الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأحد 6/12/ 2009

 

عبـد الكريـم كاصـد
الشاعر.. خارج النص
(الفصل الثالث)

تأليف: عبدالقادر الجموسي

حـوار الشعـر و الفكـر

فلسفة الشعر

عبد الكريم كاصد، أريد أن أحاور فيك الشاعر و المفكر معا. ألا ترى، و أنت الشاعر و دارس الفلسفة، أنه من الضروري تعريف "ماهية الشعر" و استجلاء طبيعة الحاجة الإنسانية المتأصلة إلى الشعر خصوصا والتعبير الجمالي بصفة عامة؟
-
لا يمكن لأيّ تعريف مهما كان عميقاً أن يستغرق الشعر. هذا العالم الشاسع التي تتجاور فيه أشكال مختلفة، وتحدث فيه ارتدادات وقفزات غير متوقعة أبداً.ً فما هو قديم قد يبدو جديداً وما هو جديد قد يبدو قديماً وما هو شفويّ قد يعاود الظهور ثانية. وفي قلب هذه الحركة حركة الأشكال التي لا تنتهي ثمة أشكال لا تبرح مكانها أبداً فهي حاضرة على الدوام كالهايكو والسونيتات والرباعيات التي يكتبها أشهر روّاد الحداثة في الشعر.

مرّة سأل مدرس الشعر في جامعة نورث لندن ما الذي يجمع قصيدة مكتوبة للأطفال بقصيدة يكتبها شعراء كإليوت و جون دن. وكان ردّ الطلاب السخرية من سؤاله. لكن سؤاله لم يكن بلا معنى على الإطلاق.. ثمة ما يجمع هذه الأشكال في وحدة مستعصية على التفسير مثلما يبدو مستعصياً سؤالك أحياناً: ما الذي يجعل هذا النص قصيدةً وذلك النص ليس قصيدة وإن احتوى كلّ صفات النص الآخر.

ثمة تعريفات لا حدّ لها للشعر حتى أصبح الشعر يشبه ذلك الفيل الذي يتحسسه العميان. وهي بقدر ما تسعى أن تكون عامة تبدو شديدة الخصوصية فيها من الواقع والوهم الشيء الكثير تماماً كالشعر نفسه. وهي في مجموعها لن تبلغ شأو الشعر الذي يسبق تعاريفه وأشكاله وشعراءه ويتقدمهم دوماً.

أسأل بدوري: هل قربنا تعريف الإنسان بحيوان ناطق من فهم الإنسان. ما يحبب لي تعاريف الشعر هو طرافتها وخصوصيتها التي تنبع من تجربة الشاعر ذاتها، وكلما كانت مصطبغة بهذه التجربة بدت لي أكثر ألفة وأقرب متناولاً ممّا لو جرّدت من هذه التجربة لتصبح كلاماً عاماً مملاّ تملؤه الافتراضات والوهم . كتبت مرة في مجموعتي الشعرية قيد الطبع: (هجاء الحجر):

لا أريد أن أعرّف الشعر
أريده أن يعرّفني

كل قصيدة هي فرح غامر.. تجلٍّ لواقعٍ جديد.. لروحٍ جديدة. الشعر فرح مطلق حتى لو كان حداداً.

لك تعريف خاص للشعر تصفه فيه بأنه "اختراق الزمن العادي و العودة إلى طفولة الإنسان". لو نعود إلى ذاتية الإنسان الطفولية/ البدائية، سنجد أن لهذا الكائن ميلاً فطريّاً لتذوق الجمال والتعبير عن الدهشة بواسطة الأسطورة و الشعر و الفكر. يبدو من خلال هذا الطرح، أن الحاجة إلى الشعر ليست ترفا مرتبطا بمواضعات اجتماعية معطاة و إنما هي حاجة أنطولوجية متأصلة في الكائن بحيث يصبح وجوده فارغا من المعنى بدون شاعرية.
-
لا تعليق لديّ بعد تعليقك الجميل هذا سوى أن أقول إنّ للمواصفات الاجتماعية تأثيرها، بلا شكّ، في تشكيل هذه الحاجة الأنطولوجية فنيّا.

لقد تأمل الفيلسوف مارتن هيدغر علاقة الجوار بين الشاعر و المفكر، و اعتبر أن الفكر والشعر ينبعان من "التفكير الأصلي للإنسان" و أن الشاعر و المفكر يشتركان في مهمة "إحضار الوجود عن طريق اللغة". على ضوء هذه الأطروحة، ما هو دور الشاعر في انفتاح الكائن على الوجود؟ و أي من القيم الإنسانية يسعى الشاعر، بتواطؤ مع المفكر طبعا، إلى صيانتها باعتبارها ميسم إنسانية الإنسان؟
- الشعر بالنسبة إلى هيدغر تجلّ للوجود بكل موجوداته، صغيرة أم كبيرة: السماء و الأرض، الآلهة والبشر ، العابر والمقيم.. تجلّ يمنح الموجودات حضورها الذي يكاد أن يغيب في الواقع. إذا أضفنا إلى هذا تأكيده (أي هيدغر) أن القصيدة هي قول الحقيقة كما جاء في كتابه (الشعر، اللغة، الفكر)، عندئذٍ تتبدى مهمة الشاعر الصعبة في الحياة في صيانة القيم الإنسانية والجمالية معاً. لذا لا تتجسد هذه المهمة إلاّ نادراً في هذا الشاعر أو ذاك مثلما لا تتجلى الموجودات إلاّ نادراً في القصيدة المبدعة حين يحضر العالم الغائب كاشفاً عن جوهره الخفيّ الذي يراه الشاعر والمفكر معاً وقد تبادلا المواقع، وأيقظ كلّ واحدٍ منهما ما افتقده في الآخر، فالشعر يقول الحقيقة، والحقيقة تقول الشعر.

علاقة الجوار بين الشاعر والمفكر تفترض من جهة أخرى أنّ للشعر مساحته الغامضة التي تنأى بالشاعر عما هو فكر محض كلما توغل فيها دون أن يعني هذا غياب الوعي الذي يظلّ حاضراً حتى في أشدّ حالات الشاعر ذهولاً وغوصاً في أعماق النفس أو الواقع بما يحتويه من أخيلة وأوهام وأساطير ورغبات تقبع خفية وراء النماذج التي تحكمه بما فيها نماذج الشعر نفسه وقد أصبحت تقاليد هي أيضاً. هذا الغوص أو الحفر الذي يقوم به الشاعر قد يقترب منه المفكر على حدّ تعبير هيدغر نفسه حين يمتلك فكره صفاء الشعر وصلابته في كتابه ذاته الذي أشرنا إليه.

إنّ اقتران الفكر بالشعر أو اقتران الشعر بالفكر لم يكن غائباً في شعر الشعراء الكبار: شكسبير، دانتي، الشعراء الميتافيزيقيون ولا سيما جون دن، إليوت، المعري، و آخرون مثلما لم يكن غائباً في كتابات فلاسفة كنيتشه والقديس أوغسطين وأفلاطون وبرغسون، وباشلار، ولعلّ ملاحظة الشاعر الفرنسي بول فاليري تلخص ما أعنيه إذ يرى في كتابات نيتشه " ذلك الجمع الحميم بين الغنائيّ والتحليليّ". ولعلّ في ما كتبه برغسون ما يقرب من هذا الجمع إذ يرى في مقالة له أن في كلّ فلسفة عظيمة تصوراً مرئيّاً للوجود .. قريباً من الخيال الشعريّ ويورد مثلاً على ذلك فلسفة باركلي وبعض الفلسفات الأخرى التي لا تحضرني الآن. وقد قرأت المقالة قبل أكثر من ثلاثين عاماً. غير أننا ينبغي ألاّ يغيب عن بالنا أن التصورات المرئية والاستعارات قد تكون وسيلة لطمس المعنى مثلما تكون وسيلة لإجلائه في كتابات الكثير من الفلاسفة ومن بينهم برغسون نفسه.

ومن الصور والاستعارات التي تحضرني الآن هو مثال الجسر الشهير الذي أورده هيدغر في كتابه (الكينونة والزمان) والذي كان موضوعاً لإحدى قصائدي التي هي بعنوان (الجسر) أيضاً:

جسرٌ تحملهُ الأرضُ
(وقد يحملها)
ويكادُ يمسّ سماءَ الله
يراه
الطفلُ جناحاً
والشيخُ طريقاً
والنسوةُ حبلاً لغسيلٍ
ينشرن عليه ملاءات الليل
فلا يبصرن الهوّة
تلمعُ تحت الجسرْ
تُرى
من يبصرُ تلك الهوّةَ
تحت الجسرْ ؟

هذه الصورة البصرية يراها كالفينو منبعاً لقصصه أيضاً في كتابه (ست وصايا للإلفية القادمة) الذي ترجمه الصديق الناقد والشاعر محمد الأسعد: صورة الإنسان المشطور نصفين في قصته (الكونت المشطور نصفين)، الصبيّ الذي يتسلق الأشجار متنقلاّ بينها دون أن يهبط الأرض، الدرع الذي يتكلم، في روايتين أخريين، مثلما يرى أن في "أكثر كتب العلم تقنيةً أو أكثر كتب الفلسفة تجريداً يمكن أن يصادف المرء تعبيراً يحفّز المخيلة البصرية على غير توقع" ولم يغفل كالفينو عن علاقة الصورة البصرية بالشعر والفكر إذ يقول: " يعمل فكر الشاعر وفي بضع لحظات حاسمة فكر العالم، وفقاً لسيرورة ترابط الصور، وهي الوسيلة الأسرع لإيجاد صلةٍ بين أشكال الممكن والمحال اللامتناهية والاختيار بينها."

قد تكون الفلسفة نفسها موضوعاً للشاعر.

في بداياتي الشعرية، حين كنت طالباً في جامعة دمشق في الستينات، كتبت قصيدة استوحيتها من خلال قراءتي لفكر كامو وانعكاس هذا الفكر على تجربتي الحياتية وبالتالي على شعري في ظرف كان يتسم بتعقيده ومأساويته ما اضطرني إلى الاختفاء زمناً، ثم مغادرة العراق الذي شهد في سنة 1963 مجزرة دموية رهيبة قام بها البعثيون إثر مجيئهم إلى السلطة آنذاك، وهذه القصيدة لم تحوها أيّة مجموعة من مجموعاتي الشعرية ولكنني سأوردها في كتابي المعدّ للطبع (أحوال ومقامات) وهي:

قابع في ظلمة الليل وفي عينيك ساحات النهار
فوقها القاتل في عكازه يمشي قتيلا
أنت لم تعرف سوى الموتى يسيرون طويلا
ثم ينهدّون في ظلّ جدار
أنت لم تعرف سوى الموت جدار
وصدى العكاز يأتيك مع الصمت ثقيلا
عبر ساحات النهار

أنت في ظلّك لا تملك غير البرد والليل دثار
تأكل الفئران رجليك ..
و نصل الساحة الأبيض -
يُرديك قتيلا
لو تهزهزت قليلا
نحو ساحات النهار

أنت حتى لو مددتَ الكفّ
حتى لو تمزقت على الصمت عويلا
سوف لا يخفيك ظلّ القاتل الأسود

لا يخفيك
والنصل سيرديك قتيلا
شاحباً
أصفر
في ضوء النهار


من جهة أخرى قد تكون القصيدة نقيضاً لموضوعها "الفلسفيّ"، تماماً، مثلما كان زرادشت نيتشه نقيضاً لزرادشت النبيّ، فأنا كتبت مثلاً قصيدة بعنوان (العود الأبديّ) لا لكي أكرّر فكرة نيتشه عن عودة ما هو إيجابي بل نقيضها حيث الليل هو زمن القصيدة، والطين، لا إنسانه الأسمى، هو ما يطالعنا الآن وقد عاد الخلق إلى أوله:

سبحانَ اللهْ !
عاد الخلقُ إلى طينهِ
وانتشرتْ أجنحةُ الليل
و(أنكيدو) غطّاهُ الشعر
وبان الذيل
وخيّرني ( إنليلْ )
بين الطين ونارهِ
سبحانَ الله ! ..
رماداً صرتُ
وآنيتي من طينٍ مفخورٍ
سبحانَ الله
سبحانَ الله

وقد لا تكون القصيدة نقيضاً لموضوعها الفلسفي بل اختزالاً و تحويراً، ففي قصيدة قصيرة جدّاً لي بعنوان (تساؤل) من مجموعة قصائد بعنوان "حكايات عن أبي" المنشورة في مجموعتي (الشاهدة):

أحقّاً كان أبي سلعةً
بيديه الشاحبتين
وبدلته الزرقاء ؟

أتحدّث عن أبي بصفته سلعةً لأشير من بعيد إلى مفهوم فائض القيمة الذي هو قوّة عمل العامل، في الفكر الماركسيّ. أي سلعته. غير أن الأب في هذه القصيدة يصبح نفسه هو السلعة لا قوة عمله.

الشعر والفكر كلاهما يتضمن الآخر فلا ثنائية هناك إلا في أذهان من اعتادوا التجريد، كما أنه ليس من الضروري أن يكون الشعر الذي يقترب من الفلسفة في فكره العميق وشموليته معقداً فالشعراء الميتافيزيقيون يتميز شعرهم ببساطة نادرة كما يشير إليوت في مقاله الشهير عنهم .

يبدو الشعر طريقة راقية و مغايرة من طرق التعبير الإنساني، فيها الحزن الأصيل و الوعي المأساوي و مغامرة العقل الأولى و الإحساس بالمصير المشترك و ضراعة اليأس و هشاشة الكائن و طفرة الخيال الرحب و صلابة الإرادة. لكأن الإنسان يروم من خلال ابتداع الشعر احتضان الوجود برمته.
-
كلام جميل ليس بعيداً عمّا تحدثت عنه في الجواب السابق في إشارتي إلى ما يراه هيدغر من علاقة بين المفكر والشاعر. إنّ مثل هذا التقدير للشعر يجعل مهمة الشعر اشدّ وطأة بالنسبة إلى الشاعر الحقيقيّ، في بعديها الجمالي والأخلاقي معاً.

