| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الجمعة 29 / 8 / 2025 تحسين المنذري كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
كامل شياع .... العائد من منفى الى منفى
تحسين المنذري
(موقع الناس)تلك هي بإختصار حياة المبدع التنويري كامل شياع... فبعد الصراع القاسي مع الذات التي تركت جذورها في وطن غدا منفى... وشروط لم يستطع معها أن يتنازل عما إعتنق من فكر، كان قراره الصعب رفض إملاءات القائد الضرورة والرحيل نحو المجهول ... فبعد إقامات متعددة بدأت من الجزائر مرورا بإيطاليا وبلجيكا وتنقلات ما بين فرنسا وإنكلترا والمانيا وغيرها من دول أوربا ومدنها المفعمة بروح التجديد والتحدي، يقتحمها هذا الفتى الهادئ الطباع لكنه الصلب الارادة لينفجر إبداعا رغما عن صخبها . فكما يصف (أدوارد سعيد) "في مدن المنفى تغيرات ثقافية هائلة، جعلت المغتربين والمهاجرين والمقتلعين من أوطانهم يعملون في محيط جديد وجعلت الحزن والقلق والابداع واحدة من أهم تجاربهم" وكأنه يصف حال كامل شياع، ففي غمرة المعاناة من هموم البطالة والبحث عن عمل، أي عمل، يسد به رمقه ويساعده على المسير في مشروعه الثقافي، من تعلم لغات الى إقتحام أفاق معرفية جديدة، كان يعرض نفسه على هذا المطعم أو ذاك كي يعمل بأي شكل وجِد، إلا إنه يصف " أكثر أشكال الانتظار تغذيبا، أن تنتظر، ما تثمر عنه محاولات أخرين لمساعدتي في إيجاد عمل"!!. وهو في خضم كل تلك المعاناة لم ينسَ يوما العراق، يتابع ما ينشر عن أحوال الوطن المحكوم بفاشية البعث ، فيقرأ في مجلة الايكونومست عن " محو قضاء الدجيل من الخارطة" ويحزن في حيرة حين يتساءل بإحدى رسائله لأخيه فيصل " أيكفي الاسف لسماع خبر إستشهاد هذا الرجل أو ذاك الصديق؟ .. يبدو إن الحزن صارت أطيافه بعدد خيوط الشمس، إنه مصدر كالضوء، لكنه قاتم" وكأنه يجسد بحق ما إنتبه إليه الدكتور جابر عصفور عن العراقيين في المنافي فيقول" المغترب العراقي معلق بوطنه الذي تنطوي عليه أعماقه أينما حل أو إرتحل"
إحباطات المنافي هي تلك الصعاب التي يعاني منها المنفي والفشل في أحيانٍ أخرى فعن نفسه يقول كامل "لقد حاولت وحالفني الفشل هذا الذي يقترن بكل ما أحاوله على المستوى الجدي" ومع هذا لم ينس الامل فهو يقرن وجود الامل بالسعادة حيث يكتب" ربما تكون أمي أكثر سعادة مني أو هي كذلك لأنها تنتظر إبنيها اللذين سيأتيان اليها يوما" ورغم تأشيره لحاله المؤلم هذا إلا إنه يبقي على كوّة أمل تنفذ منها السعادة، لذلك بقي مصرا وبجدية لم تنقطع كي ينال شيئا من تلك السعادة فيطرق أبواب الجامعات ويتنقل من هنا لهناك حتى تم قبوله في إحدى جامعات بلجيكا ومنها حاز على شهادة ماجستير في الفلسفة بتقدير إمتياز!! وصار أيضا ينشر مقالاتٍ في صحف ومجلات مهمة مثل جريدة الحياة اللندنية ومجلة الوسط اللندنية أيضا ومجلة الثقافة الجديدة الشهرية وغيرها من الصحف ووسائل الاعلام المقروءة والمسموعة، وقد جسد بكل ذاك مفهوم المثقف المتنوع الاهتمامات ، فكتب عن معارض فنية، وتابع مهرجانات سينمائية وكتب عن أهم ما عرض فيها، ويتابع نتاجات أصدقائه ومعارفه المبدعين ويراسل كل من جمعته به ظروف المنفى والهموم الثقافية والمعرفية المشتركة . إلا إن كامل شياع لم يجد في المنفى الاوربي مستقرا فكان دائم القلق والترقب، فمثلا بعد قرابة عشرين عاما في المنفى وبعد أن قرأ ما يعكر مزاجه في ليلة ما يكتب برسالة لشقيقه فيصل " لا أعلم كيف أبدأ، بل هل سيتاح لي قول شيئ يجعلني أصحو غدا بنَفَسٍ جديد، بشيئ من السعادة، ناسيا غربتي، وحراجة بعدي وخوفي من الناس ولا ألفتي أحيانا" نعم هكذا كان حاله لذلك حينما تغيرت الظروف السياسية في العراق قرر خوض التحدي آملا أن تنتهي حياة المنافي رغم تركه ولده (إلياس) بعيدا عنه وحنينه اليه بكثير من المواقف والمشاهد التي كان يتمنى لو كان ولده معه فيها ليستعيض عن ذلك بالكتابة الى (إلياس) ومحاولة إشراكه بكل ما إنتابته من مشاعر، وهنا كان أيضا معلقا بين منفى ووطن صار أيضا منفى فيصفه "الوطن محطة في حياة الانسان تتفرع منها جميع المحطات الاخرى التي قد تؤدي اليها أو لا تؤدي" وهكذا يتحول الوطن الى محطة حالها حال المحطات الاخرى لا فرق فكلها منافي .
لكن أخطر ما وصف كامل شياع حياته في بغداد بعد عامين من عودته اليها عندما كتب" الموت في مدينة كبغداد يسعى الى الناس مع كل خطوة يخطونها، فيما تتواصل الحياة مذعورة منه أحيانا، ولا مبالية إزاءه في أغلب الاحيان" فهل تنبأ بموته؟ وهل تحدى موته وكان غير مباليا؟ ربما ونعم.
وبدم بارد في ظهيرة يومٍ من آب اللهاب في بغداد تتقدم زمرة مجرمة لتنهي حياة مثقفِ كبير وتوقف مشروعا تنويري لن يتكرر مثيلا له بسهولة، وليدفع كامل شياع ثمن تحديه وإعتناقه الفكر التجديدي في وسط غابة من التخلف والعسف تعج بأزلام مجرمين متوحشين يجيدون إختيار ضحاياهم ، وهذا ما كان مع الاسف.