الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأربعاء 3/2/ 2010

 

 الفن الكلامي ونوازع الانفعال والميول في إنشاد حامل الجمر

جعفر كمال
j.kamal@hotmail.co.uk

لم يختصر شعراء الحداثة على لون أدبي واحد، بل ذهب الكثير منهم إلى أجناس أدبية أخرى، كالقصة القصيرة، والرواية، والنقد، فشرعت لهم مناهلها، ومنها غرفوا ما استطاعوا كل حسب قدرته وإحساسه وتوازنه المعرفي والإبداعي، وبهذا اليقين المعرفي تساوت هذه الأجناس الأدبية بتحصيلها الإبداعي، في المقدار والفروق والمخصص اللغوي للألفاظ، مع مراعاة نحو هذه الفروق والأحاسيس المرسومة في مسالك الخيال، الذي يصاحب عواطف المبدع المتواترة في الوزن والكم، ومقدار الخيال الذي يبني الكيفية الفنية في المفاضلة، التي تهتم بالذوق وحلاوة ألفاظه، فقد بنيت جميع الفنون على الظاهر والباطن من مجسات حركة الأشياء ووظائفها، حتى الفنون غير الكتابية كالرسم والموسيقى والنحت، تميزت أذواقها وطرائق تأثيرها على الحوار الداخلي في مسيرة الخطوط وتمازج الألوان. وإذا كان الأمر كذلك، كان الاختيار محسوباً بين هذا الجنس وذاك، وعلى هذا النحو يجري التفاضل بين الأدباء كل حسب ما يعتمر به ينبوعه، وهو ما يفصح عنه حال النص سواء كان شعرا أو قصة أو رواية، وإذا تأملت تميز الصنعة، وجدت الفارق في حلاوة ألفاظها ومعانيها وإيقاعها وموسيقاها الداخلية، من وحي إشراق الإحساس وتباينه. والفارق هنا بين هذا المبدع أو ذاك، يعتمد الصنعة في جمالية النص أو رداءته، حيث أنك لا تكاد تجد أديباً يقتطف من حلاوة اللغة رحيقها، ولا يعطيك من المعاني رؤيتها الواضحة في التقريب والتسهيل، إلا من هو عليم بصنعة هذا الفن، فكما أن الأديب يخلق نصاً مكتمل الإشراق في ما تعتمد عليه الرؤية الكاملة للمعاني، وتلاقحها الفني في ما يختص بالبناء وتناغم الصور. تجد أديباً آخر لم يضع في حساباته هذا الغرض الذي يعتمد نجاح هذه الخواص، فسواء دنت أو نأت لا تخصه بشئ، فيبدأ بحشو ما تسمى بالقصيدة أو الشعر أو القصة أو الرواية، حتى ليذاع عنه أنه مختلف.               

في دراسات سابقة تحدثت عن أهمية حساسية البناء بشقيه الخارجي والداخلي في النص، كونه المحصل الجمالي للأجناس الأدبية، أي اتصال الخلايا الشعرية الباطنية التي تتنهد نبضاتها فتتلازم لتؤسس فنية الانسجام والتوازن، لكي تكسب النص خفة، ورقة، وجودة، ولذة المقروء فيها، وسهولة المسموع منها، وهذه النتيجة ترجع إلى أحد أمرين، فأما أن يكون الشاعر واعياً لمقتضيات دقة تشريح المركبات الجزئية للمعاني، التي من المفترض أن تنسجم فؤادياً لبلوغ أهداف نجاح النص. وأما أن يكون الشاعر خارج النص دلالياً وروحياً فتكون القصيدة مؤلفة وخالية من الإحساس والتنبؤ، ومن هنا يمكن فصل كيفيات القراءة الموضوعية للنص، بين كيف البناء، وكم الانسجام بين الشكل والمضمون.

وتأكيداً لهذا ينبغي على الشاعر التعامل مع الأشياء وظواهرها وحركاتها من خلال حساباته للواقع، بوصفه الوعاء الحاوي للأحداث. سواء كنا متفقين معه أو رافضين له. ومن مبدأ جدلية هذا المنطق يجب أن نعتمد تجاوز يقين المطابقة بين: ما هو تناسلي مع إيقاع النسبة الحاصلة، وحقيقة الاعتراف منا  بوجود التفاوت الإبداعي، الذي اعتمد صناعة النص الأدبي، أي الإيقاع المستمد خاصيته الفنية من الحياة.                 لتحليل عناصر البنية الداخلية، وما استوحت من المعاني الدالة على تنظيم الرؤى البصرية، وبسط حركة الأفعال المحصلة لتقديرها الإلهامي، من رؤية قناعاتنا الشاملة، بمنهجية الأنا المثالية المفكرة، المركبة من شتى الانفعالات، والرغبات، والغرائز، والميول، في إحساسات الذات الواعظة على شمولية التدبير المنسجم في فنية الكلام، المشخص في رؤية الجموح الانفعالي عند الشاعر.

ومن مبدأ هذا التصالح الذاتي، برزت شخصية الشاعر كفاعل نموذجي، يسعى إلى تصحيح المتداول من الأفكار المزدوجة في التفكير المجتمعي الجديد، الذي اعتمد منهجية الفكر المتطرف، المتصل منه بالميول المذهبية القاطعة في المعتقد. والمنفصل منه عن تلك الميول، الذي يقيم تمييزاً تشغيلياً للحقيقة، بين واقع آليات التفكير العقلاني، وبين الفهم الذي يصادر أحقية الرأي المختلف، ولإدارة مثل هكذا حوارات متزنة بالموضوعية الصريحة الشفافة، يجب العمل على تطوير الشخصية العراقية، لا دحرها، ومنها السماح بإقامة نشاطات ثقافية وفنية وفكرية.

اعتمد الشاعر عادل مردان في مجموعته الشعرية الأخيرة، "إنشاد حامل الجمر" الإيقاع الصوتي المنبعث من تجليات اللفظة وبواعث سرائرها، مركزاً على إثارة البوح الطازج من قارورة مناداة إحساساته التي أدت إلى مركب الضوء الفني، من نبض تدفق خياله الشعري، وبسط تداعيات أثرها على المتلقي بروية وعناية، من خلال تعاطي حساسية أدواته ذات الإيقاع المؤدي لحنه على أوجه عدة، وهي أي هذه الأدوات قد تصافت وأسلوبه بين المنطوق الفني من الكلام، وبين العرض المُشاهَد الذي يحتمل تفاعل مؤديات تجاذب مساراته البصرية، فيما يختص بماهية الأنواع والخواص. يقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني في تعاليمه البلاغية: "أعلم أن الكلام هو الذي يعطي العلوم منازلها، ويُبيّن مراتبها، ويكشف عن صورها، ويجني صنوف ثَمَرها، ويدلَ على سرائرها، ويبرز مكنون ضمائرها." هذا الكلام الواعي بمنطقه الحساس، الخالي من اللبس، يعتمد على تنويع جاد في تبسيط مفاهيم تواتر مشتقات اللغة، البيانية منها والفنية التي لا تخضع لمقياس. وهذا ممكن أن ينطبق على كل شاعرٍ من المفترض أن يكون على قدر عال من الوعي، بمنجز سيطرته على مخارج ألفاظه، والتحكم بخلجاتها عن قرب: كما يتجسد هذا في قول الشاعر عُمر بن أبي ربيعة، وهو يقصر اللوم على النفس:

           تَهِيمُ إلى نعمٍ فلا الشَّملُ جامعٌ      ولا الحَبلُ مَوصُولٌ ولا أَنتَ تَقصُُرُ 

فالشاعر لكي ينمو في المكان الصحيح، يجب أن يبقي الباب مفتوحاً على مغايرة تلوح في مشارق أدواته، التي تمثل أسلوبيته الخاصة، على اعتبار الشعر مصفاة حقيقة للغة يوصل الشاعر من خلالها للآخر تنهدات: تمرده، وشغبه، وعناده، واستفزازاته، وفضائه، وزمانه، وتفعيل مطارح بياناته الصوتية، لما في هذه اللغة من خزين معان تنور النص وتبوح بمتعته، من الوعي الكامن في سمّو تعدد مجالات الشاعر الإيقاعية، والفنية، وموسوعة ثقافته، وخيالهُ المفترض أن يسمو على منبر تلك الحروف ويناشد شدوها، على متن مغامراته الكتابية التي توعز لنصوصه متعتها، بما تعنيه هذه المغامرة من بحث عن أسلوبية تنم عن إثارة في الشهوة الإبداعية، ومشيئتها المادية التي تدل إلى استنطاق الواقع بوصفه المعبر الدلالي عن تفاعل الرمز مع الخصوصية الحياتية، بما تعنيه هذه الخصوصية من بحث عن إشارات، ونوازع، وعقد، وأحداث يريد الشاعر أن يوظفها لمقادير فنية معينة يختص بها، مع قناعتي: على الشاعر أن يتفاعل مع فضاءات ثقافية متعددة الرؤى والاتجاهات، يجس نبض كل خطوة يخطوها مع تلك الفنون والمعارف، محاولاً الاستفادة منها  على قدر المستطاع.  

والمعروف عن الشاعر مردان، وعبر أجوائه الخاصة التي ترفض المحاور، والتكتلات. نجده يحاول جاهداً أن يفلتَ من المؤثرات الجانبية، التي تحاول تنظيم قدراته الإبداعية لمحاورها، مع ما يصاحب ذلك من وضوح في رؤية الشاعر على أنه من فصيلة تترفع على سلوكيات غير واعية لمستواه وعناده، ومشاكساته الساخرة التي نالت حظوظها من الاستحسان والتفرد، لأنها متأتية من استنطاق الآخر بأسلوبية منقود الناقد.    

في الوقت ذاته نجد الصورة الشعرية عنده في كثير من الأحايين، تظهر واضحة في الأنا المردانية المرحة بشغفها التنويري، على إنها قوامة على الشعر أجمعه، وهذا بتقديري هو الجزء المختَلَفْ عليه مردانياً مع الناقد المعاصر، ومع هذا فليس في الأنوية المفكرة ما يعيب، لا بل من حق الشاعر أن يفتخر بمنجزه الشعري المتفاعل ايجابياً مع القارئ، وإذا كان الأمر كذلك "فإن حقيقة الإنسان معنىً كامن فيه" وهذا ما عبر عنه: أبو علي الفارسي. وهو من الأئمة الزيدية. وبتقديري لا وجه غير ذلك في هذه البنية المدركة والمحسوسة المشار إليها. مع أن أبن الأثير، 555- 630 هجرية عاب على الفارسي المقالة، وهو مجافياً للحقيقة. في معرض كتابه: "اللباب في تهذيب الأنساب" فإذا كنيَ الشاعر نفسه بالصفات العظيمة والحميدة، فهذا الطبع عدَّ من المفاخرة، ومع هذا عليه أن يروم بإحساساته مرتبة التعطف الجمعي، مع ما يتطلبه التغاير في ما تحمله نصوصه من تنويع في المضامين والمقادير النوعية، كقول أبي تمام :

   تَرَدَّى ثِيَابَ الموتِ حُمراً فما أتى         لها الليلُ الاّ وهي من سندُسٍ خُضْرِ

مع محاولة مردانية منه إخفاء مجسات الأنوية، ومقاديرها، ونرجسيتها، وعصفها، مع أن ما نقرأه في تفكيره الباطني، نجده يؤمن إيماناً مطلقاً بهذه الرغبة، أو حتى إنه يتلذذ بأجوائها، ربما من مبدأ الدفاع عن الذات. وحاله مبنياً عبر مؤثرات تعلو به لأن ينمو في شرنقة الأنوية العاطفية، أو الأنا الأعلى، يحثها أن تؤصل فيه نقطة الارتكاز المثالية، فجعلته قواماً لنضوج شعري متفرد بخاصيته، مع بعض المآخذ التي سوف نأتي على ذكرها لاحقاً، فهذه الرغائب، والانفعالات، والحلول الذاتية التي تتجسد في توليف المشاعر المرهفة بحساسيتها، أي مقدار قيمة النزوة في عشق الذات الفريدة، شكلت شخصية الأنا الجامحة، حيث تجد المبرر النرجسي معلن في أجوائه الشعرية المثيرة.