يقول هنري ميشونيك في مقابلة معه عن "شاعرية الشعر و الفلسفة"* (نشرت في مجلة الكرمل): "مما لا شك فيه أن ثمة معان مختلفة لكلمة شعر: فهناك معنى مؤصل ينبثق من أصل الكلمة باللغة اليونانية و الذي يعني خلق، و هذا ما يستتبع شيئا من التقديس، من الاحتفالية بالعالم تقود إلى احتفالية الشعر بذاته". ما رأيك بهذا التعريف الذي يجعل من الشعر رديفا لعملية الخلق؟
-
ليس هنري ميشونيك وحده من يقول بقداسة الشعر. يشاطره في هذا القول مدارس شعرية عديدة وشعراء عديدون وعصور أدبية بأكملها.

يرى نوفاليس أنّ الشاعر والقدّيس كانا شخصاً واحداً ثمّ افترقا في العصور المتأخرة وقد يعودان شخصاً واحداً في المستقبل. غير أن صورة القديس كثيراً ما تقابلها صورة الشاعر الأخرى.. صورة الملعون وكثيراً ما تلتقي هاتان الصورتان في الشخص الواحد. كم من شاعر قديس أخفى لعنته في داخله، وكم من شاعر ملعون أخفى قداسته في داخله. بين القداسة واللعنة خيط واهٍ لا نلحظه أحياناً، وإذا لا حظناه لا نعيره انتباهاً وقد أصبح النقد إعلاماً والقصيدة احتفاء لا بالعالم ولا بذاتها بل بالشاعر وهو يستخدمها أداة أيضاً مثلها مثل أي أداة إعلامية أخرى.

ليس لديّ توهم، أنا المسكون بالأوهام كغيري من الشعراء، أن الشاعر نبيّ أو قديس، ولكنني ما زلت أرى أن للشاعر دوراً إن لم يتجسد تأثيره في الواقع، فعلى الأقل في لغته. وقد يكون لهذا الدور، فيما بعد ، تأثير في الواقع نفسه ( كما يطرح ذلك إليوت في مقالة له عن وظيفة الشعر الاجتماعية )، وحتى هذا الدور الذي يوعزه إليوت للشاعر لا يخلو من مبالغة في تقدير دور الشاعر، مهما كان عظيماً، فقد تكون لغة الشاعر العظيم عائقاً في تطور اللغة نفسها وفي تطور الشعر أيضاً (كما يذكر ذلك إليوت في مقالة له عن ملتون) لذلك أجد صعوبة في تعريف الشاعر من خلال دوره في التأثير في اللغة .

ما يقلق ليس الحديث عن الشعر باعتباره خلقاً وإنما علاقته بغيره من وسائل العصر التي نشهدها وهي تتطور بشكل هائل: هل الشعر ضروري في هذا العصر؟ هل ثمة متسع للغناء؟ الجواب سيكون بالإيجاب حتماً، ولكنه إيجاب مفعم بالشك. هل سيعود الشاعر ثانية نبيّا صارخاً في البرية؟ أم أنه سيكون أكثر دهاءً، مثلما نرى الآن، في محاولته التلاؤم مع ما يحيط به من مؤسسات وإعلام يقول من خلالها كلّ شئ إلا الحقيقة.

ألا يبدو الحديث عن القداسة كفناً لتغطية واقع مريرٍ يعيشه الشعراء الملعونون أو المنسيون وسماءً لنجوم شعراء. إنها لعبة التعريفات: هل الشعر يعرّف الشاعر أم الشاعر يعرّف الشعر. لو كان الشعر قداسة حقاً واللغة المقدسة مدركة لما مرّ شعراء عظام لم تر النور أشعارهم: أميلي ديكنسون، جون دن. روبرت هربرت، والشاعر العظيم هوبكنز الذي لم يستطع أن ينشر حتى قصيدة واحدة بلا عذاب.

أليس الشعر انتهاكاً للمقدس أيضاً؟ و اقتراباً من الأرض لا من السماء في شعر الكثير من الشعراء.

إنّ الحديث عن قداسة اللغة والشعر هو وليد اتجاه متطرف في ثقافة تعتني بكلّ ما هو مجرّد ميتافيزيقيّ وتحتقر كلّ ما هو حسيّ حتّى لو كان تجربة، نجد امتداداتها في موت الإنسان أو موت المؤلف . . ثقافة يبدو لها استيعاب ما هو حسي أصعب إدراكاً مما هو مجرّد ، فلا غرابة أن يقول فيلسوف وكاتب كبير كسارتر إنه لم يفهم كتاب رأس المال لماركس الذي يعتبره فريديريك إنجلز كتاباً واضحاً وبسيطاً كما جاء في كتابه (موجز رأس المال).

إنّ ميشونيك المسحور باللغة، يغفل ما احتوته اللغة المقدسة مما هو أرضي غير مقدّس، لكنني يمكن أن أفهم الوجه الآخر لهذا الطرح الذي قد يتضمن القيمة المعطاة للشاعر ودوره في الحياة إذا تجنبنا الحديث عن المجتمع أو دوره في اللغة نفسها إذا ما صرفنا النظر عن مهمات الشاعر الأخرى، غير أن المغالاة في تقييم اللغة وتقديسها كما أشار ميشونيك نفسه في المقابلة التي أشرتَ إليها قد تفضي إلى ما هو نقيض القداسة من أحكام .

تعتبر الأشعار و الأناشيد التي أبدعها "الإنسان العراقي" من أقدم النصوص الاحتفالية والدينية والشعرية التي عرفتها الإنسانية، و أولها ملحمة جلجامش التي تعتبر أقدم نص شعري مكتوب حتى الآن. و هو نص، في تقديري الشخصي، يصور بطريقة خلاقة علاقة الإنسان بالوجود ومحاولته الأولى لتأمل المصير و تحويل التجربة إلى تعبير. كيف يحمل الشاعر العراقي الحديث عبء ومسؤولية تراث شعري بهذا العمق و الزخم الضارب في مجاهل التاريخ على مدى آلاف السنين؟
-
لا يحمل الشاعر عبء مسؤولية تراثه وحده، وإنما هو يحمل عبء وتراث الإنسانية أجمعها.. لذلك ترى شعراء كإليوت وعزرا باوند وأكتافيو باث ورامبو وغيرهم كثيرون مشغولين بمعرفة اللغات والتجارب الأخرى، والاستفادة منها في التعبير عن تجاربهم . وهذا ما فعله الشعراء العرب المجدّدون : السياب والصبّور والبياتي و أدونيس في تطوير تجربتهم وتجربة الشعر العربي المعاصر. ولم يكن الشعراء الذين لم يتسنّ لهم الاطلاع على اللغات الأخرى بأقلّ منهم شغفاً في معرفة التجارب الشعرية المختلفة في لغتهم أو في اللغات الأخرى، لوركا مثلاً وشغفه بالشعر العربي عن طريق المستشرقين من أصدقائه ممن لهم معرفة بشعرنا العربيّ، ورغبته في النفاذ إلى روحه التي انعكست صافية في ديوانه (تماريت). وقد يكون في محاولته هذه أكثر وعياً من شعراء عرب كثيرين في إدراك ماهية تراثهم وأهميته. ولا يخفى تأثير إدغار آلن بو في الشعر الفرنسيّ في الوقت الذي لم يكن تأثيره في لغته بمثل هذا العمق والاتساع، إذ لا يرى إليوت في نثره أو شعره ما يراه الشعراء الفرنسيّون بسبب معرفتهم المحدودة باللغة الإنجليزية وأساليبها وهو يقصد بذلك مالارميه و فاليري بالذات.. وما تخلل ترجماتهم من ضعف وأخطاء وهذا ما أشارت إليه سوزان برنار أيضاً في كتابها المعروف عن قصيدة النثر. وهذا ليس نقضاً لما قلتَ بل تأكيداً على مسؤولية الشاعر تجاه تراثه لاسيما إذا كان هذا التراث من العمق والشمول ما يجعل مسؤوليته أكبر وامتداده أبعد يتعدّى زمنه إلى أزمنة أخرى ، حين يقترب الواقع من أسطورته، والإنسان من طبيعته ، وتصبح اللغة نشيداً كونيّاً.

أما إشارتك إلى ملحمة جلجامش وهي تلخص بالفعل الكثير من النصوص الاحتفالية والدينية والشعرية الأخرى ، مثلما تلخص ثقافة وموروثاً شعبيّا سابقين فهي ذات أهمية خاصة تستدعي التوقف لما تحمله الملحمة من خبرة شعرية، امتزج فيها الشفويّ والمكتوب، العام والخاص، الفرد والجماعة، الزائل والخالد، وانصهرت كلّ هذه التناقضات في أتونها الشعريّ الذي أتى عليها جميعاً، لذلك كان مسرح الملحمة الأرض والسماء معاً.. الحضيض والعلاء وما بينهما من مسافات موحشة يطرقها البشر متشبهين بالآلهة ليعودوا بشراً ينتظرهم الموت وعالمه السفليّ حيث يخلّف الميت جسده هناك ليعانق القادم من أرض البشر روحاً بلا جسد ليخبره أنّه خلّف جسده وراءه نهباً للدود كما جاء في أحد النصوص التي ورثتها الملحمة.

ولعلّ أغرب ما في الملحمة هو أن العاديّ لا يقيم بعيداً عن الخالد فأتونابشتم، حين يلتقيه جلجامش لا يبدو إلهاً بل إنساناً بالغ البساطة. شعرٌ أرضيّ محوره الإنسان في عذابه وهو يجوب السماء والأرض ولا يقف عند تخوم معينة كأنما كتب عليه الترحال الدائم .

ولعلّ من الغرابة أيضاً ، وما أكثر الغرائب في أرض جلجامش والرافدين، هو وقوف الشعراء عند أطلال مدنهم، أسلافاً وأبناء وكأنّ لعنة أبدية تلاحقهم، وقد تلاحق من يأتي بعدهم من شعراء أحفاد.

ولم تكن النصوص الأخرى بمنأى عمّا ذكرته من سمات طبعت الملحمة، كالنص الذي يتحدث عن دوموزي (تموز) وإنانا (عشتار) مثلاً، لما فيها من ألفة وعادية مشحونة بالغناء ما يجعل سماءها أرضاً وآلهتها بشراً ومقدسها عادياً ومركزها هامشاً ، وطقوسها أحداثاً لبشرٍ عاديين لا آلهة خارقين يحبون ويبتهجون ويخشون ما ينتظرهم من أحداثٍ، ويمارسون الحب، كما يفعل البشر ليغدو الكون شيئاً آخر.. حلماً أو أسطورة.

لم يصلنا هذا التراث عبر وراثةٍ ، ليؤثر فينا ، وإنما من خلال ما خبرناه من تجربة لم تزل تلاحقنا حتى وقتنا الحاضر، لذلك يبدو الشعر العراقي تياراً حقّا، كما تفضلت، يمتدّ من النصوص الأولى مروراً بشعرائنا العظام في العصور المختلفة الماضية وانتهاء بالسياب وما تلاه من أجيال لاحقةٍ.. تيار أرضيّ يتطلع إلى السماء دون أن يفارق واقعه وتفصيلاته الغنية التي لن تنتهي أبداً مهما ارتاد الشعراء من مجاهيل في هذا الواقع. أما هؤلاء القادمون بهلوسات كاذبة فهم ليسوا بغريبين عن هذا التيار وإنما هم غريبون عن الشعر عموماً.. وليس لهم من موقع في هذا الشعر إلا كموقع من يُورد اسمه للإحصاء مهما علا ضجيجهم.

وفي هذه المناسبة أحيّي فيك جرأتك في التعامل مع هذه الملحمة العظيمة، ملحمة جلجامش التي ألهمت شعراء عالميين كثيرين ولا تزال، عبر عملك (عودة جلجامش)، إذ ليس من السهل التعامل مع ملحمة احتوت على مواقف وتحوّلات عصية على التناول، وإن بدت بسيطةً في ظاهرها.

