آداب

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

السبت 3/12/ 2010

 

 قصة قصيرة

ساعة زمنية

ميسون يوسف
maysoon_imam@yahoo.com

حملتُ طلب الأجازة الزمنية وهممتُ بالخروج .. إن حرارة الغرفة لم تعد تطاق بعد أن أنقطع التيار الكهربائي ممّا جعل قدرتي على التفكير تتعطّل تماماً , وبعد ان فشلتُ في الحصول على نسمة هواء عليل بين شقوق الجدار وأضابير الزمن العتيق. خلّفتُ طاولة مكتبي الرمادية ورائي حزينة يلفّها ضجر قاسي .. حملتُ حقيبتي بعد أن تشبّث بي المقعد الدوّار الذي أراد مشاكستي بدورتين كادت تفقدني صوابي حتى شعرتُ بمسنديه تضيقان علي حد الأختناق .. اخيراً تعلّقت حقيبتي على كتفي بعد أن دسستُ مفاتيح الأدراج في عتمتها .

وجدتُ نفسي وسط زحام المارة وتحت رحمة دبابيس شمس الظهيرة وبين صيحات الباعة المتجولين الذين إفترشوا الأرصفة الظليلة وهم يعلنون عن بضاعتهم الرديئة , إنزويت خلفهم علّ الظل يسترني حيث كان شريطه الممتد على الحافة الأخيرة من الرصيف يمثل إختزال هائل لكل هذه الصروح الشاخصة المطلّة على الشارع العام .. كم وددتُ لو ان واجهاتها زيّنت بالشبابيك الخشبية بدلاً من اعمدة الألمنيوم التي حلّت محل إنوثة شناشيل أزقتنا الباردة , وكم تمنّيت لو أن جدرانها العالية أكتست ذلك الطابوق الأصفر الذي يوحي بالحميمية بدلاً من الأسمنت الذي لفّ كل هذه الصروح برداءه البليد ..

تنبّهتُ على صوتٍ أيقظ كلَّ ظمأي تلك الساعة ( تعال إشرب شربت زبيب .. بارد وطيّب ) .. كانت الحاوية الزجاجية الكبيرة قد إكتست بعرق القطع الثلجية التي تتراقص داخلها .. لم يكون اللون يوحي على لون الزبيب الذي إعتدتُ أن أراه منذ زمن حينما كنت أمرُّ بعد إنتهاء ساعات العمل وأرى بشغف كبير حبّات الزبيب الباردة وهي تدور بحركة راقصة داخل الحاوية لتأخذ طريقها الى الأقداح ومن ثم الى أفواه العطاشى من المارّة وكنتُ واحدة منهم .

نظرتٌ الى ساعتي .. آه كم كانت تلسعني عقاربها .. ترى لم اخذتُ ساعة زمنية ؟ هل لكي أكسر زمن رتابة العمل ساعة واحدة .. أم تلبية لدعوة صوت داخلي أن اخرج الى عالم يمور بالحركة التي لا تحكمها قوانين الوظيفة .. أم كان قرار عفوي أتخذته بسبب الحر نتيجة إنقطاع التيار الكهربائي ؟ ... المهم أنا الآن وسط الشارع وبين الناس وعليّ ان أعيد الصفاء الى ذهني وأطرد ذباب الأفكار التي تملأ رأسي بالحسابات والأرقام والدائن والمدين ...

وأنا أهمُّ لأعبر الشارع سمعتُ صوتاً طفولي النبرة تخنقه حشرجة الأعياء .. أستدرتُ نحو الصوت .. كان يرتدي سروالاً أسوداً متسخاً تجمّع عند الوسط بشكل مخروطي وقميصاً متعدّد الألوان وسلسلة رخيصة إلتفّت حول عنقه النحيل .. كان يحملُ مجموعة من علب الدخان .. لعلّها مفارقة مضحكة مبكية .. طفلٌ لا يتجاوز العشر سنوات يبيع للكبار علب التبغ الذي يحذّرُ صانعيه من تناوله ..

