|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  23  / 8 / 2025                               موسى فرج                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

كامل والوعي الكامل...

موسى فرج *
(موقع الناس)

في آخر رسالة كتبها الشهيد كامل شياع إلى صديقه حسين كركوش قبل استشهاده بيومين، ونشرها موقع إيلاف الإلكتروني لاحقًا جاء فيها:

"عزيزي أبا نورس
لا أعلم إنْ كنت شجاعًا حين اخترت العودة إلى بغداد قبل خمس سنوات... لا أصدق أنا نفسي مرور كل هذه السنوات، وأنا في هذا المختبر القاسي الذي فرض عليّ مرة أنْ أكون متفائلًا، ومرة أنْ أكون يائسًا، وثالثة قدريًا، ورابعة مازوخيًا، وخامسًا لا أدريًا. لا أعرف أين أنا ولماذا.

منذ شهور عدة اهتديت إلى العبارة القرآنية (نسيت السورة الآن) التي تقول: ألم أقل لك أنك لن تستطيع معي صبرًا. وبالفعل، فالعيش هنا مطلوب مع قدر من الوعي الخافت والروح المختزلة. أتكلم عن نفسي بالطبع، لأنني صرت أدرك أنّ التاريخ، وتاريخ العراق تحديدًا، يستغرق وقتًا طويلًا، وأنّ معنى المفاهيم لا يتحقق إلا بعد نهاية جولات التناقض والصراع".

هذا هو لبّ الكمال في شخصية كامل شياع...!
ففي تلك الحقبة من الزمن كنا نحارب على جبهات عدة، سأوجزها بمقاطع حسيّة أكثر منها وصفية:

- في مقر عملي، وكانت البناية في ساحة الميدان، ويشرف جانب منها على شارع الجمهورية، كانت سيارات البيكاب الخاصة بـ "المجاهدين" يعتلي سنامها رشاش الشنكَا الذي يسميه العراقيون "الشلكا"، ويستخدم عادة لمقاومة الطائرات، لكنهم يستخدمونه في مواجهة الصدور العارية، فلا يحدث فيها ندبًا عند دخوله وفتحة عند خروجه مثل طلقة الكلاشنكوف فقط؛ بل فوهة ينفذ منها الأرنب، طبعًا إلى جانب رشاشات البي كي سي والكلاشنكوف تمرق وبأعداد كبيرة على مدى الدقيقة في شارع الجمهورية، جاء رسولهم وسلّم استعلامات الوزارة منشوراتهم موقعةً من هيئة علماء المسلمين، تتضمن تحذيرًا موجزًا "كل مَن يحضر للدائرة للدوام ابتداءً من غد سيكون مصيره الموت الزؤام، ويكون في الآخرة من الخاسرين جزاءً نكالًا بما اقترفته يداه الآثمة في العمل تحت ظل الاحتلال!"

رنّ الهاتف وعلى الطرف الآخر زميلي من الطابق الثاني كامل نصير كامل الجادرجي يسألني: "إنْ كنت قد قرأت المنشور فأجبته بنعم، قال: راح تداوم باجر؟، قلت: طبعًا، قال وهاي الجزاءً نكالًا...؟ كَلتله أبو رفعت بهاي البناية أنت وأنا أكبر راسين، فإنْ لم نحضر فإنَّ البقية لن يحضروا، ومَن يحضر منهم سيغادر حالًا متأسيًا بقادته الجبناء/ نحن، في اليوم التالي حضرنا وبعدد قليل لا يتجاوز الربع من الموظفين، لإثبات وجود لا أكثر، بدون أنْ نمارس أعمالنا، كنت أتبادل الحديث معه في مكتبه ننتظر صعود "المجاهدين"، ولسنا مخيرين بإحدى الحسنيين، فقد كان المتاح لنا إحداهما فقط ... ضحكت بشكل لافت، قال: ما يضحكك...؟ قلت له: عندما قطعت الممر في طريقي إليك، وجدت القوم مثل خلية نحل، هذا يستغيث بصاحب الزمان، وذاك بالشيخ عبد القادر الكيلاني، وهذا يقرأ دعاء كميل، وذاك ببو حنيفة... فبحثت في جيوبي عمن أستغيث به فلم أجد، ولأنّ تلك اللحظات لا تتحمل الهزل، قال: أشو أنت تضحك ! قلت: مسيطر، جفل من جوابي، وقال: معقولة منسق وياهم ؟ كَلتله هذولا جماعتك مو أبو درع وانسق وياه! ...بس آنا مسيطر لأن إذا صعدوا أصفط جسمي على الحائط وأكَوللهم: هذا المسؤول، آنا السائق مالته، وشكلي وشكلك يدعمان قولي...!

- خرجت بعد انتهاء الدوام وخلفي سيارة الحماية متجهين إلى زيونة حيث البيت المستأجر الذي أسكنه، في نفق التحرير اقتربت من سيارتنا سيارة برازيلي حمرا بيها 4 ملثمين يحملون كلاشنكوف قبل أنْ يصوبوا فوهاتها باتجاهنا، أخفضت رأسي وخابرت مسؤول الحماية في سيارتنا الثانية مستنجدًا، أنْ أسبق السيارة البرازيلي واقطعوا عليه الطريق شاهرين أسلحتكم لمنعهم من الإطلاق علينا... لكنه لم يفعل، صحت على سائقي أفلت ففلت وانتظرنا سيارة حمايتنا بلوفة تمثال السعدون، وعندما وصلوا قلت لمسؤولهم: لماذا لم تفعل...؟ قال: أستاذي مو اسلاحنا ما مرخّص!! قلت: يعني إذا واحد يشهر عليك السلاح وعندك سلاح تحسّب مرخّص لو مو مرخّص...؟ أنت الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، وسحبت السلاح منه.

- وفي عام 2008، غادرت الهيئة قبل الموظفين، ونزلت من السيارة في أحد الأزقة لأذهب مشيًا لسيارات الكيا "نقل جماعي" قاصدًا مدينة الشعب، وفي إشارة المرور عندما توقف السير بالصدفة، كانت السيارة الحكومية الفارهة التي تنقل بعض موظفي الهيئة بجواري ينظرون إلى الكيا وأنا محشور بين الركاب فاستغربوا الموقف، فأشرت لهم بأنْ يشيحوا، وفي صباح اليوم التالي قلت لهم: كنت ذاهبًا لمجلس فاتحة على شهيد في مدينة الشعب.

- وفي موقف آخر، كنت ذاهبًا لزيارة دائرة في حي العدل، وعندما خرجت لركوب السيارة وجدتهم قد وضعوا لافتة تغطي الزجاجة الخلفية عليها صورة علم السعودية والبسملة، قلت: ما هذا...؟ قالوا: لأننا سنذهب إلى حي العدل ومعظمه سنّة.! قلت: ضعوا بدلًا من ذلك روله... قالوا: لماذا؟ قلت لأنّ طريق عودتنا سيكون على منطقة الشعلة، وفيها تلزمنا للسلامة صورة أخرى...

أسوق عينة من مواقف تلك الفترة من بين مواقف عديدة لأقول:
1 . نحن أشياع كامل قد ظُلمنا ليس من قبل الإرهاب والجهل والطائفية والتطرف فحسب، بل من قبل الذين أساءوا الظن بنا حتى كادوا أنْ يخونوننا تحت ذريعة العمل مع المحتل، في حين كنا نعمل في بلدنا ولشعبنا، ولم نجير مبادئنا وموقفنا لأي جهة غير ذلك.

2 . لا كامل ولا نحن أشياع كامل كان في رؤوسنا هاجسًا إلا العراق وشعب العراق و"رفعة الشأن العام"، لكن البعض كان يوصمنا بالسعي لجني ثمار متخيلة حتى غرقت الثمار والشجرة، وإلا أنه إذا كان ذلك بافتراض صحته علينا، فكامل بعودته للوطن لم يكن من صيادي الفرص ليملأ سلته، فقد عاف الثمار خلفه وجاء ليمارس دوره.

3 . لكننا قد كنا ننتظر جودو الذي يغيّر الكفه لصالح الشعب والوطن ويفرضوا أنفسهم كرقم صعب بين بحارة السفينة لا يمكن تجاوزه، ولو حصل ذلك لما جنحت وما زالت باتجاه الصخور والخراب.

4 . تجربة كامل وضعته كما نحن "وجهًا لوجه أمام موت جارف، وشيك وعبثي"، فكامل ونحن لسنا مغامرون ولا هيابون، ولكن حقًا ترعبنا كما يقول كامل عن نفسه: "صرت للمرة الأولى أنام وبجانبي مسدس جاهز للإطلاق، الأسلوب الشنيع لتعذيب ذلك الرفيق والتمثيل الوحشي بجسده، تركني لليالٍ عديدة عرضة لكوابيس مرعبة". نعم أنا شخصيًا قلتها لأكثر من مرة إنَّ أشد ما يرعبني هو الخطف؛ لأنهم سيتجاوزون على كرامتي...

كامل شياع قام بما يتوجب عليه القيام به بوعي كامل، وهذا سر تفوقه على غيره ...
ونحن أشياع كامل رغم أننا لا نعرف تسلسل الآيات في السور، لكننا نعرفها ونرددها:
ألم أقل لك أنك لن تستطيع معي صبرًا...!


* رئيس هيئة النزاهة في العراق (سابقاً).

 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter