الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الجمعة 4/4/ 2008



يولسيس عراقيا : عندما المدن من غبار ، والشعب من النسيان

قراءة في رواية " خضر قد والعصر الزيتوني "
للروائي :" نصيف فلك "

عبد العظيم فنجان
Finjan_2002@hotmail.com

هيمن الاتجاه اللاهوتي / السياسي على حساب الاتجاه الجمالي في ادب الحرب بشكل واضح ، سيما في القصة والرواية العراقية ، فـ " العدو " هو دائما غادر ، وهو جبان ايضا ، بمعنى أنه لايمتلك أية فضيلة اخلاقية وبالتالي جمالية . في المقابل هناك غلو في وصف الحرب ، كونها مقدسة أولا ، وكون ابطالها متألهين تاليا ، وكل ذلك يجري على حساب العذابات الفردية ، حيث تصبح عاطفة الحب ، أو سمة التسامح ، وكذلك الحنين ، نوعا من الجبن أو لطخة من العار في جبين الفرد ، كأن المُراد من هكذا أدب أن يقتل ، وأن يستحث غريزة التدمير ، وبالتالي أن يرتدي بدلة المعسكر ، فالعراق كله ثكنة .
واضح جدا أن معظم الادب المكتوب ، في حرب الثماني سنوات ، كان لا يأخذ طريقه الى العالم الا حين يتطابق موقفه الجمالي مع موقف الحزب الحاكم ، متمثلا بشخص الطاغية صدام حسين ، الذي لم يُعرف عنه الا الفظاظة ، الغلظة ، وقسوة القلب ، وتلك الصفات في شخص " القائد " كانت وسطا صحيا مشجعا لنمو الاطر النظرية لأدب الحرب ، وهي الاطر التي قادت الثقافة والمثقفين العراقيين الى مفترق طرق حاد : أن تكتبَ معناه انكَ أما مع النظام أو ضده ، لكن تلك الاطر لم تكن وليدة الواقع لوحده ، بمعنى أنها لم تكن انتاجا " صداميا " محضا ، جادت به عقول مفكري الحزب / الحرب ، وانما هي نسخة مزورة ومكررة لتلك المباديء الجدانوفية ، التي هيمنت على أدب الواقعية الاشتراكية في فترة ما ، فقد اعتبر جدانوف ، في عصر ستالين ، أن التحدي الذي يواجه الفن كان هو الكسل ، والصعلكة ، والهذر ، والنزعة الفردية ، ولذلك فإن على الفنانين المزج بين " الحقيقة ، والخصوصية " التاريخية في تمثيلاتهم الفنية ، وبين تربية وتشكيل الطبقة العاملة بروح الاشتراكية . وهي نفس المباديء / الاطر التي صيغت ، بطريقة عفلقية ، لتناسب وصفة ادب الحرب ، ومن قبله الادب البعثي : هكذا يتضح أن العنف يكرر نفسه ، وأن نظرية الادب البعثي لم تكن مطابقة للواقع ، وانما نظرية ملفقة عنه .

لكننا في رواية : " خضر قد والعصر الزيتوني " الصادرة حديثا عن جريدة الصباح البغدادية ، والتي هي موضوع هذه القراءة ، نعثر على المغزى الحقيقي للحرب ، وهو المغزى الذي جاهد النقد الايديولوجي أن يغطيه بركام من الاكاذيب والذرائع ، كذلك نعثر أيضا على المعنى الجارح والقاسي : أن يكون المرء عراقيا ، في ظل دولة يديرها حزب شمولي ، لايحقق وجوده الا باختلاق الحروب ، وصناعة المعارك ، وابتكار الاسلحة ، طاردا من شموليته كل فكرة أمان أو سلام ينعم به المواطن ، خاصة في تلك المدن الغبارية التي تمثل مدينة الثورة / مدينة الصدر لاحقا ، نموذجا فريدا لها .
مؤلف الرواية : " نصيف فلك " يحمل شهادة البكلوريوس في الاخراج والتمثيل ، وهو ما أهله لأن يقدم رؤيا تقترب من التقنية المسرحية والسينمائية ، حيث عمد الى تقطيع روايته الى عدة فصول ، كل فصل منها يحتوي على عدة أصوات ، هكذا حتى تصبح الرواية ، بتعدد سارديها ، الى كورس كبير ، ينشد بنبرات مختلفة بانوراما عراقية ضاجة بالمرح والحلم والحزن والبكاء . كما ان تخصصه هذا ساعده كثيرا في اعطاء الرواية بعدا عالميا ، سواءا في تقديم تقاليد الحياة العراقية في اطار ينتفع كثيرا من مباغتات عين الكاميرا ، أو اسقاط الضوء على جزء معين من المشهد ، أو بإحالة وربط عوالم شخصياته بعوالم اخرى ، يستعيرها من الاساطير والخرافات العراقية في بلاد النهرين ، أو ربطها بشخصيات من السينما أو المسرح : مارلون براندو ، شكسبير ، و بريخت .

مدينة من غبار ، وابطال مسحورون : " اوميد " يتمرن على الجلوس عاريا على قنينة بيبسي بيبسي كولا ، كي يكون مستعدا لعذاب اسفل سافلي السجون في حالة القاء القبض عليه . إنه كابوس محتمل يعالجه بحلم من جنسه . " موحان " الرفيق الحزبي يستقبله الاولاد ، لدى مروره في الشارع ، بعبارة : " سكين وملح " كتميمة أو تعويذة سحرية تطرد الشر ، فظهور " موحان " في أية منطقة أو زقاق يعني أن كارثة ما سوف تصيب أحد ألابناء ، فهو حامي الحزب ، ويده الضاربة . حانات تثّبت النفاّضات والمواعين بمسامير على الطاولات ، خشية سرقتها ، أو استخدامها كاسلحة في الشجارات والمعارك ، فالدنيا حرب ، والدم يسيل في الشوارع . اما البطل الرئيسي " خضر قد " فيشغله حلمان الاول : الاطاحة بنظام صدام حسين ، وتحرير فلسطين ، والثاني الزواج من معبودته " سلاّمه " ، أما كيف ذلك ، فأترك الامر للقاريء ، لكن نهاية الرواية تقدم درسا بليغا يدلل على اننا شعب من النسيان ، في وطن من الغبار ، إذ لم يحتمل جسد " أوميد " العذاب الذي طال جسده ، فهو ربما لم يتوقع أنهم سيجرحوا خصيتيه ، وأن يزرعوا اسلاك الكهرباء في جرحه ذاك ، فيفيض الالم ، ويعترف الجسد : الجسد هو الذي يعترف ، لا الانسان الذي في داخله ، وهي الحكمة التي استنتجها " خضر قد " حين القوا عليه القبض نتيجة اعتراف جسد صديقه ، وهاهو بعد أن يخرج من السجن يقرر الفرار بجسده ، بانسانه الداخلي ، الى الجهة الاخرى من الحرب ، صوب ايران ، حيث يمكن أن يتحالف مع الايرانيين لاسقاط صدام ، حلمه الفنطازي العجيب ، لكنه هناك يوضع في قفص الاسر ، حيث يقابل اسفل سافلي السجون ، مرة اخرى ، لكن بهيئات جديدة : إذن ليس صدام وحده ، إن كل الحروب قذرة ، لكن ذلك لم يمنعه من المحاولة باتجاه الحرية ، فيفلت من الاسر ، متابعا تنشيط مخيلته وتخصيبها بالقضاء على صدام وتحرير فلسطين ، وهاهي الفرصة تسنح عندما يقوم صدام بغزو الكويت ، فيمتطي " خضر قد " المشحوف عائدا من ايران ، عن طريق الهور ، الى مدينة العمارة حيث تنطلق شرارة انتفاضة اذار 1991فيحترق في اتونها ، حتى ينتهي بقبر جماعي كبير ، يجمعه لاول مرة ، بعد فراق طويل ، بحبيبته " سلامه " التي كانت ترعى الغنم قريبا من انظار الجلادين ، فالتقطوها خشية أن تبوح بسرهم .

هذه الدورة اليولسيسية مآلها قبر جماعي ، كما هو متوقع ، لكنها بشارة ربيع لنمو أدب آخر ، هو أدب الحرب الحقيقي ، المكتوب من الخلف ، من المزابل ومدن التنك ، التي تشع دفئا وانسانية ، كما ظلت تشع هذه الرواية التي امتدت الى 160 صفحة .


 

Counters