إزداد زحام الرصيف عندما إنتصف النهار ورحتُ امرقُ من بين اكتاف السابلة حتى إستوقفني محلّاً لبيع الزهور .. مشهد الماء وهو ينزلُ منساباً على الواجهة الزجاجية الأمامية بعثَ في نفسي إحساساً بالبرودة .. حاولتُ أمعنُ النظربين حركة السيارات والشارع والمارّة الذين تعكسهم واجهة المحل .. فلمحتُ نباتات ظلٍّ تستعرضُ اوراقها بأواني فخارية .. واوراق ملوّنة برّاقة وضعت بأناقة في سلال الخيزران ..زهوراً من قماشٍ منشّى لا تعني شيئاً بالنسبة لي .. شرائط متدلّية تتصدرها لوحة كتب عليها ( مستعدون لتزيين سيارات الزفاف ) وتذكّرت هذه السيارات كم تربك حركة السير بالشارع .. اكثر من مرّة تمنيّتُ لو أحتكم الى رجل المرور وأدعوه الى برمجة لحركة الطريق تجعل مجالاً لمرور السيارات الصاخبة بالزغاريد وأغاني الفرح تارة وأخرى لمرور السيارات المثقلة بالمتعبين والشاردين مع همومهم عبر نوافذ الحافلات ...

الجسر العتيق الذي تعوّدتُ العبور عليه أصبح أمامي فاتحاً ذراعيه ويدعوني بمحبة وكانت المركبات وهي تلوك الأرض تنحدرُ عليه كالسيل كأنها أقفاص من الحديد لا تعرفُ الرحمة إن انحرفت أو أخطأت مسارها .. لم أجد نفسي راغبة في عبوره راجلة فأنحدرت عبر سلالمه الجانبية بإتجاه الضفة .. قوارب متراصفة تنتظر دورها كي تمتلىء بالعابرين , فصعدتُ إحداها حيث لم يطل الوقت حتى إكتمل النصاب بعد أن صعد مجموعة من الطلاّب الجامعيون وكانت بينهم طالبة شغلتها خلاخلها وقد تعلّق طرف قلادتها بالكتب التي تحملها لصق صدرها , وعندما همّت بالصعود أنغرس كعب حذائها بين لوحتين من خشب القارب ممّا أربكها وتعرّق جبينها بحيث سال على مساحيقها وعبث بطلائها .. جلست قبالتي وقد تطايرت بعض خصلات شعرها وفتحت أحد كتبها لكي تداري خجلها وتهرب من فضول عيوننا .. قرأتُ هامشاً على الصفحة الأولى بالقلم الرصاص يقول :

نظرة عميقة في الكتاب
ونظرتان في الحياة
تعطي الأنموذج السليم للروح
( كوتيه )

أنتبهتُ على حركة القارب وهو يرتطم بالضفة الأخرى .. فنزل الجميع الاّ أنا .. لقد قرّرتُ العودة من حيث أتيت ..
سرتُ مسرعة بأتجاه مقر عملي , وحين دخلتُ نظر موظف الأستعلامات الى ساعته وقال :
ـ عدتِ بسرعة .. يبدو إنك لم تبتعدي كثيراً عن هنا ؟
ـ بل أبعد ممّا تتصّور .

فتحتُ باب غرفتي وأسرعتُ الى النافذة المطلّة على الشارع الخلفي وكان التيار الكهربائي لا زال مقطوعاً الاّ أن نسمة باردة لفحت وجهي فأندفعت كي تملأ صدري والمكان برمّته .. سحبتُ الأوراق الموجودة في درج المكتب ثم سمعتُ طرقاً على الباب :
ـ نعم يا عم حسن
ـ هناك مراجعين يا ست .. هل ينتظرون قليلاً ؟
ـ كلاّ .. إدخلهم بسرعة ..

فتح الباب ...
ـ تفضّلوا إخوان ..

وإبتدأت معهم .....
















 

free web counter