نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

فنون

 

 

 

الأربعاء 15/2/ 2006

 

 

المخرج زار بغداد وأوكل الى عبدالكريم كاصد كتابة النص العربي

«حكاية جندي» مسرحية بريطانية عراقية تدين الحرب


لندن - غالية قباني     

بعض الروايات او الاعمال المسرحية تلهم اجيالا من المخرجين طوال عقود، تبعاً لانسانية المفاهيم التي تطرحها بحيث تنطبق على المجتمعات المختلفة في أكثر من زمان ومكان. ومن هذه الاعمال رواية «فاوست» للألماني غوته عن الانسان الذي يبيع نفسه للشيطان، والتي استلهمت «تيمتها» في نسخ فنية عدة.

ولكن يبدو أن تيمة «فاوست» مأخوذة أساساً عن حكاية شعبية روسية استغلها المخرج الروسي الشهير سترافنسكي عام 1918 في مسرحية «حكاية جندي»، اي بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى. فقد طلب من الكاتب السويسري تشارلز فرديناند راموس أن يكتب له نصاً مأخوذًا من الحكاية الروسية، ليعد له بنفسه الموسيقى والاخراج المسرحي. وقد استلهم الاثنان المحيط المفكك من حولهما لأوروبا المنهكة من حرب

دامت اربع سنوات، وقدما قصة جندي عائد من الحرب فيقابله الشيطان ويغريه بأن يبادله كمانه بكتاب يحتوي على حيل الثراء والعيش الرغد. ويصير الكمان الذي لم يكن يفارق الجندي وهو سلوته، رمزاً لروحه في يد الشيطان.
وعندما يتجرد الجندي من الروح في مقابل المكاسب المادية يفقد حبيبته وأمه وكل علاقاته الانسانية. انها حكاية ترمز الى الحروب الخالية من هدف انساني في مقابل مكاسب مادية وعبثية مفتوحة على الخواء الروحي. حروب تمتص من جنودها روحهم الانسانية ولا تقدم لهم في المقابل الا الضياع والخسارة.
قدمت «حكاية جندي» مرات عدة في العالم منذ ذلك الوقت وفي استلهامات مختلفة، باليه، مسرحاً موسيقياً، وأيضاً فيلماً كرتونياً أميركياً عام 1984.
وشهد مسرح «أولد فيك» أخيراً عرضاً في مدينة لندن ومع فرقة بريطانية - عراقية مشتركة أنجزه المخرج البريطاني الشاب أندرو ستيغال، وهو كان قدم المسرحية نفسها العام الماضي مع فرقة بريطانية مختلفة. ثم قرر ان يشرك ممثلين عراقيين في العمل، فزار العراق بحماية عسكرية بريطانية ليلتقي الممثلين ويختار منهم ثلاثاً، هم ضياء الدين، فلاح الفليح، وعلاء رشيد . مع ملاحظة ان الزيارة أتاحت له فرصة ملامسة المشهد العراقي عن قرب الى حد ما. وهو ينوي ان يعرض المسرحية في العراق وبعض عواصم العالم ليفتح من خلالها حواراً مع الجمهور أينما يذهب.
قدم العرض باللغتين العربية والانكليزية في آن واحد، وبتداخل ممتع لم يضيع الفرصة على المتابع البريطاني في أن يفهم ما يقال باللغة الاخرى. انه عمل مكون من ثنائية متساوية شخصياتها، هي الجندي، الشيطان، الراوي. ويبدأ واحدهم الجملة ليكملها الآخر، قولاً او حركة مسرحية. ويتداخل المشهدان كأنهما توأم مقسوم الى اثنين، ويتضح ذلك في تفاصيل صغيرة كأن تتداخل علاقة الشيطان البريطاني في علاقته مع الجنديين، أو العكس. أو أن يبحث أحد الجنديين عن اغراضه في كيس الآخر، او ان يعبر الكمان عن ملكية كليهما له. مع ملاحظة ان جوزيف هو اسم الجندي البريطاني ويوسف هو اسم العراقي. ايضاً يبدو الشيطان الذي قدم أكثر من مرة في شكل جنرال حرب، مرة عراقياً ومرة بريطانياً عبر تبادل القبعات، في عرض بسيط في ديكوراته واكسسوراته.
ونجحت المسرحية في تقديم موسيقى متناغمة بين اللحن الاوركسترالي الذي وضعه في الاساس سترافنسكي، واللحن الذي ألفه الموسيقي العراقي أحمد مختار للجزء العربي والذي أضفى حيوية شرقية على العرض، مع أن المساحة المتاحة للنسخة العربية قليلة قياساً بالموسيقى الاصلية. وأدى الممثلون العراقيون ادوارهم باقتدار، حتى أنهم تغلبوا في كثير من المشاهد على زملائهم البريطانيين في حركة الجسم على خشبة المسرح وفي التعبير بالصوت.
العرض المسرحي «حكاية جندي» عرض ممتع في تجربته الفريدة، ليس فقط لأنه اول تعاون مشترك بين فنانين بريطانيين وعرب، (وعراقيين تحديداً)، بل لأن العرض بتفاصيله الاخراجية، يحمل شيئاً من المتعة للمشاهد وهو يراقب الخشبة المسرحية منقسمة الى نصفين، مقهى عراقي وراوٍ في شكل حكواتي شعبي الى يمين الخشبة، ثم بار انكليزي مع راوٍ بريطاني الى يساره. وتجمع القسمين خلفية ديكور واحدة تمثل خرائب أبنية قد تكون دمرت في قصف جوي او بري!. وقد تمرغ الجنديان كثيراً في التراب الذي كان غباره يعلو مشكلاً ضبابية مشابهة لغبار المعارك في بلاد مدمرة.

تحفظات
اذا نجح المخرج في تقديم متعة بصرية في الفصل الاول من العرض، فإن الفصل الثاني بدا مهلهلاً الى حد ما ومجرد تكملة للوقت المحدد، لا يحمل اي نقلة درامية جديدة في ثناياه. انه جزء تسيطر عليه الموسيقى. وربما هو، في النسخ الاخرى التي قدمت طوال العقود الماضية في العالم، تمت تعبئته بلوحات راقصة معبرة. وعلى رغم متعة الفرجة في عرض «حكاية جندي» للمخرج أندرو ستيغال، يبقى في النفس هذا السؤال: هل تتجانس حال الجنديين العراقي والبريطاني فعلاً في الحرب الاخيرة، او في المشهد العراقي الحالي؟
أعتقد ان المخرج اراد ان يتفادى الخوض في هذه الاشكالية، لحساب المشهد البصري ذات النسختين المتطابقتين، فالتزم بنص راموس وسترافنسكي، مساوياً بين الجنديين كما لو انهما في حاضر متشابه. بينما في الواقع، أي في المشهد العراقي الحالي، يوجد جندي يمثل جيش الاحتلال فقط، أما الجندي العراقي فغيّب عن حرب لم يشارك فيها جيشه، بعدما استغنى عنه صدام حسين اولاً، ثم من قبل قوات الاحتلال لاحقاً.
التزم المخرج أندرو ستيغال اذاً بالنص الاصلي، وطلب من الكاتبة البريطانية ربيكا لينكيوفيتش والشاعر العراقي عبدالكريم كاصد، اعداد نصين شعريين مطابقين لعرض سترافنــــسكي. لكن النسخة العراقية تنطبق في الحقيقة على فترة ســابقة على الحرب يمثلها الجندي البريطاني، انها عن الجندي العراقي الذي اكتوى بنار حربين امتدتا عشر سنوات خلال الثمانينات التي انتهت باحتلال الكويت.
سؤال آخر يتداعي في الذهن عند مشاهدة العرض: أي صفة يمكن ان تطلق عليه: مسرحية موسيقية، مسرحية مغناة، اوبرا؟ لا يبدو ان شكلاً مسرحياً محدداً ينطبق عليه، ولعلّ توقيت عرض المسرحية الاصلية في اعقاب الحرب العالمية الاولى، منحها هذا البعد الذي يتطلب مزجاً ما بين الجدية والترفيه لتجذب جمهوراً متعباً ومرهقاً من قسوة الايام السابقة، بخاصة أن النص اقرب الى الحكايات الشعبية الخيالية وقد حافظ عبرها على مصدره الاصلي، لكن سترافنسكي المخرج المعروف بجديته المسرحية، لم يرده عرضاً فارغاً من مضمون جاد كعادته في عروضه الاخرى، فاشتغل على الحلول البصرية والموسيقى، وكذلك فعل المخرجون اللاحقون.

 

 الحياة - 15 /2/ 2006