الصفحة الثقافية
الأحد 17/8/ 2008
تداعـيات السنين في شعر الجواهريمحمد النهر
المتتبع لحياة وشعر الجواهري الكبير من حيث الزمان والظروف التي عاشها يجد إن تقييمه لسنين عمره تختلف باختلاف الزمان والظروف ومكان معيشته ، خاصة وان حياته امتدت لحوالي قرن تقريبا مع ما شهد هذا القرن من أحداث وتحولات سواء التي مر بها الشاعر أو التي مرت على العراق والدول العربية والعالم ، وكذلك الأماكن التي عاش بها الجواهري واختلافها من ناحية البيئة والعلاقات المحيطة والمستوى الاجتماعي والثقافي والتقاليد . ولهذا نجد تنوع الصور والجمالية والتناقض في شعر الجواهري وهو يتناول هذه المواضيع .
ومن الصور الرائعة التي رسمها الجواهري لنظرته لسنين عمره هي في قصيدته الشهيرة (أم عوف) عام 1955 فقد نظمها الشاعر في ظروف نفسية مريحة وبنظرة فلسفية تأملية منسجمة مع الأبعاد اللامتناهية في الجزيرة التي تسكنها (أم عوف) في خيمتها ، وبعيدا عن توترات المدينة وصراعاتها ومعاركها الأدبية والسياسية :
يا (أمَّ عوف ٍ) عجيباتٌ ليالينــا يُدنين أهواءَنا القصوى ويُقصينا
في كل يوم ٍ بلا وعي ٍولا سببِ يُنـزلنَ ناساً على حكم ٍ و يُعلينــا
إلى أن يقول :
خمسونَ زُمَّت مليئات حقائبُـها من التجاريبِ بعناهـا بعشرينــــــا
وقد كرر الجواهري هذه الصورة في ظروف مشابهة عام 1961 في قصيدته الرائعة (لبنان ياخمري وطيبي) فبعد الظروف القاسية التي أحاطت به في العراق والتي وصلت إلى حد تهديد حياته تسنح له الفرصة للسفر إلى عشقه الدائم لبنان التي تغنى بها بأجمل و ارق قصائده والتي منحته في كل زيارة فسحة من الراحة والمتعة والإحساس بالشباب الدائم :
" لبنانُ " ياخمري وطيبي هلا ّ لممتِ حُطامَ كوبي
هلا ّ رَددتِ لسُـــــــهدها عيني وقلبي للوجيــــــب
هلا ّعطفتِ لي الصِّبـــــا نشــوانَ يرفلُ بالذنـــوب
نزقُ الشــــــبابِ عبـــدته وبَرِئتُ من حلم المشــيب
* * *
يا من يُقايضني ربيــــــع العُمرِ ذا الَمْرج ِ العشـيب
بالعبقريَّـــــــــة كلهـــــــا بخُرافة الذهـــن الخصيبِ
بعصارة الســــــــتين تر زحُ بالأديب وبالأريـــــب
شيطان " غوته " يا ربيـ ب الغدرِ والدم ِ والحروب
ومُقايضَ السـبعينَ بالــ ـعشــرينَ عن ثمن رهيـــبِ
لو جئتَني لـوجــدتــنــي َمحضَ السـميع ِ المسـتجيب
وتتغير هذه النظرة الشبابية والإحساس الدائم بالشباب إلى نظرة تحمل التشاؤم وضيق الصدر والإحساس بثقل الأيام والليالي عندما يشعر بالغربة والوحدة وهو في بداية غربته وبعيدا عن عائلته عام 1962 وهذا ما تنطق به قصيدته " يا غريب الدار " :
من لِــستيـنَ انطوَت مثـ ــل دم ِ العبد جُبـارا
سـُوقطت رجـماً كما يـر مي الملبّون الجمارا
يا ابنَ " ستينَ " يعدُّ الـ ـعمرَ للروح ِ إطـارا
غـمـرة ٌ خُضـهـا كـمـا خُـضــتَ ابـن " عشــــريــنَ " غِـمـارا
وهناك نظرة ثالثة جسدها الجواهري لبعض ظروف حياته ففي ( الشيخ والغابة ) عام 1959 نجد الآهات والتحسر على ما فات من أيام الشباب :
آهِ . . لو يستطيعُ للأرقام ِ دَفعا !
آه . . لو كان . .
لرَيعان ِ الصبا يسطيعُ رِجعا !
آه ِ يا شيخ ! . .
وكم تحسَبُ أن سوف تعيــش
آه . . لو مُـدَّ ت من الغيب . .
يَـدٌ خلف الحجابِ
حاذفِ النصفِ من الخمسين . .
من عُمرٍ كذوبٍ
كالسَرابِ
آهِ يا شيخ ! . .