انطلاقا من هذه الزاوية، كيف أفاد عبد الكريم كاصد من التراث الشعري الرافديني؟ و كيف يسجل انتماءه لمجرى تياره العظيم؟ ثم هل يحتاج الشعر دائما إلى فكر كبير كي يكون؟
- ثمة مجرى تيار خفيّ في داخلنا ينبثق فجأةً بين فترةٍ وأخرى، متخذاً شكلاً ما: قصيدةً مسرحيةً، نصّاً. أول النصوص التي انبثقت لديّ كانت قصائد قصيرة كتبتها عن عشتار وجولا، الفتاة الرهينة التي ورد اسمها في بعض الألواح الطينية، وأخرى، لا أذكر منها في بداياتي الشعرية غير هاتين البيتين التي أخاطب فيها عشتار:

علقيني ..
علّقيني فوق كتفيك رداء
ذكرٌ في الصبح أنثى في المساء

وظلّ هذا التيّار خفيّاً ينبثق بين فترةٍ وأخرى ، رغم ابتعادي عنه ، إذ أنني أذكر أن قصائدي الأولى المستوحاة من تراثه كتبتها بعد اطلاعي عليه وقراءاتي المتواصلة له، لكن ما يحيّرني أنني كتبت قصائدي اللاحقة المستوحاة منه وأنا بعيد عنه أي أنه لم يكن شاغلي الأساسي. و فجأة وجدتني أكتب قصيدتي (ألواح)، التي منها هذا المقطع الموسوم (أوتنابشتم) في مجموعتي (قفا نبك):

لم يشأ أن يتطلع من بابٍ
أو نافذةٍ
أو حتّى من ثقب
وقد اربدّت السماء
وارتجّت الأرض
واهتزّت السفينة التي ظنّها بيته يوماً
تاركاً الريح تقذفها في مهاوٍ
لم يرجع منها بشرٌ
و جبالٍ
لم يشهدْ كذؤاباتها ليلٌ
منصتاً لصفير الأبديّة
في خلاءٍ معتم
وهو لا يكلّم أحداً
ولكن ما يحزنه الآن
هو هذا السكون المطبق
سكون السفينة
راسيةً في الأوحال

بعدها كتبت قصائد عمّا يجري في العراق الآن فانبثق (الثور السماويّ):

ثور سماويّ
أغار على حقولك
فالتجأت إلى المعابد
ضارعاً
حتّى إذا طال الخوار
خرجتَ من تلك الضراعة
ساحباً
ناساً وأطفالاً وراءك
إنّه الثور السماويّ
احترس
أظلافهُ حجرٌ
قرونه غابةٌ
وخطاه رعدٌ
ما الذي أبقى
وماذا أنت قد أبقيتَ
ثور هائجٌ
يمشي على قتلاك
ثمّ يطير
صوب سمائه
ثورٌ
سألتك أنتَ
أيّةُ حكمةٍ أبقى
وأيّةُ حكمةٍ أبقيتْ
ثورٌ هل ذبحتَهُ ؟

ولعل من الغرابة بمكان إنّ من بين أواخر قصائدي قصيدة تستوحي هذا التراث أيضاً وتتحدّث عن إنليل و أنكيدو وقد أعود مستقبلاً لهذا التراث منقّباً لا عن آثاره بل عن روحي الضائعة فيه من يدري ؟

أما عن الفكر وحاجة الشعر إليه فإن هذا أيضاً لا يمكن تناوله بمعزل عن تعييناته أو تطبيقاته في القصيدة: هل الفكر بمعزل عن الأحاسيس والتجربة في القصيدة؟ كيف يتمّ التعبير عن هذا الفكر؟ ماذا يعني الفكر الكبير؟ هل الشعر ذو الإحساس المرهف العميق الذي يبدو بعيداً عن الفكر يخلو تماماً من الفكر؟ من الذي يحدّد أن هذا فكر وهذا ليس بفكر؟ وحين يبتدع شاعر شكلاً غنائيّاً عذباً بسيطاً.. أ يخلو هذا الشكل من عناء الشاعر الفكري في البحث عنه والعثور عليه؟ أليس الفكر الزائد مضرّاً بالقصيدة كالملح الزائد في الطعام؟ كيف لنا أن نفصل الأفكار عن الأحاسيس في القصيدة الواحدة؟ أين يبتدئ الفكر و أين تنتهي الأحاسيس؟ وأسئلة أخرى؟.. لذلك أفضل البحث في هذه المسائل ذات الأهمية الكبيرة من خلال القصيدة ذاتها أو منجز الشاعر ذاته، وليس عبر الإطلاق الذي قد لا يوصلنا إلى الدقة التي يتطلبها البحث في الشعر؟

صور الشاعر


في منجزك الشعري ككل، هناك انشغال واضح بصورة الشاعر و وضعه و أسئلته. و قد وجدت في ديوانك "دقات لا يبلغها الضوء" (بيروت 1998) ذريعة ملائمة لمساءلة موضوع "صورة الشاعر" من منطلق قراءة تدعي أنه ديوان مكرس للشعراء بامتياز. هل كان هاجس محاورة الشعراء حاضرا بوعي لديك؟
- قد يشبه طريق الشاعر طريق المتصوف. كلاهما مدفوع بالمحبة أكثر مما هو مدفوع بالمعرفة . على الرغم مما تولده المحبة من معرفة والمعرفة من محبة. وأنا حين تناولت هؤلاء الشعراء لم يكن في ذهني تقديم صورةٍ للشاعر بقدر ما كان في ذهني علاقتي المباشرة بهؤلاء الشعراء، التي هي علاقة مبعثها المحبة إلا في قصيدتين قصيرتين هما: (هزيمة) و (مربد). من هذه العلاقة لا من أية فكرة مسبقة عن الشاعر تتكون صورة الشاعر التي هي ليست واحدة بل تتعدّد بتعدّد الشعراء في عالم بدأ يفقد وحدته التي طالما تغنى بها فلاسفة القرن التاسع عشر خاصة ، يقابله فن بدأ يفقد حدوده أو خاصيته ، وإن ظلّ الشعر حاضراً ببداهته رغم تعدّد الأجناس الأدبية و اختلاط الأشكال والرؤى التي قد يلخصها تعبيرك (غموض العبارة).

يتكون هذا الديوان تحديدا من فصول. ما دلالة هذا التقسيم؟ هل الفصل يمثل وحدة موضوعية، أم هو شكل جمالي مقترض من أجناس تعبير أخرى كالرواية و المسرح على سبيل بناء جسور مع تلك الأجناس؟
- أتصور أنه يمثل وحدة ولكنني لا أدري إن كانت موضوعية أم لا، بالإضافة إلى احتوائه شكلاً جمالياً أسميه أنا ترتيباً إلى حّد ما.

في القصيدة الأولى من "فصل الشعراء" هناك نداء لشاعر المعرة في صيغة "يا أبا العلاء". يستدعي هذا النداء صورة الشاعر الأعمى، و نفس الثيمة تعرضت لها بشكل صريح في القصيدة المحورية "دقات لا يبلغها الضوء" التي تستثمر فيها استعارة الشاعر/ الرائي. هلا حدثتنا عن ثنائية البصر و البصيرة، المرئي و اللامرئي. و لم ارتبط الشعراء الكبار بهذه "الفضيلة". وكيف أن الرؤيا تستدعي العمى؟ تحضرني الآن أسماء كل من هومر و بورخيس و دانتي و وليام بليك و أبو العلاء المعري و أبو تمام؟
- هذه انتباهة جميلة حقّاً. لِمَ ترتبط الرؤيا بالعمى لدى هوميروس، ملتون، المعري، بورخيس. هل لأن الشاعر حين يفقد عينيه يعوضهما ببصيرة القلب.. بوصلة الشاعر في هذا العالم؟ هل التحديق الطويل في الظلام أقدر على كشف الأسرار، واختراق الحجب عمّا هو جوهري عبر أعراض نافلة يتوقف عندها المبصرون؟ هل لأن العمى خلاص من هذه الأعراض وبريقها الزائف التي يواجهها الأعمى ببريق آخر هو بريق الجوهر المتجسد في حكمة راسخة أو عابرة يظنها الآخر حكمة المفكر مثلما ظن طه حسين في كتابه (مع أبي العلاء المعري) أن حكمة أبي العلاء ليست من الشعر وهي المستلة من الوجود ذاته، من الروح ذاتها في تجربتها المعذبة ومن عذاب الجسد نفسه في مواجهة العماء. لا أدري كيف صدر ذلك الحكم من طه حسين المحب لأبي العلاء ولشعره، والبصير مثله؟ غير أن الرؤى قد تفارق تجربتها فتضحي أفكاراً ليس موضعها قلب الرائي بل ذهنه المتوقد الذي قد ينطفئ في طريقه إلى فكر الآخر القارئ لا إلى قلبه وهذا ما حدث للشاعر الإنجليزي العظيم بليك حين اختلق أساطيره بذهن تجريديّ.

ما نسمّيه رؤيا قد يسميه الآخرون عمىً، لذا ترتبط الرؤيا دائماً بالجنون والعمى. و هي أساساً ما يردنا في نومنا من أحلام حين نكون مغمضي الأعين أي حين نكون مغلفين بالعمى، وكأنّ العمى مرحلة أولى للإبصار:

قلت لأبي العلاء:
" أراغبٌ أنت في الإبصار يا أبتِ؟ "
قال: كرغبتك أنت في العمى

كيف تتجلى أشياء لم تزل في رحمها للشاعر وكيف يصدّقها الآخر الذي لا يرى الأشياء حتى في تجليها؟ البصيرة هي بصر الشاعر الحقيقيّ وليس المهرج "الأنانيّ الذي يدعي أنه خلاّق"، على حدّ تعبير رامبو.

قصيدة "دقات لا يبلغها الضوء" هي الوحيدة التي وضعت عليها تاريخ كتابتها في هذا الديوان فيما درجت في دواوينك السابقة على تأريخ جل القصائد تقريبا. هل ترتبط هذه القصيدة بحادثة ذاتية معينة خصوصا و أنك تضعها في "فصل المرض"؟ "من يعيرني عينين/لأبصر دموعي" ما كل هذا الألم الضاري؟
- لم أنتبه لذلك، وحين عدت إلى الديوان وجدت أن جميع القصائد غيرمؤرخة باستثناء هذه القصيدة. وهذا محض صدفة ولكنها قد تكون ذات دلالة تفسّرها الدراسة الذكية التي تناول فيها الديوان الشاعر والناقد السوداني محمد جميل أحمد معتبراً إياه شعراً محضاً غير مرهون بما هو نسبيّ أبداً وقد تخففت الأشياء من ثقلها وغدت إشارات تضئ . أما قصيدة (دقات لا يبلغها الضوء) فهي شيء آخر.. شيء لن يفارق مادته حتى لو تجرّد منها. إنها القصيدة التي تشير إلى مادتها بقدر ابتعادها عنها. كتبتُ القصيدة بعد أن فقدت عيني اليمنى وأجريت لي عمليات عديدة ولم أستعد عيني بضوئها الشحيح إلاّ في عملية ثالثة أو رابعة.. رافقتها عذابات وأسفار. بعض مقاطعها تدوين لما رأيته في لحظة ما إثر عملية أو فقدان ولكن يا للغرابة أيضاً.. يا لغرابة الشعر أنّ من قرأها بعثت فيهم البهجة كيف؟ لا أدري: أ هي رؤاها التي اختلطت بالحلم ؟

لقد رأيت دوائر من ضوء
وقوس قزح بارد
في بركةٍ
وحلمتُ وأنا أحدّق في الحلم

أم هي لعبتها لعبة الضوء والظل ، الرؤيا والعمى على حّد قولك:

سأفتح أوراقي وردةً وردةً
وأغلقها
سألهو مع الماء والظلّ
واضحك كالأميرة
سأغلق أوراقي وردةً وردةً
وأفتحها
سألهو مع الشمس والليل
مع الليل والشمس
وأبكي
من يعيرني عينين
لأبصر دموعي

لماذا يقول الأعمى في القصيدة :

أنا الأعمى
لا أحبّ الأشياء الساكنة إلى الأبد
ويغيظني الضوء
والضجيج العابر
لعينيّ مئات الأبراج
ولا برج لي
أرى سفينةً ولا أرى مسافرين
أمواجاً ولا أرى بحراً
وأنازل الظلام
بذراعين عاريتين
أنا الأعمى
أنهمر كالفرح
وأبكي

كيف تفارق القصيدة موضوعها إلى جوهره الإنسانيّ؟ كيف تفارق القصيدة ألمها إلى الفرح الكامن هناك في الأعماق . هنا ربّما تتجلى قدرة الفن في الارتفاع بالفنان لا إلى رمزه بل إلى جوهره الإنسانيّ الذي كثيراً ما يغفل عنه حتى من هو أشدّ حرصاً على هذا الجوهر والتصاقاً به ، مثلما تتجلى قدرته في اختراق مادة موضوعه لإضاءته بضوء لم يوجد فيه من قبل ليصبح الفرح والحزن الإنسانيان جزءاً من وجود أشمل تنتفي فيه الأضداد ويصبح الفنان وموضوعه شيئا واحداً.

هناك أيضا صورة أخرى جديرة بالانتباه، ألا و هي صورة الشاعر/البديل. في قصيدة "الشبيه"، تخاطب الشاعر مصطفى عبد الله، في شكل رثاء، جاعلا منه محاورا رمزيا يتبادل معك الأدوار، بنحو يختلط فيه الأنا بالآخر. تقول: "كالمهد/ أهز قبرك اليتيم/ منتظرا في الظل/ خلف شمعتي الأخيرة/ أينا الميت؟/ أينا عافه الرب/ في هذه البرية المقفرة/برية الشعر؟".
- ثمة تبادل للأدوار يتجسّد حتى في الألفاظ ، فالبيتان الأولان يترددان في نهاية القصيدة بصغية المخاطب بعد أن كانا في البداية بصيغة المتكلم . كتبت هذه القصيدة أيضاً في تلك المرحلة التي فقدتُ فيها بصري .

في قصيدتيك "الملك لير" و "ماكبث" تتقمص ذات الشاعر إهاب شخصيتين رمزيتين هما الملك لير و ماكبث حيث تختمهما بالعبارتين التاليتين: " أيها الملك/شبيهك في القفر..أنا"، "وجهامة ماكبث/الذي هو أنا". لم التماهي مع هاتين الشخصيتين بالتحديد من العالم الشكسبيري الرحب؟ هل هو شعور بالمأساة؟ أم محاولة للارتقاء بالذات المفردة إلى مستوى الرمز الإنساني؟
- لم تطرأ في ذهني ولن تطرأ أبداً أية محاولة للارتقاء بذاتي إلى مستوى رمزٍ.. أيّ رمز فهذا ليس شاغلي على الإطلاق. سمّه شعوراً بالمأساة! ثمة غفلة وبراءة كبيرتان في شخصية الملك لير انعكست ظلالهما في هذه القصيدة لديّ أو تلك. و بعد أن فقدت بصري لا أدري لم كان الملك لير يتمثل لي بعماه وعذابه وبراءته. في قصيدتي (دقات لا يبلغها الضوء) يحضر الملك لير في هذه الأبيات في خاتمتها:

عيني التي أضعتها كملكٍ أضاع عرشه،
في ليلةٍ حالكةٍ
آه لو أجدها ثانيةً لأضعها في القلب

أما في قصيدة (الملك لير) فيحضر بقفره وصواعقه و بروقه وهو يتعثر بأشباحه وحيداً، ومن قبل حضر الملك لير خارج القصيدة في الحياة ذاتها حين رجعت من دفن أبي في النجف فأخذت أتطلع في البشر والكائنات مذهولاً كذهول لير بعد موت كارديليا أرى الحياة التي فقدها أبي إلى الأبد وهي تنبض حتى في الكلاب.. يا للمعجزة.. و يا للحيرة ..!