كل شاعر تجده ميالا لفنه وعشق الذات الإلهية فيه، أي كل كائن بشري هو إله قائم بذاته، فكيف إذا ولد هذا المخلوق شاعراً؟ فهو يعتبر إلى ما آلت إليه شاعريته، من نوازع ورؤى يبصرها متجسدة في وعيّه الداخلي، يتحسسها لغة تؤسس لوعي مركز وخاص، نسميه الوحي الإبداعي العالق في المخيلة، حيث يؤسس منعطفات المغايرة، ويتساوى وحدانياً في نوازعه الإنسانية، وخصوصية رؤيته المشخصة لعناصر الطبيعة، من خلال قيمه الوجدانية الفاعلة إبداعيا لأدبٍ ناطقٍ بالإيماءات، والنوازع الفؤادية، والإشارات، والتنبؤات، والرؤى المجردة، والحوافز النفسية، وهذا حال من اصطفاه الشعر ليجعله نبياً في رؤيته المادية للأشياء، المشغولة بالتفاصيل اليومية المؤثرة تأثيراً فاعلا في جواز الكشف عن تعدد طبائع الإيمان، والطاعة، والاتباعية لمعتقدات الخوف الكامن في الروح البشرية. فالشاعر يرتقي بقيمه النوعية الإنسانية الموحاة له إرادياً، وهكذا نرى أن كمال الإبداع لا يتصافى عند الشعراء بقيمة واحدة، وخاصة عند ممن اكتسبوا عاملا: الإبداع، والموهبة بآن. فكلما زادت ثقافة ووعي الشاعر بمكونات الحياة وعلومها، وثقافاتها، وأساطيرها، زاد اقتراباً من السمو والنجاح، كما هو الحال في تجربة بدر شاكر السياب، حين وازن المسافات الشعرية ونسبها التقديرية رياضياً، ووظف الأسطورة توظيفاً متمماً لإكمال خاصية الرمز من جهتي المعنى، والإشارات، فالأول أصبح بالإضافة تاماً، وأما الثاني فأصبح بالإضافة معبراً. معلناً عن تأسيس فضاء فني خال من القاموسية، والقيود البنائية، يختص بمنجز تحرير اللغة المعاصرة من قيودها المعقدة، إلى سمو بنائها الإيقاعي، مركزاً على التجديد، وتفاعل الاختلاف، واستخدام الأسطورة والرمز، مع مآثر شعرية فاعلة.

والشاعر عادل مردان واحد من مجموعة صغيرة من الشعراء بقيّ معلقاً على ريح خفيفة الهبوب، لم يحسم الأمر كما فعل غيره من الأدباء العرب، فبقي الشاعر ينهل من فيض الجملة الشعرية في القصيدة الحرة الحديثة: التحليق في فضاء مباح تارة، ومن فيض حلاوة الجملة الشعرية العمودية: البلاغة الاستدلالية تارة أخرى، ولكن كيف يلعب خيال الشاعر هنا على جرفين تربطهما اللغة، ويختلف فيهما عصب التشكيل الشعري؟ في حكم تقتضيه الصفة المحسوسة والتخيل المفتوح على أوسع مدياته البنائية، لأنه إذا اختل البناء اختل توازن النص، فالمماس الخيالي تجده غير مواز لمحور الذات المطلقة، عبر مديات الرؤية الانفعالية، وتصاهر نقاط الانعطاف التخيلي، المحاور الحسي الوجداني في مهماز نبض العاطفة بأوسع احتمالاتها، أن ينتج بداية تولد من الرقة أو القوة لشاعرية تقترب فتمس الوجدان، حتى تحتفي بقراءة تلزم القارئ بمتعتها، لتغني مقاصده وترضيه.

ولكي نتفادى الحرج، علينا أن نؤسس منظومة ثقافية واسعة في تنوعها المعرفي المغاير، وذلك بتنقية وتشذيب أدواتنا المحصنة إفادتها من ثقافات مختلفة، مقرونةًً بما حمّلته الطبيعة للمبدع من ملذات جموح الشهوة الإبداعية، وعلى هذا الأساس بدأ التسارع المعرفي في المدرستين الجواهرية والسيابية من مبدأ الخلود الذاتي في الاتجاهين، وقد عمل مردان بنشاط كما لمَستَهُ في مجموعتيه الشعريتين: "من لا تحضره السكينة" و "إنشاد حامل الجمر" "، على إطلاق صراع المنظومة الإبداعية إلى فضائها المفتوح، هي ذاتها تلك اللمسة التي ميزت شعراء المدى السيابي، وقد ظهرت هذه الملامح جلية، خاصة عند البعض من شعراء الجيل الستيني.

ومن وعي مدركات هذا التفاعل، وبُعد وزنه المعرفي، ومقاصده البلاغية. ولدت عن قرب صورة الشاعر الموهوب. من وعي إرهاصات التلاقي النفسي بالإحساس الهرموني العاطفي، الذي أسس لمقومات تشذيب اللغة في نصوصه ذات الخصوبة المردانية، الذي أكسب الصوت والإيقاع حسن التلاحم والتلاقي والتقابل في النص، فأكثرَ من تنويعات أعماله، وتداخل آفاقها الفنية عبر إيقاع الفعل الداخلي، وبث روح الإحساس في جوهر الصورة، وتحصين تقليب خاصيتها الإبداعية، فأحسن استخدام الكلام، وبناء إنزياحاته الدلالية في هذا التشكيل المؤسس لخاصية الشاعر:

طرقٌ شائقة

لاقتناص سكينة ما

على الدكّة فرائصي ترتجف

ربّما يأتي من يحمل كلمات الاطمئنان

كلّ يوم يأزفُ الموعد

فأعودُ خائباً تحت أزير الومضات

الورقة الشعرية الأولى تعلن حضورها، من البوابة التي أهلت الشاعر للتجديد الحاصل في مجموعته الشعرية "إنشاد حامل الجمر"، من حيث البناء بشقيه الداخلي والخارجي، والتأثير الحاصل في سرعة وجوب توصيل الصوت المنبعث من اختصار الجملة الشعرية، وجواب تأثيرها على الآخر. 

وكون الشاعر عادل مردان تجنب بوابة المصالحة والمصارحة مع السلطات، التي تخنق أنفاس الناس من أن يتمتعوا بقليل من المتعة الحياتية، نجده قد أكد خطوة شاعريته الجادة في تميّز تمردها العنيف على التخلف الحاصل، فمن ذلك نقول إنه يمكن أن يحث ذاته على العزف منفرداً على وتره الخاص، ومن أحقية هذا المنطق نضع إبهامنا على نبض شاعريته ونقرأ هذا الإحساس:

لا تتأخر عن اللمح 

إذْ تعتصرُ روحَك المحن

يشوقكَ عصرُ الممالك

رأفّاً في نسائم الندى

يمدّ لك الملوكُ عطايا

فتلوذ عابثاً بكلمات

الخطاب موصول للذات، وهو كما يفيده السياق، يلوح إلى أن الصيغة التحذيرية التي بني على مؤداها عنوان هذه القصيدة، إنما هي ما يعلن المنقول في كلامه جواز الحوارية الصامتة، التي تؤكد الخشية في اللاوعي السلوكي، من المجهول المتربص بالشاعر وفنه، أي الخلاف بين الجنس الأدبي، وما يُحمَلْ عليه من الآخر. لأن الشعر الذي يعرض جهة خاصيته، يشكل المكون الحسي الذي تتكلم منه الشخصية، لا المكونات مثل: "المحن، والندى، والعطايا" فالمؤديات الحياتية هنا: إما أن تعبر عن الإتيان بمنطوق يدل على أحقية فائدة المضمون، وإما أن تكون في الشكل مصممة ببراعة ومنسجمة بالمضمار الداخلي، وهذان وجهان من المفترض أن يمنحا بلوغ الغرض إتمام منطوق المعاني مشيئتها، لأن الشاعر أراد أن يلزمها اللمح والترقب المؤديين لجلالة الخوف الكامن في النفس، لأن صورة: "إذ تعتصرُ روحَك المحن" صورة تصنف المباينة الدالة على أمور يتوجس منها الشاعر وهو يخاطب الذات، بإحساس يدل على وعي كامل بالقلق، في حال أن تهاجمك الرزايا فتعتصر الروح بالمحن، فما يظنه لا يُفهم من تأكيد حقيقة معينة، إنما يُفهم بطريقة الحدس، لأنه استخدم ثيمة "إذ" التي تعبر عن الوعي المباح أثره على الآخر . والدليل الإشارة إلى أن الفعل لم يحدث بعد، لكنه يشير إلى نوع واحد يحتمل إرشاد خاصية حث النفس على التمرد والعناد، بما يتفق الحال مع الأنواع مثل: "الممالك، نسائم، الملوك، الكلمات" وهذا تطبيق إيعازي يتناسق مع الوازع الداخلي للمعاني، أن تتفق على وحدة معينة، تحرض الذات الفاعلة على أن تبقى في حالة احتساب دائم، بعيداً تماماً عن المبالغة، التي حث الشاعر الذات على أن تؤسس لاقتناص مداها غير المرئي.

