|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |

 
 

                                السبت  4 / 4 / 2015                                                                                                                     الصفحة الثقافية

 
 

 

فرح أبو التمن
واستعادة اللحظات الهاربة

مزاحم حسين

بفنجان قهوة تأخذنا فرح أبو التمن إلى عوالم شفافة بريقها الحب وفي سمفونيتها تتعانق القلوب بلوحات لا تمسها الشيخوخة، وحيث تغتسل بالشمس والأزهار وتستحم بالندى والأمطار وحيث عطر كلماتها يأتي من سواقٍ خفية.

فما بين أحلام الشعراء (الأطفال) وواقعهم ثمّة هاويةٌ متعذرٌ اجتيازها، تلوح وتقف حائلا إزاء أحلامهم. ومن وراء تلك الهاوية تأخذنا فرح الى عوالم هادئة حيث يكون فيها وقع الاقدام همسا والهمسات ما هي الا حوار نسمعه كل يوم لكنه يمر أمامنا بدون أن نلحظه... وعلى شاطئها اللامادي نجد دموعها التي تحولت لؤلؤا يتهادى على الدروب المنسية وهي مازالت تمضي حالمةً بتلك الدروب وتصنع من المرارات القديمة عسلا حلوا وشمعا ابيض. وفي مملكة فرح نجد ان همسها الهاديء ما هو الا ترنيمةُ حبٍ ولحظات كشفٍ وتجلٍ حيث نسترق السمع لمحاورات عاشقة لا نفهم كنهها وايقاعها الداخلي بعقولنا وانما فقط بقلوبنا واحاسيسنا.

ان الشاعرة العاشقة تسكن هناك وما نحن الا زوار ودخلاء، فقط الطفل العاشق الذي يسكن داخلنا يعطينا حق الدخول الى هذا العالم الذي يأخذنا الى عوالم جميلة تصدح بالحب وتنتصر للجمال وتصرخ بوجه الموت والقبح. وها نحن نستأذن الطفل الذي في داخلنا ليعطينا أذنا للدخول إلى مملكة فرح التي لا تستقبل الا من كان شاعرا أو طفلا ... متسربلين بالطقوس السرية الشعرية للعاشقين لنلج هذا العالم.

لغة فرح لغة هادئة وبسيطة جدا وصور لا تكدح ذهن القاريء لكنها في الوقت نفسه صور جميلة تمس شغاف القلب وخاصة قلوب من اكتوى بلوعة الحب فكل قصائدها تتموضع حول جدلية الحب التي تصدر عن قلب عاشقة تنظر الى الكلمات كشيء له حياته الخاصة به، فالكلمات عندها لها رائحة المطر. حيث الصوت الذي يستحث والمادة التي تبدل الهواء. وشاعرتنا لم تتعامل مع انتهاء جدلية الحب والموت كونهما مضاداً للحياة ولم تتعامل معهما بهاجس خشيتها، ولكنها تعاملت معهما انطلاقاً من الجانب الحيوي للعالم. وهي حاولت أيضاً أن تقف بالزمن, لتسجيل هذه اللحظات الهاربات أو هذا الزمن المفقود, الذي لا يمكن أن يستحضره الذهن إلا من خلال المقتربات التي تحاول أن تناور في انثيالاتها الصورية وصولاً إلى توصيل القرائن إلى البعد الحقيقي لتلك اللحظات الهاربة. بالضغط على الحواس من خلال العلائق الواهنة والقرائن الخفية والانثيالات البصرية المعقدة . فلقد حاولت فرح ان تلتقط لحظات العشق الهاربة وتعيد خلق الشوارع والمنازل والحقول والوجوه والأصوات واللحظات الحميمة التي مازالت تحفر في زوايا ذاكرتها والتي عرضها الماضي في مخيلتها لتندمج في المستقبل في لحظة استعارية هائلة.

وقد دبّجت مجموعتها المعنونة (مذكرات فنجان) والصادرة عن دار عدنان مؤخرا بلوحات ثلاثين كانت توطئة لقصائدها الأخرى. واللوحات توزعت مابين الهايكو والضربة الشعرية وقد أجادت في الكثير منها. كاللوحة الثالثة والعشرين المعنونة (سرقة):

السرقة تكون خلسة
وأنت سرقت قلبي أمام عيني

وكذلك في (حب بالنيابة):

أحببتك بالنيابة عني
وما أصعب ان احبك
بالنيابة عنك أيضا

أو كما في (أظافر):

جاءت معذبتي لتمحو آثار هزيمتها
فوجدت ان أظافرها
مازالت واقفةً في جلدي..

