الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الخميس 5/2/ 2009



في الذكرى الأولى لرحيله

فؤاد التكرلي
الأديب الذي عاش حياته منسجما مع فكره

احمد جاسم العلي

-1-
قال الروائي الراحل (فؤاد التكرلي) مرة ان هناك فرق بين الكاتب الروائي والأديب الروائي. " الفرق ان الأديب له ناحية فكرية، فأديب مثل ( اندريه جيد) لا يعتبر كاتب قصص فقط. الروائية (ساغان، فرانسوا ...) تعتبر كاتبة ولا يمكن اعتبارها أديبة. بمعنى ان اندريه جيد او (بوليفاري) ومثل آخرين تحمل اعمالهم افكارا ورؤية للحياة. أما البقية فيسردون قصصا جميلة فقط ولكنها فارغة من أي شيء سوى المتعة."(1) الكاتب الروائي، دون الانتقاص من قيمته، كاتب بلا فكر متبنى او مكتسب يهتدي به في كتاباته ولا رؤية للحياة تحكم هذه الكتابات. يكتب الرواية حين يجد الموضوع الذي يصلح ان يكون رواية جميلة وممتعة. فهو مرة يكتب رواية حب ومرة ثانية يكتب رواية بوليسية وثالثة يكتب رواية اجتماعية ومرة رابعة يكتب رواية سياسية وخامسة يكتب رواية ثورية... إن مواضيع رواياته هي في الغالب افكار تطرأ على ذهنه نتيجة معايشته للحاضر او استحضاره للماضي. كما ان نجاحه في عمله كروائي يعتمد بشكل كبيرعلى قول الحقيقة وقدرته على التعبيرعنها بالسرد الفني الحديث وتمكنه فيه. أما الروائي الأديب فأنه يكتب الرواية إما على أساس فكر قائم، عقائدي كالعقيدة الماركسية او فلسفي كالفلسفة الوجودية مثلا .. تبناه وآمن به بحكم قراءآته وظروف حياته ونشأته الاجتماعية وادراكه ووعيه، او على أساس موقف من الحياة والإنسان خاص به مستوحى من مفردات مختارة من تلك العقائد والفلسفات تشكل فكر الكاتب الذي يكتب على ضوئه اعماله ويطرح على هديه رؤيته للحياة والإنسان مثل الكاتب الأمريكي (أرنست همنغواي) واعماله الروائية والقصصية التي كان يديرها حول البطولة والموت والفشل والانكسار.. وفي الحالين يفترض ان الروائي لا يحيد عن فكره ورؤيته للحياة والإنسان طالما بقي يكتب الروايات وغيرها من الأعمال الأدبية كالقصة القصيرة والدراسة والنقد... فؤاد التكرلي هو أديب روائي، أي كاتب رواية ذو فكر ورؤية للحياة بالمعنى الأول، فكره فلسفي متبنى، والفلسفة التي تبناها وآمن بها وأقام عليها طوال حياته هي الفلسفة الوجودية. ويعود تبني فؤاد التكرلي للفكر الوجودي الى التأثير الكبير لأخيه (نهاد التكرلي،) الناقد والمترجم والذي كان قد سبق أخاه في تبني الفكر الوجودي والإيمان به. فقد عمل نهاد جاهدا ومجتهدا في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي على التعريف بالفلسفة الوجودية وطروحاتها النظرية وتطبيقاتها في الأدب الذي سُمي بالأدب الوجودي وذلك عبر سلسلة متلاحقة من الكتابات، واحيانا الترجمات، للعديد من البحوث والدراسات النقدية التي تناولت هذا الفكر والتي كان ينشرها في مجلة (الأديب) البيروتية. فقد كتب، على سبيل المثال، (الوجودية عند سارتر) قسمان، آذار وحزيران 1950 و(شخصيات دستوفسكية،) على ضوء المنهج الوجودي، كانون ثاني، آذار، تشرين أول 1951 و(المسرح الوجودي) كانون ثاني 1953 و(سيمون دي بوفوار ومشكلة الموت) حزيران 1953 و(البير كامي ومصير الإنسان) 1954 و(التمرد في الأدب الفرنسي المعاصر) كانون ثاني 1954 وغيرها... وترجم لجان بول سارتر دراسته ( القصدية فكرة أساسية في فلسفة هوسرل الظاهراتية) شباط 1954 وترجمات أخرى لسارتر وكامو لم تُنشر... كما نشر ( العيون الخضر وفن الأقصوصة) في مجلة الأسبوع العراقية 1954) وهي دراسة نقدية تطبيقية لقصة فؤاد (العيون الخضر/1953) على ضوء المنهج الوجودي أيضا. هذه الكتابات ساهمت الى حد كبير في توجيه أدب فؤاد التكرلي الروائي والقصصي والمسرحي والنقدي الوجهة الفكرية التي أقام عليها طيلة حياته وهي الفكرة الوجودية. ورب قائل ان الظروف المادية والاجتماعية التي نشأ عليها فؤاد التكرلي وكبر ساهمت أيضا في تكوين فكره الوجودي. ونحن نوافق على هذا القول بقدر ونرفضه بقدر في الوقت نفسه ونتردد في التأكيد عليه بنعم او لا. ولكننا ننقل هنا نصا جاء في مقال (رسالة غير معنونة/ إلى شاب عراقي أسمه فؤاد التكرلي بلغ الثامنة عشرة من عمره عام 1945.) كتب الرجل فؤاد التكرلي عام 1998 مخاطبا الشاب فؤاد التكرلي عام 1945 وللقارىء ان يحكم بما يراه. " .. إلا أنك كنت تشكو، على طريقتك الخاصة، وضعك المادي المتردي، أو بالأصح، وضع العائلة عموما بعد وفاة الوالد. خيم عليكم، بسرعة، نوع من العزلة الاضطرارية، نوع من الانكماش وتحاشي الالتقاء ببقية أفراد العائلة الكبيرة؛ إذ كانت الحاجة المادية تحاصركم حصارا لا هوادة فيه، حتى وصل الأمر بها مرات كثيرة الى منع لقمة العيش عن الأفواه.. غير أنك كنت تعاني كأنك مشاهد فحسب.، أو كأنك كنت فوق المعاناة، وهذه حال لا تزال مستغلقة على فهمي حتى هذه الساعة. كان الأمر المستغرب معك – ومنذ ذاك معي – أنك كنت تجد ان هذه الحاجة المادية، التي هي محاولة رخيصة من الدنيا- أو القدر- للنيل من كرامة الذات، لا تجد طريقها إليك تماما، فهي، بشكل من الاشكال، لا تمس حساسيتك او شعورك باحترام النفس، بسبب معرفتك بأنك كاتب مهم في بداية حياته، وان هذه المواقف ستسجل لصالحك يوما ما.. وسواء كان لهذا الاعتقاد اساس من الواقع الملموس ام لم يكن، فقد كان تأثيره عليك، كما اعلم جيدا، عظيما وفعالا على الدوام. ليس لتفاهات الملابس ولا لمهانات التنقل بالحافلات او لمشاهدة السيارات الفارهة أمام الكلية او حتى افتقاد الطعام والصحة الجيدة أي انعكاس عليك .. فكل هذه الشؤون العابرة لا علاقة لها بهذا الشاب المتكبر بتواضع ..."(2) ولكن الدكتور علي جواد الطاهر، الناقد العراقي الراحل، يذهب مذهبا آخر. ان تبني فؤاد التكرلي للفكر الوجودي واعتناقه لم ينشأ عن فراغ ولم يبن على غير أساس. ولم يكن " .. مجرد اختيار ومجرد هوى (فنطازي) يتخذه صاحبه ضربا من اللهو والتسلية ليحقق لنفسه جانبا جديدا من ألوان العيش ... لا بد ان يكون هذا الأختيار وهذا التبني ناتج عن خيبة أمل كبيرة مر بها التكرلي في بداية حياته فكانت تجربة قاسية عانى منها الرجل."(3)

-2-
ولقد ميز هذا الفكر الوجودي كل أعمال وكتابات فؤاد التكرلي الأدبية، الروائية والقصصية والحواريات الممسرحة وحتى النقدية منذ أول عمل قصصي نشره عام 1953 بعنوان (العيون الخضر) مرورا بمجموعة (الوجه الآخر) عام 1960 إلى آخر عمل روائي قصير نشره عام 2007 بعنوان (اللاسؤال واللاجواب.) هذه الحقيقة لا تثير الدهشة والأستغراب تجاه روائي أديب اعتنق هذا الفكر الفلسفي عن فهم سليم وإيمان واع واعتمده في رؤيته للحياة والإنسان والمجتمع. ولكن، ان يسم هذا الفكرالوجودي حياة فؤاد التكرلي الشخصية بميسمه منذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي وحتى رحيله عام 2008 فهذا هو الأمر الذي يثير الدهشة والأستغراب بقدر ما يثير الاحترام والتقدير. فقد عاش التكرلي حياته منسجما مع فكره تماما، قولا وفعلا، قولا في اعماله الأدبية المكتوبة وفعلا في علاقاته مع العالم الخارجي الذي تعامل معه بحكم الضرورة. فقد كان فؤاد التكرلي (لمن لا يعرفه ...) إنسانا زاهدا بالشهرة ومبتعدا عن الأضواء وغير متهافت للظهور في وسائل الاعلام الثقافية إلا إذا دُعي لمقابلة صحفية او تلفزيونية او لمهرجان ثقافي او ندوة أدبية لأن " ... (العمومية) تجعلني اضطرب رغما عني ولو خُيرت لأخترت (المجهولية) المريحة."(4) وكان التكرلي لا يدخل في خصومات أدبية خاصة او نزاعات ثقافية عامة ولا يرد إلا نادرا، أو لا يرد ابدا، على نقد غير منصف يوجه إلى أدبه وفكره ولا يرد على إساءة او كلام جارح ينتقص منه شخصيا لموقف ما اتخذه في يوم ما. وكان ذا خُلق يليق بمثقف وأديب حقيقي؛ هادئا ورصينا، متواضعا وبسيطا، حليما وصبورا، متسامحا وعافا، تاركا وزاهدا. وكان إنسانا منقطعا الى عمله الأدبي الذي كرس له حياته كلها وانشغل به. وكان إنسانا عصاميا، معتمدا على نفسه وموهبته وذكائه في بناء شخصيته كأديب وإنسان. وكان إديبا مستقلا وحرا في الكتابة، فالأديب "... وسط مجتمعه شاهد محايد لا تغريه المناصب ولا الأموال الزائدة عن حاجته. وما يجب عليه هو ان يعمل على البقاء نقيا، صادق القلب وإلا .. فلا أدب حقيقيا واصيلا."(5) ... هذه الخصال او الصفات لا تنص عليها مفاهيم الفلسفة الوجودية، كما قد يظن البعض، ربما. ولكن المفاهيم الوجودية عن الوجود والماهيه،(الوجود يسبق الماهية ...) الإنسان ومصيره النهائي،(الموت والعدم ...) الحرية وحدودها (الحرية ذاتية الى اقصى حد ...) المسؤولية والفعل القصدي،(الإنسان مسؤول عما يفعل قصدا ...) الزمان الوجودي،(ان الماضي يثقل على الإنسان لأنه يبدو له كضرورة صرف. ولكن هذه الضرورة لا يمكن ان تحد من حرية الإنسان ...) اليأس،( الإنسان يعتمد فقط على ما يتعلق بارادته ومن الخطأ الاطمئنان إلى الأمل لأنه أسوء قيد للفعل ...) العبث، اللامعنى، اللاجدوى ... هذه المفاهيم كلها (التي لا يمكن ان تُفهم وتُستوعب إلا بتفاصيلها) ميزت خُلق فؤاد التكرلي التي عُرف به في حياته كما ميزت خَلق فؤاد التكرلي الأدبي طيلة حياته الأدبية. إن الذي يريد ان يفهم سر خُلق فؤاد التكرلي الذي أقام عليه طوال حياته عليه ان يعرف أولا ظروف نشأته الاجتماعية والمادية. وعليه، ثانيا، ان يعرف أنه رجل قانون وقاض والقاضي يجب ان يكون عادلا، لا ينحاز ولا يحابي داخل مهنته بحكم واجبه وخارجها بحكم العادة. وعليه، ثالثا، ان يعرف المفاهيم الأساسية للفكر الوجودي السارتري، تلك المفاهيم التي لم يفهمها نظريا بشكل صحيح ولم يطبقها عمليا بشكل كامل ولم يحيا حياته منسجما معها انسجاما تاما، منذ ذيوعها وشيوعها في العراق بداية الخمسينيات من القرن الماضي، إلا النادر من المثقفين العراقيين يقف فؤاد التكرلي في مقدمتهم.
 

الأشارات
(1)
مقابلة مع التكرلي. صحيفة (المدى) العراقية اجراها مفيد الصافي/عدد 665 في 11/أيار/2006.
(2) فؤاد التكرلي/ الاعمال الكاملة. (المقالات.) منشورات المدى/2002
(3) علي جواد الطاهر (في القصص العراقي المعاصر/نقد ومختارات/1967)
(4) فؤاد التكرلي/ الاعمال الكاملة.(المقالات) (الرجع البعيد. رواية الرواية.)
(5) فؤاد التكرلي/ مقابلة اجراها ماجد موجد في جريدة المدى/عدد 365 في 18 نيسان/2005






 

free web counter