الخشية: عقدة تصاحب الأبطال والرؤساء والعلماء والمبدعين ومنهم الشعراء، كلّ حسب إنتاجه، فالشاعر يخشى ضعف نصه وعدم تمكنه من التميّز، على نصوص لشعراء آخرين، وحتى لا يكون هذا النص جثة هامدة تلسعها سياط ناقديه، وهي بالتالي دلالة مستقلة، فالمخاطبة موجهة للنفس أن تظل يقظة في ثيمة "اللمح" وبما أن اللمح دلالة بصرية قال: "لا تتأخر.." أي إضافةٌ إلى قائل متصل بفعل الشيء غير الملموس، بمعنى ثبوت وتوكيد الظن بالمجهول، واللاوعي هنا هو الذي ينبه الشاعر إلى أن يحترس، ويبقى حيوياً وفعالاً في لمح فعل الآخر منه، وهذا ما يؤكد استمرار عزفه على صيغة التمني غير المؤسس للفعل العقلاني في قوله: "يشوقك عصرُ الممالك " إذن فقد كشف عن كيفيات المحصل النهائي على مبدأ تفاضل الأقوال وأفعالها ذاتياً، مع معدل القسمة على أساس التباين والتباعد إلى ما ينافي ويؤكد الظن، مع جواز عدم شرعية ما ورد من احتمال، إلا أنه تابع شكواه في صورة أخرى مشابهة، وقد تكون مكررة في المعنى، تحمل ذات التوجس الذي استوت في سياقاته الإشارات، وموضعها الدلالي يقول: "اصطفاك الزمنُ لشقائه" ومع هذا تجد الشاعر يقف مع قريحته على حافة النزاع مع زمنه والآخر، علّه يفعل شيئاً مهماً، ربما يكون شعوره بالإحسان دون الإساءة. ومع هذا فهو لم يعتل منبراً ليظهر فرقاً بين المدح والتزيين، وبين الذم والتهجين، فالشاعر إذ هو هكذا، إما إنه لا يمتلك القدرة على المواجهة المباشرة من ظلم ألمّ به، أو إنه يكتفي بالهجاء، وهذا الحل هو أضعف الأمور، الذي يختارونه ممن لا يمتلكون المواجهة الصريحة والقوية المدعومة بالحجج والبيان الدامغ.

أن المهارة التي ميزت مردان ولدت من أدوات أسست للغة تولد لغة، جعلته يلمس الخافق الإبداعي المنظم لروابط جماليات النص، وبما إنه لم يطرق باباً أدبياً آخر كالقصة، أو الرواية، أو حتى النقد، نجده مركزاً على تفعيل إنتاجه الشعري، كون الفائدة ليس في الكثرة المكررة المعقدة، التي حاول الكثيرون من الشعراء أن يخدعوا القارئ بها، إنما النوع والفائدة في القيمة الفنية النوعية التي تستوفي المقدار الكافي، من تجانس المعاني وحوارها المفترض أن يفيض بالتفاصيل اليومية، في ثبوت ترتيب الصور ومعالجاتها النوعية، ومن قولنا هذا نبين البصير المختلف :

ذكرى السطوع

تضحكُ الساحة، المرأة تضحك، وأنتَ تضحك

والغراب يثرثرُ على المدخنة، المرأة تضحك

وأنتَ تضحكُ، والغرابُ يثرثر سارحاً

الساحةُ نشوى

والمدخنةُ نشوى بجنونه

يشدو في عربة البرق، وقد يجزع من الإرشاد

يتمطّى باسماً إذْ سرّه تفانيه، فما يزالُ حصوراً

المسبحةُ تبوحُ له: أنت سيد الناس

هذا الغناء المردان أسس لمعالجات شاعرية اجتمعت معبرة عن معنى واحد، هو العشق النوعي المتبادل بين: الضمير أنا، وبين مفاهيم حداثية زرعت فأينعت ثمراً في نصوصه، فنهلت رؤية أحداثها من مصب الواقع المعاش، وكأن كل قصيدة نمت من أفكار حفرت في الزمن صيغتها، هي بالأساس معالجات مسوقة لمكونات طالما أشركها الشاعر أدوات تعاشر الأماني، كأفكار منشورة في الوعي الإحساسي، المنمي منطقيته لخزين يتفاعل مع وعي ثقافات تعبر بدلالاتها معالجة الأحداث المألوفة منها، وغير المألوفة أي المبتكرة.

فالعنوان: "ذكرى السطوع" توصيف لغوي يوحي بالتلذذ ببهجة تستبطن المعنى المشار إلى قناعة الذات بالنجاح، ولكن هل القناعة وحدها تكفي لأن توظف القول إلى الفعل؟ من مبدأ شغلانية التحكم بالفن الكلامي، وما يبوح به من إرهاصات تنوعت مراتبها ومنازلها الفنية المركبة، في ترتيب الجمل وتهذيبها الذي يؤدي بالمعنى إشراك البصيرة بالمشار الدلالي. فقوله: "تضحك الساحة، المرأة تضحك، وأنتَ تضحك." تدل إلى أن ثيمة تضحك جمعت العناصر: الساحة، المرأة، أنتَ: المعبر عن السياق العام البصري المخاطب للذات بما توحي من علاقة جوهرية ذهنية بصيغتها غير المباشرة. فجاءت العناصر الثلاثة المشار إليها أعلاه = تضحك. وهي في الواقع تعابير معنوية أحكمت أطرها الداخلية المتمثلة بالمضمون الحسي للأشياء. فإذا رأت البصيرة: الساحة تضحك = المرأة تضحك = أنت تضحك. يَنْصَبُ المعنى هنا في دائرة محصورة في علانية التعبير البصري، فتكون الجملة الثانية مسوقة للأولى، من أجل بث واعز المعالجة في البنية الداخلية، لذا يستحسن أن تكون الصفة المشار إليها بالضحك: معبرة عن الاختلاف في ظاهر الوضع اللغوي وسياقاته الفنية، لا عن التساوي في ظاهر وضع اللفظ وأحكامه المباشرة، لأن سلامة المعنى من سلامة الإيماءة بالشيء، والإيماءة التي صانها الشاعر لم يفعلها، بينما هي فاعل المحور الدلالي للتعبير عن مقدار بلاغة القريحة، وتناغمها، وتفننها، وتلاقحها مع الفن الكلامي، خاصة بعد إعلانه النثري الحسن في قوله: "الغراب يثرثر على المدخنة" ويلحقها بالرابط  النثري "المرأة تضحك" و "أنتَ تضحك" و "الغراب يثرثر سارحاً". والملاحظ أن أثيمة "يثرثر" أكدت التوظيف البيولوجي الحيواني في الميول الحياتية المكتسبة من التكوين الفسيولوجي لطبيعة الغراب، فقد تحدث علماء علم السلوك الحيواني: "أن الغراب بطبيعته السلوكية مجتمعي مع بني جنسه"، فتجد على الشجرة الواحدة أكثر من عش للغربان، أي أنهم يعيشون متجاورين، وغير متفرقين مثل بقية الطيور، والغراب يعيش مع زوجته وأطفاله بعش واحد، وهو الوحيد من الطيور الذي يقوم يدفن موتاه، ونعيقه الذي سماه مردان الثرثرة، له دلالات ورموز، أي أن لغة الغراب مشفرة بطبيعتها، لا يفهمها إلا الغراب الذي هو من نفس الفصيلة، والغربان فصائل عديدة. فالغراب دائم الحديث أي النعيق لتوصيل رسائله الموحية بدلالاتها إلى بني فصيلته، ومفردة "سارحا" جاءت متممة لمعانيها الدالة على لغة الفرح الخاصة، التي جعلت الشاعر يستوحي من ثرثرة الغراب، الحرية البديلة لكي يطلق العنان لأفكاره أن تسرح بمتعتها كما تشتهي .

يستمر الشاعر في العزف على أسلوب محاضنة الجمل الشعرية بتكرار رابطها "تضحك"، وتضحك تتحد في السياق، لكنها تضعف من القيمة الدلالية للمشار البصري، ومع هذا فهي تتابع العزف على نمطية فنية ابتدأت مع ولادة القصيدة الحرة، التي تبرر تكرار الكلمات والجمل أكثر من مرة في قصيدة واحدة. أما في هذه القصيدة "ذكرى السطوع" فلم يشكل التكرار خللاً ذا عيب بليغ، لأنه الجمل المتعانقة بسطوعها أتت تستفيض بإشاراتها الملزمة لبعضها.

نقرأ المتشابه التصويري الذي لازم توصيل السياق المنساب معانيه في رشاقة اللغة، التي أحكمت الطباق الفني، فسهل وقع الكلام على السمع. مع أن اللازمة الشعرية لم تتحرر كلياً من الاتباعية التقليدية في العموم. وقوله:  "الساحة نشوى / والمدخنة نشوى بجنونه / يشدو في عربة البرق، وقد يجزعُ من الإرشاد / تسرع العربة". تحاورت المشاهد في المحصل الظاهر بين التوليف العاطفي، وبين الجمل الشعرية المقرونة بالفتور، هذا مما ساق الشاعر اللجوء إلى النثر، على حساب تصاهر الألفاظ بمعانيها، لأن كلمة "يشدو" في بداية الجملة، لا تتفق مع كلمة "الإرشاد" وهي في نهاية الجملة، في قوله: " يشدو في عربة البرق، وقد يجزع من الإرشاد". حيث لا نجد فيها وفاق إلا في الظواهر، كونها أضعفت الحس الدلالي المعبر عن فصاحة البيان. والإرشاد مبدأ قيادي لا يناغى ما تبوح به الجمل الشعرية من إرهاصات تميل في خيالها الوافر للسرحان، في قوله: "يتمطى باسماً"، جملة عذبة يتفق شجنها مع العناية بالتماسك والانسجام في وحدة المعنى، وبدون "الإرشاد"، تصبح القصيدة المعبر الصوتي في الغنائية التي أثمر أداء تصويرها الشاعر.