هنا استطاعت الشاعرة ان توقع القاريء في فخ الضربة وان تأتي بالضديد في المقطع الثاني الذي يتقاطع ذهنيا مع الأول وهنا تكمن مهارة الشاعرة في ربطها الضديد الذي دائما ما يجعل الكلمات يضيء بعضها البعض. وكذلك فعلت في اللوحة السادسة والعشرين. وفرح تدع الصورة تُصنع عاطفياً في داخلها ثم تُطبّقها على القُوَى الفكرية والنقدية، ثم تُولّد أخرى تناقض الأولى, وتصنع من الثالثة الوليدة من الاثنتين الأخريين معاً صورةً رابعة مناقضة, وتدعها جميعاً ضمن حدودي الشكلانية المفروضة تتصارع. كل صورة تحمل في نفسها بذرة دمارها، أي بناء وهدم دائم للصور المنبجسة عن البذرة المركزية. إنّ وعيها بكل شيءٍ صائت يجعلها تستخدم كلمات تبدو غير شاعرية لكنها تفجرها في فضاء شعري جميل, فالحركة التي تتحركها كلمات مثل (المقادير والخلطة) قوية بما يكفي من الترحال من الكلمات نفسها إلى المجرّدات المتوازية معها. كما في 7 أيام من روزنامة 2009 وتحديدا 3 أيار :

المقادير كانت سهلة جدا:
سكبت جميع مشاعري
ووضعتها في يديه
لا اعرف لماذا لم تنجح الخطة ....

في العديد من قصائدها تقع الشاعرة في التقريرية والمباشرة الفجة وكنت أتمنى من الشاعرة ان تنوع موضوعاتها وان تفجر لغتها الشعرية نحو مديات أرحب وأوسع من تجربة الحب وان تكون استعاراتها ابعد غورا وأكثر عمقا لكن هذا لا ينفي ان للشاعرة لغة رشيقة ومعالجة درامية في معالجة القصيدة كما في قصيدتها التي حملت عنوان المجموعة (مذكرات فنجان) حيث نجد ان هناك تقلبا في الأزمنة والضمائر فالأزمنة تبدأ في الحاضر المضارع لترجع إلى الماضي ثم الحاضر ثم الماضي وهكذا لتضفي معالجة درامية تبدأ منذ لحظة الاستيقاظ صباحا وتأمل طقس صنع فنجان القهوة الذي يكون بمثابة بداية الحدث للولوج إلى تذكر الزمن والمكان الأليفين في الماضي الذي تحاول عبثا من استرجاع تلك اللحظات من دفع المكان المعادي وبالتالي الزمن المعادي.

هذه قراءة سريعة لمجموعة الشاعرة فرح أبو التمن حاولت فيها من خلال الانطباع الأولي أن أسلط الضوء على خامة شاعرية في طورها للتقدم أكثر في بحر الكلمات وساحلها المتلاطم وأنا أجد فيها موهبة شعرية جيدة تحتاج إلى ان تشذب لغتها أكثر وان تغور أكثر في استعارات وصور أعمق غورا. وما أرادت فرح قوله انها عجزت في مواجهة التزامات الحياة الفكرية التي حسبت خطأ انها يجب ان تواجهها فقذفت بنفسها عودة إلى الطفولة، إلى ذكريات النوستالجيا التي بها تعيش وتستمد بقاءها وبما انها لم تستطع ان تسوِّف فإنها تأرجحت بين الفرح التلقائي واليأس الفكري الذي يجعلها دائما معلقة في تلك الذكريات البعيدة.. في ذلك العالم حيث غابتها الضائعة بعد ان أخطأت حمامتها البوصلة، فبدل أن تتجه نحو الشمال مضت صوب الجنوب وخالت ان قلبه منزلها لكنها أخطأت، فلقد نامت حمامتها على الشاطيء بينما نام هو فوق أحد الأفنان.
 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter