي انذاك ، هؤلاء الذين يخفون لعاب ثور ودناءة ضبع على فطيسة .

كنت اغار عليه من السهروردي ، وتأثيرات رامبو ، أو طيلسان وطلاسم أدونيس ، أن تمرد يا عقيل على قلبك ، فهو مكان غير صالح للحب ! اخفيت عنه كتاب المسرح والمرايا ، وغرفة بمئات الجدران ، لكنه اختط دروب الولد الصالح ، وكان انيق الملابس ، يمشط شعره ويسير على جسر الناصرية مع كاظم جهاد واحمد امير ، حيث لا تعجبني انذاك مظاهر الاتقان والصلاح الاجتماعي او تهذيب اولاد المدارس ، كنت اتقيء على هذا ، حينها تركته ورحلت بجنوني ، معتقدا ان روحي لم تكن روحه ، وعيني لن تغمضها عينه ، كما اعترف لي حين عدت بعد ثلاثين عاما في الشهبندر ، وبكى كما تبكي ابطال التراجيديا اليونانية ، وهو يباغتني : حسبي ان ارهابي اراد اغتيالي على باب الشهبندر، قيل : انه عقيل ، حينها ادركت انه قتل كل اصدقائه ، قتل كل من عرفه ، وبقي متشبثا بي ، حيث طاردتُ سلام حياته ، وخربت اسرته واستقامته : انها حماقة كبيرة ان تقترف جريمة الشعر بروح نبي لا بروح صانع سجاد ، علمته كيف يفرق بين المهنة في النص ، وبين المحنة في الوجود ، فبقي وفيا على الخراب وخائنا لكل بناء .. حين شاهدني خجلتُ لأن المعلم خان التلميذ ، وخان مقولاته ، هكذا كنتُ الكاذب الاخير في دنياه ، فرحل دون ندم ، لانه فقد الرهان على وجود مَن يتخيله سرا في لجة الغياب ، لكنه حين حضر الغائبون فقد الامتثال مثاله ولما تعد لديه حاجة للاستمرار .. "

تلك إذن جذور عقيل علي المعرفية والشعرية الاولى التي لم يشأ ان يفصح عنها شفويا ، تاركا لنصه ان يكشفها ، دون ان يعقب الا لمن اختصه بتعقيبه ، ضمن نفس الستراتيجية : التعفف وعدم الانخراط ، لكنه لاحقا ، وتحديدا منتصف السبعينات ، اكتشف هنري ميشو ، في افضل ترجماته ، كما ذكر جهاد ، وتماهى معه حتى الاخير . من الجدير بالانتباه ، غير ما اشار اليه جهاد في مقدمته الجميلة ، ان يتخذ ميشو من الرسم وسيلة اخرى للغوص الى اعماقه ، وان يأخذ عقيل نفس المنحى : رسومه التي بالحبر كانت تغطي جدران بيته حتى عام 1991 ، حيث من ذلك العام بدأت صحته بالهبوط نتيجة افراطه الكحولي ، وهي ـ أي رسومه ـ من جنس شعره الذي حاول ان يكون برزخا بين الفضاء الخارجي والفضاء الداخلي ، وللاسف فإن تلك الرسومات قد فُقدت ، وهو في ترحاله الاخير صوب بغداد العاصمة ، وفُقدت تاليا مخطوطته الشعرية " جنرال بروفا " التي اضاعها ، وهو يتنقل من فندق الى اخر .

الفقدان هذا بقدر مايبدو تبديدا لجهد جبار بذله كي يحافظ على مساره الشعري ، لكنه من الداخل يبدو تجليا لماكان يردده مع رينيه شار : " الشعر يأتي من اؤلئك الذين لا يعبأون به " : العبارة التي التقطناها منه ، وهي الان في غيابه تعبـّر ايما تعبير عن ذلك الزهد والتعفف الذي مارسه طيلة مسيرته الشعرية . يقول عقيل في احد قصائد مجموعته طائر آخر يتوارى : " لقد قلنا ، ولم يبق غير الانصراف " تعبيرا عن قراءة مبكرة للافق القادم الذي وصل مدججا بالطعنات .

هنا لا يمكنني ان أجزم ، كشاهد ، أن قصائده المنشورة ضمن مجموعته " فيما مضى " أو بعضها هي من مجموعته المفقودة :" جنرال بروفا " لأنني لم اطلع الا على نتف منها ، كان يطيب له ان يسمعني اياها ، لكنني اتذكر منها قصيدة تحمل عنوان :" انحدرت نسوري " وقد صرّح لي اكثر من مرة أنها وداعه الاخير للشعر . وفي الحاصل الاخير عندما تكلف الصديق الشاعر حسين علي يونس عناء جمع قصائده المنشورة هنا وهناك اشرت على عقيل ان يضيف اليها قصيدة " انحدرت نسوري " غير المنشورة فأخبرني أنها نسيها تماما ، مع انه كان يحفظها عن ظهر قلب قبل ذلك .

هذا النسيان ، في ظل ثقافة شمولية ، ومع وجود شعراء يمارسون الاقصاء علانية ، تحوّل الى نقيصة معرفية بحق عقيل علي ، فليس من حقه ان يمرض ، فهو رجل فولاذي لايموت ، لا يهرم ، لاينهزم ، ولايمرض ، كأبطال قصص الحرب العراقية الايرانية : لا حظوا المصادرة ، وليس من حق احد أن يقوّم هذا المرض كفعل ادانة بحق دولة تقتل مواطنيها ، وتشل ذاكراتهم بشظايا حروبها :
مرة اخبرني عقيل ، بعد توقيعه العقد مع دار توبقال ، ان مجموعته " جنائن آدم " سوف لن تدخل العراق ، فسالته : لماذا ؟ ، ابتسم بحزن : لان فيها عبارة خطرة :" هناك شظية سقطت في الاناء ، فسممتْ حليب الذكرى " . هكذا اذن نحن ازاء شاعر يعرف كيف " يدس " احتجاجه ، وعلله ، غير مبال بمآل هذا الدس : وفعلا لم تدخل " جنائن آدم " الى العراق الا بعدد محدود جدا ، لا يتجاوز عدد اصابع اليد ، كذلك هو الحال مع مجموعته :" طائر آخر يتوارى .. "

لكن الايام دول ، كما يقولون ، إذ هاهي دار الجمل ، مشكورة ، تعيد الاعتبار المرجو لشاعر كبير مثل عقيل علي ، لتضع غالب نتاجه امام الجمهور ، مع مقدمة وقراءة عميقة لمنجزه الشعري ، كتبها الشاعر كاظم جهاد ، كما اسلفت ، وها نحن نردد مع عقيل : " الحرب ، هي الاخرى ، تضليل لطيران الاطفال .. "


مارش لدون كيخوته

مختارات من عقيل علي

المِرْآةُ

كَمَا لَوْ جَمَعَتْنَا مِرْآةٌ
كُنَّا نُحَدِّقُ بِالأَمْسِ
مَعَ كُلِّ قُبْلَة.

مرْثِيَة
إلى عَبد الأمير الحُصَيري

كَانَ يُطِيلُ التَرَقُّبَ فِي وَدَاعِ حُضُورِهِ
ذَائِباً فِي ضَيْقِ اللَّحْظَةِ
يُحَدقُ بِشُحُوبِ البَهْجَةِ، وأَرْضُهُ قَدْ تَقَهْقَرَتْ
يُخْضِعُ مَا تَبَقَّى مِنَ الصَحْوِ
وَيَتَوَالَدُ مِنْ عَشِيَاتِ الشطُط.

"لاَ مَفَرَّ لَكَ
لاَ مَفَرَّ..."

أَيَةُ سَمَاءٍ تَرْتَكِزُ عَلَى حَتْفِكَ
دَائِماً
أَنْتَ، يَا طَائِرَ الغِنَاء؟

هُنَاكَ تَرْقُدُ ثمَالَةَ الجَسَدِ
هُنَاكَ تَلْتَقِي الثِمَارُ فِي مَرْقَى الدُمُوعِ
هُنَاكَ... ابْتَلَعَتِ الشَمْسُ ظُلُمَات قَلْبك
بِلا رَحْمَةٍ تَقَيَّأت الظُلُمَاتُ ثِمَارَ قَلْبك
كُنْتُ أبْقِي عَلَيْك آفَلاً فِي الزَّوْبَعَةِ المِيتَةِ
وَكُنْتُ، بِلاَ هَوَادَةٍ،
أَقْلبُ فُصُولَ وَحْدَتِكَ.

طير فضاء روحك

وروحك ليست ببعيدة عن داخل روحك
أنت أدرى بالنسائم تغفوا في روحك
أناملها الناحلة تداعب رغباتك
حيث المياه الطاهرة
في مدها وجزرها تمضغ وجعها على مهل
العذابات التي تجمدت فيها كل الانتباهات الثابتة
تابوت يخلع اظفاره
أولئك الذين حدقوا في الظلام كثيراً
لن يعرفوا البهجة
كذا لن يسمعوا لهجة الشمس التي تصرخ من الألم
ولن يسمعوا اغنيتها الصادحة.

مؤكداً

مؤكِّداً... مؤكِّداً أنَّني مسحوقٌ بفراغِ الطموحِ، لأنَّني لم أنتهِ بعدْ
أهرَعُ إلى أعدائيَ الأكيدينَ... ألوذُ بهم... أسْتَنْجِدُهُمْ، ومعَ ذلك
فإنني أحلُمُ وأحلُمُ، لذا أَتَعَذَّبُ، هكذا
هذه لعبةٌ لن يفهمَها الأولادُ، لأن هناكَ موتىِّ يتكلِّمونَ بضميرِ الحاضر
لأنَّ هناكَ أفراحاً زائفَةً، وكلماتٍ باطلةً يجبُ أنت تُقال
ومعَ ذلكَ، فإنني مطمئنٌ بكثير من الحذرِ إلى حرَّيتي
أودِّعُ يوماً، وأستقبِلُ آخر، وأبدأُ الثأر
أضرطُ على حياتي... أضرطُ... أضرط بكلِّ قواي الإنسانية
أدغدِغُها بضرباتٍ جدّ مؤلمة، بنفاذ صبرٍ لا خوفَ منه
ثم أتأمَّلُ أشلاءَها بهدوءٍ ورجاحةٍ- كنتُ فيما مضى لا أتوقُ لشيء،
مُضحكاً إلى حدِّ البكاء، ومتسائلاً بلا هوادةٍ: ما العمَل؟
وبعدَ أن يتلاشى أحدُنا بالآخر، أنَدِّدُ بها، أُلَوِّحُ بها، تاركاً ذخيرتي
من البديهيّات تنفذُ إلى آخر قطرةٍ، ساخراً حدَّ الشماتة
مؤكِّداً... مؤكِّداً أن صوتيَ غيرُ مميِّزٍ وسطَ هذه الضوضاء
وأنَّي مصابٌ بسيلانِ الألَمِ المُزمِن.

عندما يشع الاحفاد

المرايا واحدة
والايام واحدة أيضاً
هذا ماقاله الصبي حين تهشمت لعبته
وحار بترتيب أيامه
تعال أيها الصبي
كي نتعلم أشياء جديدة
فليس من السهل أن نقول كل ما نريد قوله
حياتك التفاتة للنور
كذلك اطراقتك
ابق
ذاك النبيل
ولا تنثن.

يا امرأة الخراب … ويا قصيدة حبي ..

تجعل نفسها ملكاً على دمي ..
هي نفسها ..
وتجعل نفسها قطة ..
تملك الحلم واليقظة ..
خذ رأسي والبسه قدرك ..
خذ صيفي وأجعله جسداً بقمر له لون العطب ..
ومن أصابعي أجعل أزمانك تتولى ..
أية حياةٍ مأهولة كنت؟
وأي يدين احتملتاني مبللاً بالجنون..
أتوسل للرجل أن يمنحني أعشابه..
وأن ينصف بقطعي..
توّسلت للرجل ذاته أن لا يكون المطعون ..
وأن لا تسفح أغنيتنا..
لكنها تجعل نفسها متاهةً على فمي..
ولأيماءة..
تقطع القصيدة..
وتجعل قلبي على السارية..
انظر..
إني أقضم الفرحة المغلقة الأجفان..
وأدثر مركبتك بموجة..
أنظر إني أقطع فيك الساحة..
وعليّ رداءً من أيامك..
***
أعبر منك..
ولا شيء يغزو مكاني غير دمك ..
اجعل الخطوة بيتك ..
وافتح الباب لعناق الشجر ..
من أين ستقودينني نحو نهارك؟
ذلك النهار الذي يسكن وجهك ..
ويترك في الظل نشيج المغني ..
واضحاً في ضجة الحضور ..
محترقاً في الهدأة ..
أعبر منك. تتملكينني. ..
قريباً من لحظتك
لماذا هذا الليل.. رجل واحد تجعلين نفسك شاهداً على فمه؟
يرتفع قلبي للسقوط ..
فتراهنين على الدائرة بكل الأنقاض..
ولا تبقين غير نجمة واحدة تتلوى خلفه ..
مخدوعة أن تتقدم ..
أنظر.. أنظر
أني أقطع فيك العزلة..
وعلي رداءً من أيامك..
***
هل يتقدم نحوك ذلك الضوء؟
والطفل في عينيك كل هذه الأصوات ..
كما لو أنه يمتلك من يدك فتقولين لا تأخذها بعيداً ..
فيرفع بصره نحو البحر.
وينادي على ذلك الحصان ..
ماذا تعطين لأسمي؟
أحياناً عنقوداً مضيئاً مثل ساحل ..
أنا أمسكه فاسمع رأسي يتقدّم نحوك ..
أحياناً زمناً راكداً ..
كان سماءً لم تطلها يدي ..

مارش لدون كيخوته

ولكن، آه، أيها المتوحد، فلتبتهج!
ففي يديك العاريتين تتلامع بضع شظايا
متوهجة!
بقية ليل قتالي، عزيز، راحل.
((اوكتافيو باث))

انها المساحة نفسها
انها الروح نفسها
- الروح المرتلة من عبء حملها، الذي يرشح
بالازرق نفسه
نشيد تحوكه اصابع الشمس
وتاريخ لانعرف من شيده! ولمن!؟
انه المتوحد
انه يمم روحه صوب انهيال شمس السناء
الجاحدة
انه نقطة الماء المشطورة
لقد صارع
لسانه النحيل ينطق ببعض كلمات أخيرة
والآن
هوذا زمن حضوره الآخر
زمن حضوره الذي يقلب النهر
وينحت سحابة ضد كارهي الدلافين
وضد كارهي طير المنابع الحارقة
انه المتوحد
انه الفضاء، واحشاؤه، انه الفضاء نفسه
أمام الملأ
حزمة من النجوم لطخت المرايا بشمس
النبوءات
كانت تلك معركة أخيرة
معركة الأفراح الأخيرة
ياللهفة
أفراح صغيرة متآكلة من اللهفة
كانت المعركة الأخيرة
للمتوحد الذي رصدت اسمه الجمرة التي
انحنت له.
تقدم
تقدم بصدرك الهزيل، ولا تأبه بشيء
يازمنا من عقيق
يعلن بدقاته انهيار مرتقى الشمس
ان الكلام يتنفس من زوبعتك
والقوة القديرة
أمان ناضجة – هي حبيبة لعناتنا
لكنه الزمن نفسه
إذا ما تحدثنا بغير المألوف
كمن يقذف بعيداً صيفا لا صلاح فيه.
اقتربي يا غدران
هيئي زهور اسمه الهاذي
انه يهيء موعداً مع العناصر، تحت رحمة
الغبار
غبار المعركة الأخيرة
ونشيج الظلام الذي يكسر قلب الريح.
لكن أيضاً
هي ذي الزهرة الفانية
تحرك من ليلها الأخضر بدءاً جديدا لك
وتقود الضحى الاعمى إلى زريبته.



 

free web counter