إنشاد حامل الجمر

1- 

تكركرُ الكلمة 

الكلمةُ نبع 

تبكي الكلمة 

الكلمة ينبوع 

*****

ألا كلّ دمعة تخلد

أيّها الضحكُ أنت بموازاة الدمع 

رفيقهُ الزمّار الطريّ 

في مستهل القصيدة التي تحمل عنوان المجموعة الشعرية التي نتناولها في هذه الدراسة، يروم الشاعر إلى السجع، في قوله: "تكركرُ الكلمةُ / الكلمة نبع /تبكي الكلمة / الكلمة ينبوع" من الأحق بالمعنى؟ الفن اللحني في الكلام؟ أم توافق الصيرورة الداخلية للألفاظ، وانعكاس مؤثراتها الوجدانية في الصورة الشعرية؟  حدثنا الجرجاني عن إعرابي شكا إلى عامل الماء بقوله: "حلأَتَ ركابي، وشققتَ ثيابي، وضربت صحابي" فقال له العامل: "أوتسجع أيضا! عن أسرار البلاغة للأمام بعد القاهر الجرجاني" لم نقرأ لعادل مردان إنه أخل بالمعنى في عموم كتاباته الشعرية، إنما هناك إخلال إتباعي في بلورة وبناء البنية الحلمية بين الألفاظ وإيعاز معانيها، أي بمعنى: كان بإمكان الشاعر أن يوزع  معطيات البوح الكامن في ثيمة "الكلمة" ونوازعها الباطنية، على مجس النبض في عموم ديمومة القصيدة، لكان الأمر أخف وطأة، وأرقى بناءً، بدل أن يحصرها في التكلف الخارج عن غرضه، الذي أصبح ضاغطاً على رشاقة الجملة، ونوازع استقرائها الفني.

 2-

يتمّتمُ قنديلي الأرمل

بين رعشاته إغماض

يشدو بمتعة

أروع من "أوبانشياد"

أوبانيشاد: تعني بلغة السانسكريت: "علوم البراهين، وتعني: أن تنتظم بمجلسك بخشوع، وتسمى "اليوجا"، أو المذهب السري. وهؤلاء القوم هم علماء الهندوسية، وهي مقاربة المعرفة التي تَوَصّلَ إليها الهنود قبل آلاف السنين، مقاربة الحجج بالبراهين، وهي نظرية هندوسية تعني الكشف عن طبيعة الإنسان الخاصة جداً، مع أني لم أجد مطابقة دلالية تختص بتوظيف لغة الأسطورة بشكلها الصحيح، فقوله: "يتمتم قنديلي الأرمل / بين رعشاته إغماض / يشدو بمتعة" صور شعرية خلابة، توظف في إشاراتها أقصى الانزياح التصويري، كدلالة تعويضية عن المزاوجة بينها وبين الأسطورة، فالصورة: "بين رعشاته إغماض" أحاطت القصيدة بالتأمل البلاغي للمعنى، لكنها للأسف لم تتفق مع معطيات الأسطورة الأوبانيشاد في قوله: "أروع من أوبانيشاد" وهؤلاء كما عبرت الأسطورة عنهم إنهم مراجع هندوسيون أمثال: "مون داكا، وإيشا، وكينا، وبراسما، وتايتيريا، وشاندوجيا" وآخرين. وهؤلاء القوم تكلموا عن المعايشة مع الرب والتحدث إليه "الله" في حياتهم، لذا فهم مميزون ليس ككل البشر، لأنهم: "مراجع الله في الأرض"، كما هو الحال مع محمد نبي الإسلام، يقال إنه تحدث مباشرة مع الله، في رحلته المكوكية الإسراء والمعراج، والآية القرآنية تقول: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا ً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنـّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِير." " سورة الإسراء". ومع هذا كله يبقى الشاعر عادل مردان مستنيراً بين حساسية فنه الكلامي، ونوازع الانفعال والميول الناجعة والمؤثرة بلاغيا في الصفحة الأدبية العربية.

 

 

    

free web counter