من يدنيك من عَهدِ الشبابِ !
أغلقت من دونه سودُ الليالي . .
ألفَ باب !
غير إن آهاته في براغ غير آهاته في بغداد برغم من تقدمه في العمر 14 عاماً فهنا يعيش ربيع حياته الحقيقي لذلك لا يتأسف لمرور الأيام والسنين فقد عاشها كما يشتهي وعكست ذلك قصيدته (آهات) التي نظمها في براغ 1973 :
لا تلُم امسَـك فـيما صَنَعــا أمس ِ قد فاتَ ولن يُستَرجَعـا
أمس قد ماتَ .. ولن يبعثه حملُك الهمَّ له .. والهَلـَعــــا
واطَّرِحْه واستَرِحْ من ثِقْلِهِ لا تُضع أمْسَـك والـيـومَ معـا
* * * *
حَدِّثي ما شـِئتِ عن أُبـدوعـةٍ ولـقـد يـأتي الزمـانُ الـبِـدَعــا
عن فتىً أخصَـبَ في شَـتـْوته لا عـنـاً فـيها الربيـع البَـلْـقـَعــا
عاشَ في العشرينَ شيخاً وَرَعى بـعـد سِـتـّـينَ شـَبـابـاً مُمـرِعــا ً
ولم تفت من نظرة الجواهري تعاقب الأجيال والتأثيرات المتبادلة لكل جيل على الآخر غير انه وهو يجسد هذه التأثيرات ويبرز مفعولها الايجابي أو السلبي فانه يضع نفسه دائما في صف الشباب . فهذا هو يغني للطلبة والشباب في مؤتمرهم في بغداد 1959 في قصيدته " أزف الموعد " :
والـغـــدُ الحــلوُ بنوه أنتم فإذا كــان لكم صُلْـب فنحــن
فخرُنـا أنـّـا كشــفناه لــكمْ واكتشـــافُ الغدِ للأجـيال فـنّ
يا شــبابَ الـغــدِ إنا فتـيةٌ مثلُــكم فرَّقنا في العُــمر ســنّ
ليس بِدعاً أنْ تجولوا مثلما جــالَ في مِضمارهِ مُـهرٌ أرنّ
البــديعُ البـدعُ أن يلحَقَـكُـمْ في مضامير الصِبا عَوْدٌ مُسنّ
وهناك مفهوم آخ للزمن عند الجواهري وهو (الدهر) لا عطائه أكثر قوة وجبروت وتأثير على حياة الجواهري فيقول في (المحرقة) 1931 :
مشى الدهرُ نحوي مسـتثيراً خطوبَـه كأني بعينِ الدهر قيصرُ أو كسرى
وقد كانَ يكفي واحــدٌ من صروفِــــه لقـد أسـرفتْ إذ أقبـلتْ زُمراً تترى
فما انفكَّ حتّى استرجعَ الـدهرُ حُــلوَه وحتى أرانـي أننـي لــم أذ ُق مــرّا
فإن ْ يُشــمِتِ الأقوام أخــذي فلم أكـن بـأوَّلِ مـأخوذٍ على غِــرَّةٍ غــــدرا
وكنتُ متى أغضبْ على الدَّهر أرتجلْ مُحــرَّقةَ الأبيــــاتِ قـاذفـةً جَمـــرا
ويبقى للزمن وتقدم العمر سطوته وهو ما لم ينكره الجواهري في قصيدته (دمشق يا جبهة المجد) عام 1978 :
" دِمشقُ " عِشـُتكِ رَيعاناً وخافِقَةً ولُمَة ً والعُيُونَ السُّـودَ، والأرَقـــا
وَهَا، أنا ويَدي جـِلـْدٌ، وسالِـفـَـتي ثـَلْـجٌ وَوجهـِيَ عَظْمُ كادَ أو عُرِقـا
إلا أن روح التمرد التي تلازم روح الشباب عادة رافقت الجواهري طوال حياته وهي تأبى أن تستكين حتى للزمن .
ويا من تبناه " التمرُّدُ " يافعاً وكهلا ً، ومن ناغى التمرد أشيبا
ولذا فهو يخاطب نفسه ويشد من أزرها في قصيدة " فتيان الخليج " عام 1979 ويبقيها على نهجها لأخر أيام حياته.
أعيذكُ أن يعاصيك القصيدُ وان ينبو على فمـك النشـيدُ
وأن تعلو لســانك تمتـمـاتٌ وان يتفرط العقــد الفريــــد
أعيـــذك أن تتــوه بكـل واد وأنت لكلّ ســــامعةٍ بريــد
فكن كالـعهد منتفضاً شـباباً و جَــوِّد أيـها أليفـن المجيـد
فقـد آلى وريــدك أن يغني بحب الناس ما بقيَ الوريـد