لكنني حقّاً لا أجد تفسيراً لِمَ حضر مكبث أيضاً . كان ثمة صوت يتردّد في داخلي لأكتب هذه القصيدة.. صوت حسب.. ما هو؟ لا أعرف ولو تبيّنته الآن لأصبح وعياً متأخراً.

أعمى (أ تقول القصيدة ذلك ؟) ينازل منفاه ولا يدري من سيكون شهود النزال.. ولمَ ؟ ولو تردّد لأقبلت الغابة وهنا يحضر ما كبث... حقّاً إنها قصيدة ملتبسة أتعرف فيها على نفسي وهذا شيء غريب لا من خلال المعنى الواضح والدلالة الواضحة بل من خلال الصوت الطالع من القصيدة وحده، والذي أعرفه وهو يختصر عذاباً وتردّداً وحاضراً متردّداً أيضاً لا يقين فيه.

لعلّها و هي القصيدة القصيرة العابرة في الديوان، والتي قد لا يلتفت إليها أحد سواك هي الأكثر تعبيراً عن العمى الذي لا تتحدث عنه على الإطلاق.

الشاعر الطريد. تلك صورة أخرى من صور الشاعر في هذا الديوان قد تعكسها بامتياز قصيدة "المدينة الفاضلة" التي فيها شعور بالخذلان و الخديعة و سخرية الأقدار. ألا يستطيع الشاعر أن يكون إلا طريدا؟ ألا تزال تلاحقه لعنة أفلاطون منذ طرد الشعراء من مدينته الفاضلة؟
-
الشاعر في هذه القصيدة طريد من المدينة الفاضلة لا لأنه شاعر بل لأنه واحد من هؤلاء البشر الذين أضاعوا حتى الحلم بإقامة المدينة الفاضلة. لقد فقدوا وهماً كان جزءاً من واقعٍ يتحرك وفجأةً ألفوا أنفسهم واقفين لا يقوون حتى على الالتفات إلى ماضي تجربتهم. صورة الطريد هي صورتي وصورة المنفيين مثلي وليس بالضرورة صورة الشعراء جميعا.

ثمة شعراء ماهرون بمعرفة طرق الحاضر لا طرق المستقبل. ومنهم مهرجون تستدلّ عليهم بأصواتهم العالية.

هناك خذلان آخر واقعي جدا يتعرض له الشعراء ألا وهو الإجحاف و نكران الجميل من طرف آلة المدينة. و هو ما أشار إليه الشاعر المغربي، محمود عبد الغني، في إحدى مقالاته المرهفة، عن قصائدك حيث يقول: " قرأت مؤخرا جزء من أشعار الشاعر عبد الكريم كاصد: "دقات لا يبلغها الضوء" و "قفا نبك". و هي أشعار مضت كغيرها، بلا سميع و لا سامع. فالإعلام لعب لعبته الخبيثة مع هذا الشاعر الذكي، الموهوب و القادر. حفر قبرا لقصائده أهال عليها التراب. وبقي يقضم أعشاب الشعر اليابسة. و هو الآن (هذا الإعلام) في طريقه إلى السفح، و لن تحميه الأدعية من الانهيار". ألا ترى مع الشاعر عبد الغني أن آلة النقد الإعلامي العربي تهمش الشعر و الفكر الجيد وتحتفي بالزبد الجفاء؟
- محمود عبد الغني شاعر مبدع أتابع قراءة قصائده ومقالاته الذكية التي تحتوي دوماً على وجهة نظرٍ ذات خصوصية متميزة. سرّني أن أطلع على مجموعته الجميلة (عازف الكمان) منذ وقت قريب. مقالة عبد الغني هي مقالة احتفائية تضمنت نظرات في غاية الدقّة والرهافة رغم احتفائيتها، وهي تثير مشكلة حقيقية هي مشكلة الإعلام وتهميشه لما هو جيد في الشعر والفكر. هذه المشكلة لا يمكن النظر إليها بمعزل عن المشاكل الأخرى التي يشهدها واقعنا. إنها جزء من هذه السوق الكبيرة الذي يتحول فيها الشعر ذاته إلى سلعة والنقد إلى رطانة لا تضئ بقدر ما تعمي وقد ساعدت صعوبة فهم المدارس الحديثة، وغموض مصطلحاتها، وخصوصية تطبيقاتها إلى مزيد من ظلامية هذا النقد .

لا أفهم كيف يرطن ناقد بالمصطلحات الحديثة ويتحدث عن العصر الراشدي الذي قتل فيه ثلاثة من خلفائه الأربعة باعتباره مثالاً. لا أفهم كيف يكتب شاعر يعتبر رائداً للحداثة عن محمد عبد الوهاب باعتباره نموذجاً للفكر المجردّ الباهر.لا أفهم كيف يكتب مفكر عربي كبير كتابين عن سلمان رشدي مستعيناً بزوجته خريجة الأدب الإنجليزي كما يذكر في المقدمة ، متهماً كل ناقديه بعدم قراءة آيات شيطانية وعدم معرفتهم بالإنجليزية.لا أفهم أن يكتب مفكر كبير عن الروائي ف.س. نايبول باعتباره نموذجاً للمثقف في العالم الثالث ثم يطرده من مدينته الفاضلة، أو يهجو لغةً ليمدحها في ما بعد.

لا يقلقني وضعي الخاص، فأنا لا أنتظر من إعلام كاذب أن يقدّم حقيقتي وهو إعلام السلطات التي نفتني ولم تتسع حتى لمنفاي، لكنني من جهة أخرى كسبت محبة الناس لي ومحبة مبدعين شعراء وكتاباً في أرجاء الوطن العربي لم أعرفهم من قبل، ولم تربطني بهم أية آصرة غير آصرة أخوة الأدب.. أنت واحد منهم، ولم يكن احتفاء المربد الأخير إلاّ تعبيراً عن هذه المحبة التي حملها إليّ أدباء العراق ممثلين باتحادهم وليس بسلطة قائمة.

هناك من يتقن التعامل مع الإعلام و توظيف العلاقات الشخصية للتعريف بأعماله و منجزاته مهما كانت قيمتها. هل من سبب في نظرك لهذا الإهمال الإعلامي إزاء منجزك الشعري، أم هو اختيار شخصي في التعامل مع الإعلام بحذر و بدون مجازفة؟
- إتقان التعامل مع الإعلام وتوظيف العلاقات الشخصية .. هذه كلّها جزء من سمات السوق التي أشرت إليها والتي يربأ الشاعر الحقيقيّ بنفسه من دخولها . ليس فرح الشاعر الحقيقيّ في دخوله السوق بل بإبداعه . أما ما يترتب على هذا الإبداع من امتدادات أخرى فما هو إلا فروع وليس أصولاً ، هامشاً وليس متناً.

و من قبل أثار الشاعر ممدوح عدوان، الذي تهديه قصيدتك "لعبة"، هذا الموضوع معتبرا أن غياب النقد الثقافي الجاد هو جزء من أزمة ثقافية عامة، و عرف من ثمة "النقد الإعلامي" بوصفه"المراجعة الصحفية السطحية و المستعجلة و غير المسؤولة" (حوار:الشعر، الطفولة والطفل الأبدي" الكرمل العد68 ص2001). حبذا لو نغتنم هذه الفرصة لنتذكر الشاعر ممدوح عدوان و نبسط بعضا من رؤاه في الشعر و النقد. و من ثمة نطرح بعض المؤاخذات على النقد، أو بالأحرى غياب النقد المطلوب.
- يشكّل ممدوح ظاهرة نادرة في قدراته العديدة وعطائه الغزير الذي لم يقتصر على الشعر بل شمل الرواية والنقد والمقالة الصحفية وترجمة العشرات من الكتب ذات الأهمية الكبيرة في الثقافة الإنسانية . ذكر لي أثناء زيارته لي في بيتي في لندن بصحبة زوجته وابنه الفنان والشاعر زياد قبل رحيله بأشهر أنه ترجم ما يقرب من سبعين كتاباً ، دون أن يقابل جهده هذا بما يستحقه من تكريم أو مكافأة، وما ذكره من غياب النقد باعتباره جزءاً من أزمة ثقافية عامة ليس بعيداً عن الصواب، في واقع لم يشهد استقراراً ولا تقاليد أدبية ، وقد تبلغ الأمية في بعض أماكنه 90% أو أكثر .. واقع هو مثال للبعثرة التي تتصارع فيها ثقافات عديدة: أصولية مغرقة في تخلفها المشحون بالعنف ، وثقافة سلطة مهيمنة في بلدان كثيرة لا تخرج عن هيمنتها إلاّ أصوات قليلة تجد نفسها أحياناً في وضع لا يمكنها من الاستمرار طرفاً واضحاً في الصراع بسبب تداخل المواقف وتعقيد الظرف، فتجد اليساري والأصوليّ المتطرف يقفان الموقف ذاته من هذه القضية أو تلك ، ولعلّ من مفارقات هذا الواقع هو أن الصراع الذي يكتسب طابعاً عاماً يلتقي عنده الجميع (كالموقف من الإمبريالية مثلاً) يتخذ ، من جهة أخرى ، طابعاً شديد الخصوصية هو الطابع الطائفيّ ، وفي تداخل العام والخاص ثمة فسحة لتداخل المواقف والتواطؤات والتقاطع مع السلطات وتصبح عبارة دستوييفسكي (كلّ شئ مباح) هو شعار هذه المرحلة العصية على الفهم والذي يعيش فيها المنفيّ منفاه مرتين : الغربة عن الوطن ، والغربة عن الثقافة ، ولعلّ من أشدّ الظواهر غرابة هو انفصال هذه الثقافة عن الواقع الذي تتناوله انفصالاً يصل حدّ القطيعة، فلا علاقة مثلاً بين النقد والنص الذي يتناوله ولا علاقة هناك بين فكر مفكر عقلاني ومديحه لسلطة كسلطة صدّام مثلاً ، أو بين ثروات البلد الهائلة وفقر ناسها المدقع .. بين إعلام السلطة والواقع ، وكأن ديالكتيك الواقع الذي يتحدث عنه الفلاسفة ، منذ هراقليطس، وتركيبه غائبان لا علاقة لهما بهذه الأرض التي لم تعد تتسع حتى لساكنيها، ولعلّ اللغة في هذا الواقع هي من بين القيم الأشدّ تضررا وتعرضاً للتشويه لما أصابها من عطب الاستخدام وقد لا تنفع بعض المحاولات المبدعة في تقويم هذه اللغة إذا ما استمر هذا الوضع في سديمه القائم الآن .

إذا كان ممدوح الذي يملك بيتاً بسيطاً ووظيفة متواضعة في بلده يتكلم بهذا السخط فما بالك بالمثقف المنفيّ الذي زاحمه جلادوه في منفاه، ومع ذلك لم يسلم من الاتهام والنبذ. إنها القسوة.. قسوة مضاعفة. تراها هي التي تختفي وراء هذا الألم المتراكم في قصائدنا؟

كتبت عن ممدوح قصيدتين إحداهما إثناء حياته ، وهي التي أشرت إليها في سؤالك، والأخرى بعد موته ولكنها ليست مرثية بقدر ما هي قصيدة تتحدث عن حياته هو في علاقته معي حين كنا نسكن قبواً في دمشق أوائل الستينات أيام كنا طلابا في جامعة دمشق وهي بعنوان (القبو)، كما كتبت عنه مقالة طويلة بعنوان (خفة الشاعر التي تحتمل) ومما كتبته فيها:

"كان ممدوح في السنة الثالثة أو الرابعة في جامعة دمشق وكنت أنا في السنة الأولى في قسم الفلسفة. كنا غير متشابهين حتى في مصادر ثقافتنا. كان يتنقل خفيفاً كالفراشة بين كتبه الإنجليزية التي كنا نحتار في نقلها حين نبدل سكننا – وما أكثر المساكن التي انتقلنا إليها – بينما كنت أقف متجهما كغراب إدغار آلن بو على كتب الفلسفة الثقيلة التي كان يمرّ بها ممدوح متأففا..وحين كنت أعتمد عليه أحيانا في ترجمة بعض النصوص الفلسفية التي ينبغي أن أقدم فحصاً بها كان يشترط علي مبتسماً ابتسامته الودود ألا ّ أسأله عن معنى النص بل أكتفي بالترجمة الحرفيـة. وكنـت أرضى بشرطـه علـى مضض وأكتفـي بترجمته الحرفية الخاليـة مـن المعنـى غالبا و الشبيهة بالكلمات المتقاطعة. وبالفعل كانت نصوصا تعافها النفس لهيوم ولوك وباركلي.

ولم تفارقه (خفة الكائن) هذه حتّى في كتابته في ما بعد. كانت أوّل قصيدة له تنشر في مجلة "الآداب" اللبنانية تتحدث عن المدينة.. الموضوع المفضل لدى كثير من الشعراء العرب القادمين من الريف.. من بين أحداثها، كما أتذكر امرأة تلقي بسطل ماء على الشاعر أثناء مروره تحت شرفتها، ولم يكن النقد الذي كتبه محيي الدين صبحي في عدد آخر عن القصيدة ايجابياً، ولكن ذلك لا يستوقف ممدوح بل قد يكون مفتتحا لصداقة مع الناقد... هذه الروح المرنة حقّاً كانت تعوز الكثيرين منا نحن أبناء المدن حيث يفترض العكس... كانت المدينة طموحا لدى ممدوح بينما كانت تمثل لي صراعاً. وفي الوقت الذي كنت أعمق معرفتي بالمدينة عبر قراءتي لتفاصيلها كان ممدوح يكتشفها في واقعها ذاته... يقتحمه جريئاً لا بتصميم مسبق بل بعفوية ابن الريف الذكيّ الساخر."

ديوان "دقات لا يبلغها الضوء" مليء بأسماء الشعراء و المبدعين حتى لكأنه يبدو لي كمحفل للشعراء، أقصد بانثيون على الطريقة الإغريقية.
-
أغلب هؤلاء أحببتهم غير أنني لم أعرف كيف أعبر عن هذا الحبّ.. لعلّ في هذه القصائد التي احتوت كلمات قليلة ما يعوض ما فاتني من قبل.. لعلّها تعويض متأخر لا للشعراء أصدقائي فهم في غنى عن كلماتي ولا تنقصهم الفطنة في معرفة محبتي لهم، وإنما هي تعويض عما عجزت أن أعبر عنه بطريقة مألوفة لدى الناس.

يقول محمود عبد الغني في نفس المقال: "الهامش مكان الشاعر المفضل لمراقبة العالم". ماذا قدم لك موقعك هذا الهامش الشعري الذي تتربع فيه؟ هل أنت فعلا مرتاح في هامشك؟
-
ليس ثمة مركز لأكون في الهامش. وما يُعدّ مركزاً هو الهامش بعينه . ثمة مركز واحد حقيقيّ هو تصدّرنا إعلانات العالم وإعلامه، أما ما عدا ذلك فنحن جميعاً بحجمنا الهائل في هامش صغير في العالم ، وكأننا أصبحنا لاوعي العالم بوحوشه وكوابيسه أوكأننا نواصل كابوساً لم نستيقظ منه بعد. أين المركز؟ في السلطات العابرة؟ أم في قنوات الإعلام التي يديرها الأميون؟ بل أين هو المركز حتى في ثقافتنا وقد تبعثرت في بلدان عديدة ومنافٍ شتّى وأصبح كلّ هامش مركزاً وكلّ مركزٍ هامشاً؟ ألا يعيدنا سعي الشاعر أو المثقف أن يكون في المركز إلى صورة الشاعر القديم في سعيه أن يكون شاعر القبيلة أو الخليفة؟

حدثنا عن حكمة الخاتمة التي تقول فيها:

لم أكن أدري
أن ما قطعته ذاهبا
كان طريق الإياب
و أن أحلامي ورائي
و أنني لم أكن غير ظل يمشي
لرجل واقف

ما كل هذه المفارقات المستعصية؟ أي شعور هذا الذي يثوي وراءها؟
- هذه الخاتمة أحبها كثيرون، وهي تعكس ظرفاً خاصّاً مرّ بي كدتُ أفقد فيه بصري نهائياً. كتبت هذه القصيدة وقصائد أخرى، كما لو أنني أتحدث مع صديق عزيز بلا أيّة كلفةٍ وكأن اللغة تفيض بعد أن حبست طويلاً. إنها همس مريض لزائريه، لم يعد يعنيه مداورة اللغة وخبثها أو زخرفتها. إنها وجوده الحقيقي وصلته الوحيدة بالآخر.

منازل الشعراء

لقد كتبت مقالات عن شعراء أحببت شعرهم و حاولت إبراز قيمة أعمالهم الإبداعية أمثال البريكان، و مصطفى عبد الله و السياب و البياتي و الجواهري. هل يمثل هؤلاء الشعراء نماذج للشاعر الحقيقي في نظرك؟
- لا نموذج لديّ للشاعر، ولكن ثمة جوهر هنالك، جوهر واحد مهما اختلفت نماذج الشعراء هو الإنسان. فقده يعني فقد الإنسانية والشعر معاً . قد تختار شاعراً وتكتب عنه وأنت لا تحمل له محبة كبيرة، وقد يجوز العكس فأنت قد لا تكتب عن شاعرٍ لصيق بك. ترجمت للكثير من الشعراء الفرنسيين ولكنني لم أترجم لرامبو. ثمة تعقيدات حقّاً من الصعب تفسيرها تماماً كما هي عليه العلاقات الإنسانية من بساطة وتعقيد في آن واحد. كتبت عن البريكان وأنا لا أحبّ عزلته، وعن البياتي و أنا لا أحبّ انغماره في لعبة الإعلام. وعن الجواهري وأنا لا أحب قصور معرفته ببعض موضوعاته (كأبي العلاء المعري مثلاً)، وعن مصطفى أخي وحبيبي وأنا لا أحب جوانب كثيرة في شخصه. لديّ الآن كتاب لم أخطط له ولكنني اكتشفت أن كل الشعراء الذي كتبت عنهم نقداً كتبتُ عنهم قصائد أيضا. لذلك فكرت أن أنشر كتاباً يحوي الدراسات النقدية والقصائد معاً وهم: أبو العلاء المعري، الجواهري، السياب، البريكان،عبد الصبور، البياتي، ممدوح عدوان، مصطفى عبد الله ، عزيز السماوي .

إذا توقفنا عند الشاعر محمود البريكان الذي ترجع علاقتك به إلى بداية الستينات، و أعتقد أنها كانت، بالنسبة إليك، فترة التكوين و التحصيل العلمي في معهد اللغات ثم في قسم الفلسفة والدراسات الاجتماعية. حبذا لو تعطينا فكرة عن هذه العلاقة و من خلالها الصورة التي كان يجسدها البريكان آنذاك من خلال موقفه الشعري من العالم و إسهامه في المشهد الثقافي؟
-
تعرفت على البريكان عندما كنتُ طالباً في معهد اللغات ببغداد. كنا نلتقي كثيراً في مقهىً يقابل سينما الخيام وكان يلفت نظرنا دوماً صاحب المقهى الطريف وهو يحدّث ببغاءه طول الوقت بغمغمات مكرورة وحركة أصابعَ رقيقة تنقر الهواء أو جدار القفص ، ولعلّ هذه الببغاء هي وراء قصيدة البريكان الجميلة ( جلسة الأشباح ) .

لا أدري لماذا يذكرني البريكان بالشاعر كفافي أو الشاعر البرتغالي بيسوا ، في حياته المحدودة والتزامه الوظيفيّ وعالمه الداخليّ العميق الذي لا يبارحه أبداً حتى وهو يتحدّث إلى الآخر. كان قارئاً نهماً دقيقاً حتى الوسوسة. أتذكر مرّةً أنه أراد أن يشتري كتاباً لنيرودا أو طاغور – لا أتذكر بالضبط – فأمضى وقتاً طويلاً يقلبّ عدداً من نسخ الكتاب ليختار واحدةً منها متلمساً حافاتها مهمهماً حتى اضطرني إلى الضحك الذي شاركني إياه ممتزجاً بخجله الدائم خجل المراهق الشاب لا الشاعر الشيخ. في تلك الفترة كان البريكان مدرساً في إحدى ثانويات بغداد ويعيش حياة منعزلة إلاّ من بضعة أصدقاء من بينهم محمود البياتي وهو قاص وروائي أحب كتاباته وأعتبره من أفضل القصاصين في كتابة القصة القصيرة ، كما أحبّ روايته الأخيرة ( رقص على الماء ) التي أهملها النقد . كان من أصدقائه أيضاً الشاعر عبد الأمير الحصيري .

بعد مجيء البعثيين إلى السلطة ومجازرهم واختفائي في مدينتي البصرة لم ألتق بالبريكان إلا بعد زمن طويل. كان البريكان في أوج وساوسه وتساؤلاته المؤرقة وكان كما يبدو لي أن لكتابات ألبير كامو ولا سيما كتابه المتمرد الذي ترجمه آنذاك نهاد رضا عن الفرنسية، تأثيراً واضحاً في هذه الهواجس وتقليب الأمور إلى حدّ التوقف عن الحكم . ثمّ جمعتنا الظروف ثانيةً في معهد المعلمين. كان هو يدرس االلغة العربية وأنا أدرّس علم النفس و كنت أحسده على تدريس مادته الحيادية التي قد لا تسبب له متاعب كالمادة التي أدرسها. كنا أحياناً نتخلى عن فكرة الذهاب إلى البيت ونمضي وقتنا في المدينة متناولين غداءنا في أحد المطاعم وشاينا في واحد من مقاهي البصرة الكثيرة. في ذلك الوقت عهدت له مديرية تربية البصرة مسؤولية تحرير مجلة أسماها (الفكر الحيّ) صدر منها عددان فقط احتويا على قصائد له. من بين هذه القصائد قصيدته الطويلة (هواجس عيسى بن الأزرق) وهي من قصائده القديمة تتحدث عن سجين سياسيّ يودع في القطار مقيّداً بصحبة شرطيين. وهي ليست من أفضل قصائده غير أن البريكان يعتقد أن قصائده يمكن أن تنشر في أيّ وقت ولا علاقة لنشرها بتاريخ كتابتها. ورغم صحة هذه الفكرة بشكل عام إلاّ أنها تبدو متطرفة في جوهرها، وتتعامل مع المطلق في الأشياء دون رؤية الوجه الآخر لهذا المطلق في نسبيته التي تخترق حتى الشعر. وإلا لما شهدنا الحركات التجديدية المتواصلة والبحث عن الأشكال والرؤى الجديدة ، حقيقة أكانت أم زائفة، لأن ثمة أشكالاً جديدة تبدو قديمة وأخرى قديمة تبدو جديدة. وهذا ما أعاق النظرة الموضوعية إلى شعر البريكان وامتداداته عربيّاً. لذا جاءت التقييمات متطرفة أيضاً في مديحها أو التقليل من قيمتها، وأصبحت مقارنته بالسياب موضوع إعلام عابر وكتابة عابرة، دون أن يهمها التمييز بين تجربتين مختلفتين تماماً.. بين شعر يُخفى في الأدراج وحين ينشر يفارقه المطلق إلى ما هو نسبيّ في ملامح جمالية تبدو في هذه الكلمة أو تلك، في هذه الاستعارة أو هذا الرمز.. في هذه الواقعة أو ذلك الخيال، وبين شعر أصبح تأثيره طاغياً ونماذجه مطلقاً، إن صحّ التعبير، ولا سيّما في قصيدتيه (بويب، وأنشودة المطر)، رغم شراسة النقد الذي ووجه به هذا الشعر ولا أخلاقيته من قبل بعض نقاد ادعوا الحداثة ونعتوا شعر بدر بشعر الانحطاط والتصحر والبداوة كإيليا حاوي في مجلة الآداب.

ويبدو أن البريكان أدرك ذلك فنشر بعد ذلك ، دفعة واحدة، عدداً كبيراً من قصائده الجديدة التي لا يخفى تأثيرها وأهميتها، رغم الدعوات الهابطة والهجوم المتكرر الذي يطالعنا في كتابات غير مسؤولة في بعض مواقع الإنترنيت.

مقالك "ثمن الشعر"، الذي صدرت به عملك التحقيقي للأعمال الكاملة للشاعر مصطفى عبد الله، أثار ردود فعل جد إيجابية. هلا حدثت قارئ هذا الحوار عن محتوى هذا المقال، و عن هذه المهمة التي اضطلعت بها لصيانة تراث الشاعر وتداعياتها في الأوساط الثقافية؟
-
حاولت في مقالي هذا أن أبرز احتفاء الشاعر مصطفى عبد الله باليوميّ وتخطيه له إلى نقيضه من حلم وطفولة وأساطير حتى ليبدو أحياناً وكأنه الواقع يقف مقلوباً على رأسه، أو كأنّ الشاعر يهشم المرآة ليخترقها إلى الواقع نفسه. و قد يتجاوز مصطفى اليوميّ إلى ما هو أكبر من أسئلة وجودية عصيّة على الإجابة، كما في مرثيته عن أبيه، دون أن يفارق شعره الغناء وكأنّ اليوميّ والغناء رمزان للاحتفاء بالواقع والشعر.

قد يستحيل الواقع نفسه في شعره إلى ما هو أسطوريّ كما في قصيدة (الدهليز)، يجسّده جوّ القصيدة واستعاراتها الغريبة. ثم تحدّثت عن قصيدته الرائعة (الأجنبيّ الجميل) التي أعتبرها من بين أجمل قصائدنا المكتوبة في المنفى، يمتزج فيها الخارق بالمألوف، والحلم باليقظة، والواقع بالمخيلة ، وكما ذكرت في مقدمة الكتاب الذي جمع شعر مصطفى أنني وجدت صعوبة بالغة في جمع قصائد مصطفى لاسيّما أن نتاجه الشعريّ موزّع بين العديد من المجلات والصحف بالإضافة إلى صعوبة قراءة بعض المطبوع منه، وقد أُرسلتْ إليّ نسخه المصورة فاضطررت إلى الذهاب إلى براغ والاطلاع على النسخ الأصلية التي بحوزة أخيه خالد.

لمصطفى موقع مهم في شعرنا العراقيّ لم يُدرك بعد. و لكنني على يقين أن هذا الموقع سيكون له أثره البالغ في شعرنا القادم.

لديك حساسية خاصة مع تراث الشاعر الكبير بدر شاكر السياب. و مقالك "مصالحات الشاعر" فيه تقدير استثنائي لهذا المبدع الاستثنائي، كما فيه إحساس بالمرارة لمأساوية مآله شاعرا وإنسانا على حد سواء. هلا حدثتنا عن علاقتك بالسياب و بميراثه الشعري و مصالحاته؟
-
علاقتي بالسياب وميراثه الشعريّ ومصالحاته يضمها مقالي (مصالحات الشاعر) الذي قلت فيه "إذا كان البعض انطلق أو ينطلق ، في دراسته للسياب ، من اعتراضات الشاعر ، فإنني أنطلق في كلمتي هذه من مصالحات الشاعر في علاقته بالواقع .. هذه المصالحات التي لم تجلب للشاعر غير الخراب، فهي كاعتراضاته لم تنقذه أبداً. وحين لا يعارض الشاعر العالم ولا يتصالح معه أو بعبارة أخرى حين لا يقيم على تعارضاته أو مصالحاته آنذاك تتجلى المأساة بعريها الكامل بلا أقنعةٍ، ولا مسرح في فضاء مطلق، وهذا ما كان عليه السياب".

وبعد أن تحدّثتُ عن مصالحاته الوظيفية توقفت عند المصالحة الأوسع في حياته ألا وهي علاقته بمجلة (شعر) نقيضه الشعريّ وقلت إنّ هذه المصالحة كلفته كثيراً، إذ زادت من عداواته المعلنة فشحذت مجلاتٌ كالآداب أسلحة نقدها، عبر نقاد مشهورين - انطفأوا الآن - كإيليا حاوي للتقليل من أهمية السياب ونعته بالتخلف والبداوة حتّى في أشدّ نماذجه تألّقاً.

لم يمارس السياب هذه المصالحات بقناعةٍ أبداً بل بمأساوية البطل الخاسر الذي تساوى لديه كلّ شيء، وقد أوصلته إلى بخس نفسه فنيّا فكان يكيل المديح المجاني لشعراء مجلة شعر الذين سكروا وقصفوا بالمبلغ الذي أمدّه به عبد الكريم قاسم للعلاج في بيروت كما يذكر ذلك عيسى بلاطة في كتابه عن السياب الذي قدّم له يوسف الخال نفسه، ويداهنهم بل ويعتذر لهم عن تجديد قاصر كما يبدو ذلك في واحدة من رسائله إلى يوسف الخال. أما مصالحاته السياسية فكانت ذات آثار فجائعية حقّاً فهو قد فصل من الوظيفة بعد مجيء البعثيين رغم مديحه لهم وهجائه عبد الكريم قاسم الذي أعانه في مرضه، أما الحدث الفاجع الأخير الذي لم يره السياب فهو تهجير عائلته من البيت في يوم تشييعه.. هذا البيت الذي هو واحد من بيوت عديدة كان يسكنها الشرطة وصغار الموظفين.

و ما أستغرب له أن كثيراً من متتبعي الوقائع والنقاد لا يشيرون إلى ذلك فلا تستوقفهم غير علاقته الغابرة بالشيوعيين كما أنهم لا يشيرون إلى قصائده التي هجا فيها البعثيين كقصيدته (أسير القراصنة) المنشورة في ديوانه (المعبد الغريق) والتي بسببها وبسبب غيرها من القصائد منع الديوان من دخول العراق .

ولعلّ من بين المصادفات الغريبة في حياتي أنّ السياب لم يكن يسكن بعيداً عن مكان إقامتي الدائم . كانت تفصلنا جادّة للسيارات شبيهة بالسدّ. كما إنه لم يكن بعيداً عن مكان إقامتي المؤقت في باب سليمان القريبة من جيكور.

ما دمنا نتحدث عن الشعراء، لا بد من لي من الوقوف عند شاعر إنساني كبير، أقصد به شاعر الهند رابندرانات طاغور (1861-1941) و خصوصا أنك كتبت عنه قصيدة "العزف على أوتار طاغور" سنة 1969، و هي مضمومة في مجموعة "الحقائب"، بل أكثر من ذلك، عدت مجددا إلى نفس الشاعر في قصيدة تحمل عنوان "في تقريض طاغور" الواردة في كتابك "أحوال ومقامات" الذي تزاوج فيه بين الشعر و النثر، بين الومضات الحكمية و الصوفية و السرد القصصي. كيف اكتشفت طاغور في هذه المرحلة المبكرة؟ و لم ظل يلازمك طيلة هذه المدة؟
- لم يكن طاغور مجهولاً لأكتشفه، فهو شاعر إنسانيّ كبير أحببته، مثلما أحببتُ شعراء كثيرين مازالوا أثيرين لديّ حتّى الآن. سحرتني نبرته الخافتة وكلامه الخفيض، وعالمه الأرضيّ، رغم كلّ تحليقاته الروحية التي تذهب به بعيداً في إنسانيته، وطريقته في الترديد والتكرار والقص الذي لم يفارقه في قصائد كثيرة، وكان من بين مجموعاته الأكثر تأثيراً مجموعتاه: جتنجالي والهلال. والأول كتب مقدمته ييتس لطبعته الإنجليزية، وهو الذي كان وراء منحه جائزة نوبل.

لم تكن قصيدتي (العزف على أوتار طاغور) تكراراً لعالمه الروحيّ المشبع بتفصيلات الأرض بل طباقاً إذا استخدمنا مصطلح إدوارد سعيد . ثمة حوار في قصيدتي وطباق وأسئلة:

نام على راحتهِ طفل
وارتفع شجارٌ في السوق
ودنا كلبٌ من طاسة شحّاذ
وانتظر الناسُ على الضفّة ..
كان الحلم يسيل
ويشيل قرىً نائمة
طاغور .. ! تُرى كيف تقيل
الأغنية من وهج الحشد ؟

اطلعت على شعر طاغور عبر ترجمات عديدة متفرقة أفضلها ترجمة بديع حقّي آنذاك، إذ صدرت له عدّة مجموعات أتذكر منها الهلال وجتنجالي والبستاني وجني الثمار و بعض المسرحيات ، ومن بين هذه المسرحيات مسرحية شيترا وهي مستوحاة من (الماهابهاراتا).

أمّا لماذا لازمني طوال هذه المدّة فلأنه شعر عظيم أعود إليه بين فترة وأخرى مستعيداً من خلاله انطباعاتي الأولى ومشاعري آنذاك، وحبي للشعر الذي يظل متوهّجاً حتى في خفوته، بل أنه يزداد توهّجاً كلّما غمرته ظلمة طارئة بسبب حماسات عابرة أو أشكال شعرية مصطنعة ليس لها من الشعر غير ظاهرها.

لقد شغف طاغور ملايين القراء مثلما شغف شعراء وأدباء كبارا: ييتس، عزرا باوند، أندريه جيد، رومان رولان وآخرين. وحين التقيت بالبريكان اكتشفت أن البريكان يحمل تقديراً كبيراً لهذا الشاعر، ويسخر من هؤلاء الذين لا يرون غير بساطته الظاهرة.

ولو سألتني لماذا كتبت قصيدتك (في تقريض طاغور) لما عرفت السبب على الإطلاق وقد نسيت الدافع إلى كتابتها، ولكنني أرى فيها مرحاً لا أتبين أسبابه:

نحن شهود اللعبة يا طاغور
على ظهرك نلهو حين تصلّي
ونصلّي
حين نراك كطفلٍ تلهو
ونقول :
" أيا زمن الشعر
أ جئناك على هرمٍ
بلحىً
أطول من لحية بابا نوئيل "

في "أحوال و مقامات" أعدت إدراج قصيدة "العزف على أوتار طاغور" من جديد مشفوعة بإضاءة موازية تقول فيها أن هذه القصيدة التي لم ينتبه إليها أحد كانت "نبوءة" لما حل بالبلاد في ما بعد. أي البلاد تقصد تحديدا؟ و ما الذي تعنيه بالنبوءة في هذا المقام؟ ثم هل يمكن أن يصل الشعر حد العرافة؟
-
لا ليست نبوءة تماماً. يمكن تسميتها حدساً بما سيأتي من أيّام قادمةٍ سوداء. كان هذا مجرد توجس منّي وأنا أرى ما يدور حولي من صراعات وتخلف في بلدي ونزعات شريرة تقودها تنظيمات وأحزاب وما يحوط هذه الصراعات من صراعات أخرى أبعد تحديداً.. إقليمية وعالمية.
هذا التوجس ربّما تجده في هذا المقطع:

قابلني بوذا
في الطرف الغربيّ من الليل
محفوفاً بالريح وبالهول
يتبعه قمرٌ
قال :
يأتيك زمانٌ تزحف فيه الأمطار
ويغيب الظلّ
ويسير الناس على الأنهار

أو في هذه الخاتمة المستوحاة من روح الأوبانيشاد:

قرار من الأوبانيشاد:

الشمس لا تنيرهُ
والقمر الساطع لا ينيرهُ
والليل لا ينيرهُ
والنار لا تنيرهُ
بيتي الذي أسكن فيهْ


إن إدراجك لنص من نصوصك القديمة ضمن مؤلف جديد يفضي بنا إلى سؤال آخر طرحه من قبل د. مجيد الراضي، في تعقيب له على مقالك "ثمن الشعر"، و كان قد صاغه على الشكل التالي: "ما مدى حرية الفنان في الإفادة من أعماله السابقة في تكوين أو خلق أعمال فنية جديدة". أقتنص بدوري هذا السؤال لأولد منه سؤالا مضاعفا: ما شرعية إعادة توظيف نص في عملين مختلفين شكلا و مضمونا؟
-
الدكتور مجيد الراضي صديق عزيز اختلفنا مرّة حول نصوص العزيز الشاعر الراحل مصطفى عبد الله وكان في بعض ملاحظاته مصيباً ولا يعني اختلافنا تخطئة الآخر، وسؤاله مازال قائماً ويستحق التوقف عنده طويلاً، مثلما يستحق سؤالك التوقف عنده أيضاً ، لكنْ ثمة فرق كبير بين السؤالين فالأول يتعلق بالنص المكتوب ثانيةً ونشره إلى جانب النص الآخر في شكله الأول، أما سؤالك فهو يتعلق بالنص الواحد في عملين مختلفين دون أيّ تغيير فيه. وإذا كان الأول يثير إشكالات عديدة فعلاً فإن الثاني لا أراه على هذه الدرجة من التعقيد ولا سيّما أنه موظّفٌ في العمل الآخر لإنارته وإنارة العمل نفسه، فإذا كان في الإضاءتين عدم شرعية فأنا بدوري أتساءل: لمَ؟

عبد الكريم كاصد، خلال اشتغالنا المشترك على ترجمة مسرحية "الماهابهاراتا" للكاتب الفرنسي جان كلود كاريير، و المخرج البريطاني بيتر بروك، كنت دائما تثير تفاصيل دقيقة في هذا النص الرائع، و كنت تركز بشكل خاص على ما تتضمنه المسرحية من مفهوم للشعر في التراث الهندي. ما خصوصية هذا المفهوم؟
-
هذا تواضع منك. لم نشتغل معاً ولم أكن سوى قارئ أبدى ملاحظات بسيطة لصديق عزيز عن نص رائع حقّاً.

ألا يدهش أي قارئ مثل هذا التعريف للقصيدة الوارد قبل آلاف السنين: "صافية كالزجاج، لا شيء يحذف منها، تمحو الأخطاء، تشحذ الدماغ، وتهب العمر الطويل". أو هذا التعبير الجميل: "لا أريد أن يُفسد أحدٌ هذه القصيدة بارتكاب جريمة ".

لعلّ التعريف الأول من التعريفات النادرة للقصيدة: صفاؤها، وحدتها، حكمتها، فعلها، وأيضاً جدوى القصيدة.. وكأنّ في التوصيف الأخير إشارة لما يسبق الأبدية. أما التعبير الآخر فهو تمجيد للشعر والحياة معاً .

خلال زيارتك الأخيرة للبصرة في إطار فعاليات مهرجان "المربد" بالبصرة (15-17 نيسان/أبريل 2006)الذي خصص دورته الأخيرة احتفاء بشعرك، قمت بزيارة لبيت الشاعر بدر شاكر السياب. ما دوافع تلك الزيارة؟ و كيف وجدت منزل الشاعر؟
-
طوال إقامتي في البصرة كنت ألتقي بصديقة عند تمثال السياب لنجلس فيما بعد في (كازينو السياب) القريبة من التمثال والمحاذية للشطّ ، وكأني على موعد مع السياب أيضاً.. موعد ليس في موضعه الحقيقيّ.. موعد خارج المكان الذي لم أعد أتذكره جيّداً.. وقد زرته قبل أكثر من ثلاثين عاماً. كان ثمة حيطان عارية وطلل سُمي بـ (منزل الأقنان)، وكان ثمة نسوة ظهورهن إلى الحائط القديم بعباءاتهن السود يتقدمن من الوفد الذي كان يضم الجواهري أيضاً: "نحن قريبات السياب".

لا أتذكّر شيئاً غير هذا المشهد أما البيت فلم تبق منه ملامح في ذهني. ما دفعني أكثر لاستعادة ما فقدت من تفاصيل هو أن بيت السياب لم يكن بعيداً عن الأماكن التي ألفتها في طفولتي التي كتبت عنها قصيدة (قوارب) و (ورحيل عمال الجراديغ) أي مكابس التمور، وقصائد أخرى في مجموعتي (النقر على أبواب الطفولة)، ومن بين هذه الأماكن مدرسة (باب سليمان) الابتدائية التي كنت أدرس فيها ثلاثة أشهر كل عام (وهي الفترة التي نرحل فيها للإقامة هناك لنعود بعدها إلى أماكننا السابقة). هذه المدرسة كان يدرس فيها السياب في طفولته أيضا.

ثمة دوافع عديدة : أصدقاء يسكنون قريباً من الطريق العام الذي سنسلكه إلى جيكور، قرية حمدان التي يسكنها أعمام زوجتي الراحلة وأقاربها، والتي كانت تزورها دوما ولها ذكريات عديدة عنها. .. و أماكن أخرى أريد أن أراها وكأنني أحمل توق إنسان عائد من العالم السفليّ إلى عالم الناس. كيف تبدو الأماكن التي لم أرها منذ أربعين سنة والتي شهدت أحداثاً صغيرة هي الآن أكبر حتى من دوافعي؟ وكيف أرى الناس الآن أو يرونني؟ ثمة ظمأ في الروح؟ أيرتوي حقّاً في زيارة عابرة؟

كان لابدّ من هذه الزيارة وإلاّ فإني سأرجع وقد استحالت روحي صحراء لن يبلها أيّ شئ حتى ولا مطر الذكريات.

وحين زرت هذه الأماكن ومن بينها بيت السياب القريب منها أحسستُ كأنّ روحي هدأت ولعلّ من غرائب المصادفات إنني حين وصلت جيكور ومعي أصدقائي الشاعر عبد الباقي فرج، الشاعر قاسم محمد علي، أنس أخ الشاعر مصطفى عبد الله، وابن عمي الذي قادنا بسيارته إلى هذه الأماكن، قابلنا واحد من أبناء عمومة السياب وأبنائه وكان أحدهم شبيهاً بالسياب تماماً.

قال لي عبد الباقي: "انظر ألا يشبه السياب؟" . قابله الشاب بابتسامة خجول. وهذا ما حدث لي أيضاً حين زرت بيت لوركا في طريقي إلى قريته حيث صادفنا في مدخلها شخصٌ شبيهٌ بلوركا وإن كان أشدّ سمرة.

لقد رأيت البيت وما يحيط به من آثار وكأنني لم أرها من قبل. يا للذاكرة كم تتغير كما يتغير الواقع. قد لا تتعرف الذاكرة على الواقع مثلما لا يتعرف الواقع على الذاكرة. ما أغرب الاثنين!

في الحقيقة، عبد الكريم كاصد، لفت انتباهي اهتمامك الخاص بمنازل الشعراء. فقد كتبت بتفصيل جميل عن زيارتك لبيت الشاعر الاسباني غارسيا لوركا، في كتابك الموسوم "باتجاه الجنوب..شمالاً ". ما سر هذا الافتتان و الاحتفاء بمنازل الشعراء؟
-
بيت الشاعر ليس مكاناً، إنّه زمن أيضاً.. زمن مكتمل أتطفل عليه وألتحم به وأعود جزءاً منه راغباً مثله في الاكتمال، ولأنه لم يعد مكاناً فهو ليس بواقعٍ بل حلم أريد أن أستعيده.. حلم متحقق له شكل الواقع.

قد يتواصل الآخرون عبر طوائفهم، أو تجمعاتهم، أو أحزابهم، غير أن التواصل عبر الشعر شئ آخر، مكانه قد يكون بيت الشاعر.

ألا يتجسد الشاعر في البيت واقعاً، والبيت في الشاعر حلماً؟ حين أكون في بيت الشاعر أستحضر الشاعر الغائب، مثلما استحضر بيته في قصيدته. حنيني إلى بيت الشاعر هو حنين إليه ونفي لغيابه الذي قد يكون غيابي.

كان بودلير يخشى الطبيعة.. يخشى امتدادها لأنّ امتدادها يكشف عريه الذي يتطلب أسواراً تحدّه لا امتداداً. و في حالتي ربما ثمة خوف لا يستكنّ إلاّ في البيت الذي يمثل لي ألفة وسياجاً إزاء امتداد مجهول لا ألفة فيه.

البيت هو الماضي الذي اكتمل، الخالي من مفاجآت ما هو قادم. إنه الماضي الذي أتوجه إليه لأنغلق فيه كمحارة لا تريد ضوءاً غير ضوئها.

بيت السياب زرته في الصيف، وبيت لوركا في الخريف. في الأول تمتزج العزلة بامتداد لانهائي للوحشة، وفي الثاني تقف وحشة العالم عند عتبة البيت وقد استحالت حلماً لم تغادره البهجة قط.. البهجة القديمة الحاضرة أبداً. لا سور هنا ولا جدار قديم بل لعبة مرحة لا تنتهي لطفل أبديّ هو لوركا.

بيت لوركا مثل بيت يتجدّد دوماً.. يتأثث، ويستعيد ماضيه متوجهاً نحو المستقبل. ثمة مستقبل في ماضيه، إذا صحّ التعبير، أما بيت بدر فهو خرائب مدموغة بالماضي وحده. لا مستقبل ينفذ إليه.. تحس وكأن المكان قهره الزمن ، بينما ينتصر المكان لدى لوركا على الزمن. ولولا (بويب) ونهر (العذارى) وخضرة تتشابك هنا وهناك لا ستحال البيت إلى منزل أشباح.

ما من بيتٍ لا تصبغه الأحلام، فكيف إذا كان هذا بيت الشاعر؟ قد يمثل البيت، عموماً، رسوخاً و بقاء. يقابله مرورنا العابر. أتساءل أحياناً: هل كنت هناك حقّاً ؟ ليس ثمة سوى خطوةٍ، ربما ، بين الحلم الذي يجسّده البيت والواقع الصلب الذي تشعر أن قدميك تقفان عليه بتوازن وإلاّ ستصطدم بأشياء عديدة.. بشرٍ و أحداثٍ.

مرة سُئلت : ما أجمل بيت بالنسبة إليك؟ فأجبت: بيتي . وبيتي هو نفسه لم يعد بيتاً . في قصيدتي (مملكة الأنهار) أتساءل: أكان بيتاً؟ وهو يزول ثم يعود أشجاراً ونهراً نهبط إليه أو نرتقيه:

بيتٌ على نهرٍ يُطلّ
أكان بيتاً؟
هل رأيتكِ فيهِ؟
بيتٌ أبتنيهِ
إذا اختفيتِ
أصيح من جزعي " افتحي!"
فيزول
ثمّ يعود أشجاراً
ونهراً
تهبطين إليهِ
بيتٌ أرتقيهِ
إليك
بابُه سدرةٌ
وظلاله ممشىً
وخطوكِ في الظلال
يرنّ
يرنّ
يرنّ
حتّى تخفت الأصوات
حتّى تختفي
كلّ البيوت

وقد يكون قبواً نلمحه عالياً فنصعد الدرجات إليه، كما في قصيدة (القبو) الذي سكنّاه، أنا وممدوح، في منتصف الستينات:

فجأةً
نهجرُ القبو
نلمحهُ عالياً
نصعدُ الدرجاتِ إليه
ونلهثُ

- ممدوحُ أين ترى نحن؟

محضُ سماءٍ
ونافذةٌ
وغسيلٌ يلوح بعيداً
ووجهُ ملاكٍ يُطلّ
ونحن الفقيران
أين المدينة؟
زرقاء
تلك السماء
وأزرق بحرُك في ذلك القبو
أين هو الآن بحرك؟
بل أين قبوك؟
أينْ؟

لنلتقط فكرة الاحتفاء بالشعر و الشعراء. أذكر، في لقائنا قبل سفرك إلى البصرة، أنك كنت مصرا على حضورها كأنها طقس لازم، رغم أوضاع العراق المأساوية. كيف تلقيت هذه المبادرة الرمزية أو قل هذا الاعتراف؟ و ما هي دلالاتها العميقة في هذا الوضع الاستثنائي الفاصل؟
-
حضرت لأنني لا أستطيع أن أتخيل نفسي غائباً في احتفاء يحضره الآخرون من أصدقائي وأحبائي الذين منحوني ثقتهم بذريعة وضع مأساويّ يعيشه الجميع، ولاسيما أنّ هذا الاحتفاء لم تقمه سلطة لكي اقلّب موقفي من احتفائها بي، وإنما أقامه زملاء لي أدباء وكتاباً في اتحاد الأدباء العراقيين ، بعيداً عن أي مداخلات أخرى.

و مثلما يشكّل حضوري حضوراً للشعر الذي لم يكن بعيداً عن الناس فإنه حضور للثقافة التقدمية أيضاً وسط صراع الطوائف والأحزاب.. أي لم يكن موقفي من حضورها أو عدم حضورها موقفاً ذاتيّاً بل موقفاً له أبعاده الثقافية والاجتماعية والسياسية بل والإنسانية: مشاركة الناس مصائرهم. كما إنه الاحتفاء الأول الذي أشهده في حياتي ، بعد منفاي الطويل الذي استغرق أكثر من ثلاثين عاماً والذي لم يكن ملتبساً أبداً كما هو الآن بالنسبة للكثيرين من المنفيين من جلادين ومداحي سلطة ورجال أمن وشعراء قدموا إلى المنفى بهراواتهم فلم يشجوا غير رؤوسهم وماضيهم الملوّث بمديحٍ رخيص للقائد ما كنّا لنعرفه لولا هراواتهم هذه.

لم يفارقني التوجس أبداً حتى في الاحتفاء بي. تساءلت في مقطع صغير كتبته ( أ لعرس أم لعزاء؟) في هذا الربيع المتواري المتردد خلف الأبواب حيث لا زهرة لأحملها إلى سرادق الاحتفاء المنصوب لي، ولكنه كان عرساً للآخرين من أحبائي وتلامذتي وقراء شعري ومواطنيّ.. أناس شتّى يعبرون عن حبهم ودعواتهم التي قد لا تنتهي حتى في ظرف عام كامل، ولكن أنّى لي أن أهنأ بدعوةٍ أو احتفاء وأنا أرى القتل اليوميّ والتهجير العشوائي للناس البسطاء باسم طائفة أو دين أو.. لذلك لم أمكث سوى ثلاثة أسابيع مرّت كأنها يوم واحد شهد لقائي وتوديعي معاً.

احتفاء لم يكن مصحوباً بمالٍ ولا جائزة حتى ولا طبع كتاب لي أقامه فقراء لشاعرٍ احتفى بهم أيضاً ولكن في قصائده وحياته تاركاً الادعاء الفخم بعزلة الشعر عما سواه لغيري ممن لا يقرأ أشعارهم سوى قرائهم الوهميين.. جاهلين حتى بمفهوم العزلة ذاتها لأن تعاملهم لم يكن يوماً مع الحياة وإنما مع الألفاظ الفارغة لا الحية التي تعبّر عن واقعٍ أو حياة ما.

لقد عاش شعراء كثيرون عزلة حقيقة: سجن، منفى، وحتى الجنون.. لكنهم لم يتخلوا عن الناس ومفهوم الأخوة الذي لم يكن لفظاً لديهم بل لحماً ودماً: ريتسوس، وتمان، نيرودا، ناظم حكمت، رامبو، وحتّى كفافي بمشاعره الإنسانية المرهفة في عزلته، محتفظين بجنونهم الشخصيّ في شعرهم وليس كما هؤلاء الذي ليس لهم من الجنون غير ظاهره في لعبة يائسة لتقديم أنفسهم باعتبارهم شعراء ليس لهم من الشعر غير رماده الخامد.

هؤلاء مدعو الحداثة والشعر يجهلون أن واحداً من أعلام الحداثة الذي هو دريدا يرى أن الكتابة حفر ٌ في اتجاه الآخر أيضاً.

كان المربد، رغم ظواهره السلبية، تظاهرة رائعة لشعراء جريئين أعلنوا رفضهم وازدراءهم لكلّ ما هو مقيت في الواقع من طائفية وتحزب ضيّق ونهب ولم يكن المربد كما أشاع الإعلام الكاذب قاعة للعمائم السوداء والبيضاء إذ لم تكن هناك غير عمامة أو عمامتين أحداهما لنجل الشاعر الراحل مصطفى جمال الدين وهو شاعر أيضاً، في غاية التواضع والألفة. شارك في المهرجان أيضاً فنانات وشاعرات منهن: شذى سالم، رسمية محيبس، نجاة عبد الله، والأخيرتان شاركتا في المهرجان بإلقاء قصائدهما مثلما شاركت أخريات في توزيع الجوائز والجلسات التي أقيمت على هامش المهرجان.

لعلّ المربد هو المهرجان الوحيد الذي شهد تظاهرة لم يشهدها مهرجان عربي آخر في أية بقعة من بقاع هذا العالم العربي الممتد، هو احتجاج الأدباء في القاعة على كلمة مسؤول لما جاء فيها من تخليط وحمق، وخروجهم من القاعة فيما بعد.. ولم يعودوا إليها ثانية إلاّ بعد اعتذارٍ من هذا المسؤول وتراجع عن موقفه.. كل ذلك حدث أمام كاميرات التلفزيون. كنت واحداً من هؤلاء الذين خرجوا احتجاجاً وقبل خروجي كنت جالساً في الصفوف الخلفية وبجانبي يجلس مسؤول في السلطة وهو شاعر أيضاً فاقتربت منه هامساً: بماذا يهرف هذا الرجل؟ فكان جوابه، جواب الشاعر لا المسؤول، ازدراء ما سمع من تخريف.

حكيت لي بعد عودتك من هناك أنك قضيت بضعة أيام في الريف العراقي وسط أناس بسطاء ورائعين. كيف كان تأثير تلك اللحظات الحميمية المعدودة في حضرة المكان و الناس؟ هل كان الزمن يمر كعادته هناك؟ و كيف وجدت تلك القلوب البسيطة وسط دوامة العنف العمياء؟
-
في العام الماضي قدم لزيارتي في البصرة أقرباء لي يسكنون الناصرية التي نزح منها جدّي في بدايات القرن الماضي ليسكن البصرة، ولئلاّ يتحملوا مشقة السفر جماعةً وعدت بزيارتهم في السنة المقبلة، و هذا ما تمّ بالفعل إذ توجهت إليهم بصحبة أقارب وأصدقاء لي في البصرة.

لم أزرهم من قبل ولم تضطرني الظروف إلى أن ألجأ إليهم مختفياً عن أعين السلطة كما حدث لأخي سلمان ومن قبله لأخي عبد الحليم اللذين أمضيا أيّاماً مختفيين لديهم في منطقتهم النائية عن المدينة، والتي كنت أظنها تقع على نهر الغراف غير أن تصوري كان خاطئاً إذ لم يكن هناك سوى بيوتٍ من الطين يتصدّرها، لدى البعض، منهم حجرات مستطيلة واسعة مفروشة للراحة والاسترخاء والسمر في ليالي الشتاء الطويلة .

ولكننا حين قدمنا إليهم كان الوقت صيفاً ففرشوا لنا متكأ في الباحة التي تتصدر بيوتهم والتي تنتهي بساقية وواحة صغيرة من النخل والأشجار ذكرتني بتلك النخلة المليئة بالفسائل التي صادفتني في رحلتي عبر الصحراء، بعد مسيرة دامت أياماً في صحراء قفر. امتدّت الجلسة إلى ما بعد منتصف الليل . كانوا من القدرة والذكاء ما يجعلهم قادرين على مواصلة المرح والحديث حتى الفجر.

لقد ابتكروا ألعاباً ومباريات وأبدوا معرفة نادرة بأسماء المباريات الرياضية ونجوم كرة القدم في العالم لا تضاهيها معرفة أبناء المدينة. وكأنهم يؤدون أدواراً على المسرح لمتفرجيهم القادمين، وكأننا في حضور قبائل بدائية لم تعرف المقدس والعاديّ بعد. ضحكنا كثيراً وكنّا حقّاً بعيدين عن كلّ ما يذكرنا بالقتل والترويع، وما يتخللهما من قداسة شاخصةٍ في صور هائلة منصوبة وسط الشوارع لرجالٍ معممين وكأنها إنذار لكلّ ما هو مقدس وعاديّ في الحياة.

لكن الخارج يحضر أحياناً بعلاماتٍ لا تخفى على أحدٍ تشي بماض غابرعبر أسماء أبناء وألفاظ عابرة : صدام ، عدي ابنا مضيفي الذي سجنه صدام وعديّ عشر سنين.. أسماء أبناء لا تستوقف سامعها وقد فقدت مضمونها إلى الأبد.

وفي النهار حين تجولنا بين بيوت الطين وجوار ساقية الأشجار الصغيرة كانوا يحدسون بما نفكر فيه فيفصحون عن كرههم للمدينة واغترابهم عنها وحنينهم إلى مكانهم حين يغادرونه.

لا تعني المدينة لهم غير سوقٍ يؤمونها لشراء العجول التي يربونها لتصبح أبقاراً ضخمة بعد شهرين أو ثلاثة فيبيعونها بأسعار مرتفعة، بعد أن هجروا الزراعة كلياً، لذلك تجدهم الآن، وقد تحسنت معيشتهم، أقلّ اضطراباً في حديثهم وتصرفاتهم وتعاملهم مع بعضهم بعضاً وأخفت حديثاً وأكثر مرحاً وكأن العراق يعيش عصره الذهبيّ، غير أننا ما أن أفقنا صباحاً حتى تناهى إلى أسماعنا أن ثلاثة من أهل القرية احتجزوا في مخفر شرطة المدينة بسبب حيازتهم بنادق غير مرخصة، فلم يلق النبأ ردّ الفعل المتوقع ، وكأنّ ما يجري حدثٌ عاديّ مألوفٌ يمكن تأجيل التفكير فيه في ما بعد، بل أنهم استقبلوا النبأ بالضحك والتعليقات التي لا تخلو من السخرية بمن اعتقلوا.

لم أتذكر منهم أحداً ممن قابلته في طفولتي سوى اثنين: امرأة فقدت ملامحها الجميلة التي تبدو الآن ظلالاً بعيدة لا يراها غيري في وجهها الذي كسته التجاعيد، و (عبهول) الذي ما زال صغيراً بحجمه الشبيه بحجم طفل، والذي كان يدهشنا نحن الصغار بجلسته، وهو الصغير أيضاً، وسط الكبار يلفّ السجائر ليدخنها ملتذّاً نافخاً بوق دخانه في الهواء. كنّا نشعر نحوه باحترام خاص باعتباره فاتحاً اجتاز محيط العلاقة الذي يفصلنا عن الكبار، وهو رغم تجاعيد وجهه مازال ذلك الطفل الذي لم يهرم.. عبهول هو الوحيد الذي لا يبتسم لمزاح الجماعة، وحين رآني مرّة جنب الساقية واقفاً وحدي تقدم مني هامساً في أذني: "لا تصدّقهم كلهم كذّابين"، فقلت له: يا عبهول على ماذا يكذبون؟ فأبدى لي حزنه لأنهم لم يفكروا فيه بعد وفاة زوجته، ويزوجوه ثانية، وقد كان لفقده عينه في حادثة ما أفجع الأثر في حزنه الدائم وهو ينظر بشكل مائل متشكك.

عند الفجر غادرنا القرية التي اختفت ربما إلى الأبد في صحراء هل تنجو من الضباع القادمة من فضاء مجهول.. فضاء يحيط بك من كلّ جهات الأرض؟

كيف كان التواصل هناك مع شعراء و مثقفي الداخل، إذا جازت العبارة؟
-
أغلب من التقيتهم كانوا ودودين متواضعين ، وبينهم مبدعون حقّاً، شعراء وكتّاباً اضطرّوا إلى طبع كتبهم على حسابهم الخاص، ربّما ليأسهم من المؤسسات الرسمية التي ما عادت تلفت انتباه أحد .

كنتُ أشعر بمتعةٍ في مشاركتهم جلساتهم الأليفة في اتحادهم الصغير المكتظ، بمكتبته الصغيرة في البصرة ، أما أدباء بغداد والمحافظات الأخرى فقد أمضيت معهم أيضا ليالي لا تنسى بعد انتهاء فعاليات المربد حيث كان نقلنا وبقلنا، كما يقال، الكلمات والأشعار التي أفنوا حياتهم في ترويضها وما زالوا. لم أشعر بأيّ إشارة تشي باستياء من تكريمٍ لشاعرٍ قضى أعواماً في المنفى، وقابلوا الاحتفاء باحتفاء أكبر من خلال تقديم قصائدي (الزهيريات) بأصوات ما يقرب من عشرين أو ثلاثين فنّاناً من معهد الفنون الجميلة وهم يعانقونني واحداً واحداً بعد الانتهاء من أداء فعالياتهم. وإذا كان ثمة شكوى فهي من ضيق الوقت وعدم فسح المجال للبعض منهم لتقديم دراسته عن شعري في الحفل.

ولا أخفي عليك حرجي من هذا الحبّ والمشاركة الكبيرة من الدراسات والكتابات التي أسهم فيها مبدعون لم يبخلوا في الإفضاء بعبارات محبتهم وتقييماتهم، كما لم يبخلوا في تكريس وقتهم لقراءة ما تيسر لهم من كتبي، وبعضهم لم تنقطع صلتي به حتّى الآن وإذا كان لديّ من حرج آخر فهو حرجي في توزيع وقتي بين أحبّاء لا أعرف كيف أتصرف معهم وأنا في طريقي إلى لقاء عابر لجريدة أو لقاء تلفزيوني لا تدري إن كان سيدوم ساعة أم بضع دقائق، وما يتخلل ذلك من تهيئة لم أعتدْ عليها ومرونة ما أعوزني لها!

في الحالة العراقية، هل يمكن الحديث عن "شعراء المهجر"؟ و ما الدور الذي يمكن أن يقوم به المثقفون لصيانة إرث العراق الثقافي، في وجه كل محاولات نهب و طمس حضارته، و في ظل عصر عولمة أصبحت فيها الثقافة حط الدفاع الأول بينما كانت في الماضي تعتبر خط الدفاع الأخير؟ هل من جدوى للشعر في مثل هذه الظروف؟
-
لست مع هذه التسمية فنحن لسنا بشعراء مهجر اخترناه بإرادتنا ولم نبق فيه باختيارنا أيضا ونحن نشهد الآن وطناً يتمزّق ويهجره أبناؤه آلافاً يوميّا.ً أما الدور الذي يمكن أن يقوم به المثقفون لصيانة إرث العراق فهذا مرهون بمنظماتهم الثقافية التي تمثلهم كاتحاد الأدباء العراقيين مثلاً وبجهودهم الفردية والجماعية عبر هذه المنظمات أو خارجها غير أن ما هو مهم هو جهدهم الجماعي الذي يحتويهم أصواتاً لها فرادتها وتوجهها الخاص. أما الحديث عن جدوى الشعر فإن في سؤالك ما يبعث على الشك في هذه الجدوى ، ولكن لو كان الشعر بلا جدوى لما كان حوارنا الطويل هذا ، ولما ظل لكلمات الماهابهاراتا عن الشعر ذلك الألق الذي ما زال يخطفنا .

في بريطانيا التي تقيم بها حاليا، هناك احتفاء بالشعراء و بمنازلهم كجزء لا يتجزأ من الحضارة البريطانية و من المشهد الثقافي و حتى السياحي بلندن على سبيل المثال. ما رأيك في الوضع الاعتباري للشعر و الشاعر في هذا البلد؟ و أي من الشعراء الإنجليز قمت بزيارة بيوتها؟
-
في بريطانيا لم أرغير منزلين هما منزل شكسبير، ومنزل كيتس، والمنزل الثاني كان مغلقاً حين جئته فلم أعاود الزيارة واكتفيت بإطلالتي عليه من الخارج.

سكنت مناطق عديدة في لندن كانت سكناً للكثير من الشعراء، ولا سيّما منطقة كامدن التي أقام بها رامبو وبول فرلين زمناً أثناء إقامتهما في لندن، مثلما كانت سكناً لييتس وسيلفيا بلاث وشعراء آخرين. قد لا تجد في لندن غير إشارات تعلن أنّ شاعراً أو كاتباً أو مفكّراً سكن هنا، ففي مدينة عريقة كلندن تجد هذه الإشارات في كلّ مكان تقريباً.

تصوّر أنني حين انتقلت إلى بيتي الجديد الذي أسكنه حالياً، قبل ما يقرب من ست سنوات قيل لي، باعتزاز، إنني سأسكن في بنايةٍ كانت إسطبلاً زمن الروائي العظيم ديكنز و إن هذا الإسطبل ورد ذكره في روايته الشهيرة (أوليفر تويست). ولا غرابة في ذلك فالإشارات تحوطك في كلّ مكان: السوق التي تحاذي بيتي يمتدّ تاريخها إلى أكثر من مئة سنة ، والشارع الرئيسيّ في الجهة الأخرى من البيت، شارع المحامين الشهير (كريزن رود) هو الشارع الذي كان يعمل فيه ديكنز في مكتب أحد المحامين، وهكذا...

بيتي
إسطبلاً كان ..
قديماً
أورده السيّد (ديكنز)
في (أوليفر تويست)
وبعثره بعصاه
كسراً تتطاير
كالساحر
كلماتٍ

كلماتٍ
كلمات
هذا اليوم
صباحاً
لا أدري كيف خرجتُ من الإسطبل
حصاناً
يصهل
أبصره (السيّد ديكنز)
فارتاب قليلا
ثمّ مضى
يكتم ضحكتَهُ
ويطوّح بعصاهْ

أما وضع الشعر والشعراء في هذا البلد فهو شئ مختلف تماماً عمّا ألفناه: شعراء يزورون المدارس ويلتقون طلابها ويتناقشون معهم وتصرف المكافآت المجزية لهم، وقد يقوم بعضهم بتعليم الطلاب أو غيرهم كيفية كتابة الشعر. وما يلفت الانتباه هنا هو شيوع الشعر المكتوب للأطفال. وهذا ما نفتقده في ثقافتنا حيث يندر شعر الأطفال المكتوب لهم أو عنهم أو الذي يكتبونه هم بأنفسهم. وهذا ما يسهم فيه حتى شعراؤهم الكبار. هناك عشرات المجموعات الشعرية والقصصية المكتوبة للأطفال لتيد هيوز.

أما الكتب النقدية فهي سيل لا ينقطع ولا يقتصر على شعر الشعراء الكبار وحدهم، وما يلفت الانتباه أيضاً هو دراساتهم المستفيضة عن شعرائهم الماضين. إنّ لكلّ واحد منهم مكتبة هائلة. ولعلّ المكتبات العامة الخاصة بالشعر وحده هي من الظواهر المثيرة للاهتمام فلا يكتفون بإعارة الكتب وإنما بنشر الشعر عبر الوسائط الحديثة من كاسيتات وفيديوات وغيرها..

من خلال رحلتي الشيقة في عوالم نصوصك و أشعارك، و من خلال حواراتنا المسترسلة، وجدت فيك شعلة روح مرحة منفتحة على الوجود، رغم صنوف العذاب و ضراوة التجربة وحالات الفقدان والفقدان المضاعف: البيت و الوطن و الحبيبة و الأصدقاء. وجدت صوتا يحتفي بالحياة بكل عنفوانها، و بالشعر كمصدر إشراق و أمل. وجدت كائنا يرهن جدوى كتابة الشعر بإشاعة "الغبطة" و "بهجة الاكتشاف". وجدت إنسانا يشهر شعره سلاحا لنصرة الإنسان وبلسما لآلامه.

قلما نقرأ لشاعر عربي يتكلم عن الفرح و الغبطة و المسرة، و هو يتحدث عن الشعر، و كأن الشعر أضحى مستودعا للأحزان المستديمة فقط. أما أنت، فتجعل من اللحظة الشعرية مبعثا لدهشة الإنسان و غبطته و تفاؤل إرادته. ألست القائل: "حتى في أحزان الشعر ثمة فرح مقيم". ما سر هذا الابتهاج بالحياة؟ هل هو فعلا ذلك "الموقف الفلسفي" الذي أشرت ذات مرة إلى أنه "يختفي غائرا في أبسط مشاهد الشعر و التقاطاته"؟
- لقد تلقيت في الحياة من المحبة والأخوة ما يجعل أحزانها صغيرة وكوارثها عابرة، ولعلّ في وهج الأخوة والمحبة ما يقيني بردها المقيم، وما يعمق حزني بفقدان من أحببت، مثلما يعمّق فرحي بحضور من أحببت. أليس في كلماتك هذه من الأخوة والمحبة ما يجعلني ممتنّاً، ولا رابطة بيننا سوى رابطة الأخوة والشعر؟
 

 

¤  عبـد الكريـم كاصـد الشاعر.. خارج النص (الطريـق إلى عـدن)
¤  عبـد الكريـم كاصـد الشاعر.. خارج النص (المقدمة والفصل الاول)


 

 

 

free web counter