الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأربعاء 17/10/ 2007



ملف خاص بالذكرى العشرين لرحيل المناضل جمعة كنجي
(1)


جمعة كنجي
 

  • مواليد 1933 الموصل ، بعشيقة/بحزاني

  • انهى الدراسة الاعدادية – القسم الادبي – سنة 1953

  • خريج الدورة التربوية سنة 1954، عين معلما ً في مدارس سنجار والشيخان والموصل .

  • التحق بصفوف الانصار عام 1963 ، بعد فصله من التعليم .

  • بدأ الكتابة في الصحافة العراقية عام 1952، حيث نشر العديد من المقالات في جريدة (فتى الموصل) وبعدها في أتحاد الشعب وطريق الشعب والفكر الجديد وشمس كردستان .

  • كان له اهتمام بالتراث ونشر العديد من المواضيع في مجلة التراث الشعبي .

  • كتب القصة القصيرة ، وله عدة مجاميع غير منشورة .

  • نشر قصص للأطفال من خلال دار ثقافة الطفل عام 1985.

  • نشرت له مجموعة قصصية في سوريا بعنوان ذلك المسافر عام 1966 عن دار بترا للطباعة والنشر.

  • له مخطوطة غير منشورة عن الديانة الأيزيدية .

  • اعتقل بسبب نشاطه السياسي لأكثر من مرة في عهود مختلفة .وتعرضت عائلته للأبادة بعد اعتقالها في آب 1988، ومن ضمنها زوجته وأبناؤه الثلاثة ووالدته وشقيقته واولاد شقيقه (ابو عمشه) ووالدتهم .
    ولحد اليوم لم يعثر عليهم رغم سقوط النظام وإكتشاف المئات من القبور الجماعية .

  • منع من النشر وتعرض لأستدعاءات متكررة من قبل جهاز الأمن ، تعرض إلى سكته قلبية قاتلة يوم 18/10/1986 بعد خروجه من مبنى مديرية أمن نينوى مباشرة .

 

البستان الشيوعي في بحزاني يزهر ويثمر رغم أنفال صدام وهمجيته

صباح صادق

من أين نبدأ يابحزاني؟ من أين نبدأ أيتها القصبة الصغيرة بمساحتك, الكبيرة بأبنائك, الكبيرة بتضحياتهم السخية الجسيمة, البهية الجميلة في فكرهم وآمالهم, ففيها كنت تنضحين بالخير والسعادة وليس كما أرادك الفاشي صدام بيتاً للموت والحزن,
فعمل على ابادة كل نبتة خير فيكِ وابادة زارعيها وهذا حال البغاة دائماً فسجلهم حافل ليس بمعاداة الحياة فقط بل بمعاداة كل الحالمين بها مثمرة غنية بهيجة. وما فعله في بحزاني هو حلقة من حلقات المسلسل الإجرامي الكبير الذي نفذه بوحشية في كل العراق واذا كانت الكلمات تقف عاجزة عن التعبير عند الأهوال الكبيرة فإنها لابد إن تحكي لتقطر ألماً وحزناً بليغين ولتمس عمقهما الموغل في الذات, وألا ماذا عن أحدى وثلاثين روحاً إنسانية بريئة أزهقها صدام بمروق نادر على القيم الدينية والقوانين الوضعية والسلوك الاجتماعي السليم, واحد وثلاثون جسداً عراقياً طاهراً دفنهم صدام وهم أحياء ومنهم أطفال صغار- بنات رضع- كما سنرى ولنتصورهن ملتصقات بأحضان أمهاتهن الشهيدات وتلال من التراب تنهال عليهن من (الشفلات) لتغرقهن فيه جميعاً.
ومن العوائل التي عانت بمرارة من مآسي انفال صدام عائلة المرحوم (حجي كنجي) التي أعطت (ثلاثة عشر) شهيداً فكانت ( ونسه بشار رشو-1938) زوجة المناضل والمربي (جمعة حجي كنجي) (أبو باسل) الذي توفي بعد أيام قلائل من إطلاق سراحه من الأمن عام 1986 وأولادهما (خيري1966) و(شامل1968) و(أميل-1969) وزوجة أخيه الرفيق (حسين حجي كنجي) (أبو عمشة)(غالية حجي الياس-1953) والتي كانت حاملاً في الشهر التاسع وولدت ابنتها عاصفة في المعتقل وأولادها الأطفال الستة( عاصفة التي استشهدت وعمرها لايتجاوز الأربعين يوماً وإخوانها الخمسة جمعة-1987 وعاصف-1978 ولينا-1976 وبسيم1974ومناضل-1973 ثم أم الرفيقين جمعة وحسين(غزالي علي سفو1917) وأختهما (بكي حجي كنجي- 1946)وكان (أبو باسل) بعد انقلاب تشيلي الأسود عام 1973 يقول: لنحترس من بينو شيت آخر في العراق يدمي مسارنا وإذا بصدام نفسه يتحول إلى بينوشيت للعراق ليقتله ويقتل أمه وزوجته وأولاده وأخته وزوجة أخيه وأولاده وأبناء قريته
ثم نأتي إلى (آسيا عثمان خدر- 1956) زوجة الرفيق(صبحي خدر حجو) أبو سربست وأولادهما الأطفال (رفين ذات الـ 45 يوما من عمرها وسندس 1978) و(سربست1971) و(نشمة خدر عبدي-1933) وهي والدة الرفيق (خليل جمعة حجو) وزوجته ( ماشو درويش جلو- 1963) وأبنهما (كاوار في الثالثة من عمره-1985) ثم (خديده طيبان عمر -1941) وأبنه(طيبان-1968)وهما من بعشيقة توأم بحزاني ثم (دخيل سلو خدر -1943) وزوجته(تفاحة خدر جمعة-1947) وأبنتهما (ميديا-في السنة الأولى من عمرها) ثم (حسين خرتو-1956)وزوجته (ليلى نون يرو-1963) ثم (حسين علي جمعة-1963) و(حسين خلف حسين-1961) ,(تحسين عيسى حمو-1956) (ومنيف غانم خضر-1967). هؤلاء هم الشيوعيون والشيوعيات وأمهاتهم وأولادهم وبناتهم وأخواتهم من بحزاني وبعشيقه الذين استشهدوا في أبشع عملية غدر لا إنسانية والتي تظهر أن شرائع وقوانين العالم الطبيعية كانت تبطل وتفرغ من محتواها تماماً عندما كانت تصل الى عراق (صدام الضرورة).
كانت هذه العوائل قد عادت الى دهوك بعد قرار العفو الذي أصدره صدام في 6/9/1988 ولكن في 8/9/1988 القي القبض عليهم وأودعوا في قلعة (بروشكي) وبعد فترة نقلوا الى قلعةٍ أخرى في (طوز خورماتو) وكانت هناك معسكرات يشرف عليها المجرم (علي حسن المجيد) وبقوا في القلعة (25) يوماً ثم أختفى أثرهم بعض الوقت,
الى ان ظهرت الحقيقة التي تشير الى تصفيتهم مع الاف العوائل الكردستانية ودفنهم أحياءً.


من أعماله :

 معركة أخرى خاسرة

ساقلع عن التدخين..
ألا تصدقونني؟ انني جاد في هذه المرة، ولن ادخن أي سيكارة اعتبارا من صباح غد..اي يوم يصادف غدا؟ حسن. اذن ستكون ساعة الصفر صباح الاحد.وبعدها ساحطم خصمي العنيد الذي ظل يصارعني طيلة ربع قرن من الزمان.

نحن الان في يوم السبت. الوقت صباحا. وحتى تحين ساعة الصفر العظيمة ساصفي بعض الحسابات القديمة مع عدوي الغادر. اعترف لكم باني خضت ضده معارك عديدة كان الفشل نصيبي في جميعها، لكني موقن اشد اليقين بأني ساحقق النصر في المعركة المقبلة. ومنذ الان ساتهيأ للمعركة، معتمدا على ستراتيج جديد لم اتبعه في أية معركة سابقة. لقد اجريت تحليلا لاخطائي التي جرت علي الفشل فوضح لي اني كنت ابتدأ بداية خاطئة، والبداية الخاطئة تؤدي إلى نتائج خاطئة، والعكس صحيح. والعاقل من استفاد من اخطائه. متى دخنت السيكارةألاولى؟ الحقيقة اني لا اتذكر ذلك بالضبط،وكل ما اتذكره اني دخنت لاول مرة وانا طفل ساذج. وماذا كانت الدوافع ؟ لاادري بالضبط. ربما كانت محاولة مني لتقليد الكبار بدافع من اقران السوء.. وعلى أي حال فقد ابتدأت التجربة في السر خوفا من بطش ابي. ثم زين لي جموح المراهقة-بعد اعوام- أن اظهر امام الملا وبين شفتي سيكارة انفث دخانها برضا وسرور متبخترا كالطاؤوس، متنقلا هنا وهناك في زهو وكبرياء. ضبطني ابي؟ وانتم تعرفون ماحدث،زادني العقاب اصرارا على مواصلة التجربة، لماذا يمنعني ابي من التدخين؟ كل الناس يدخنون،المساءلة ضرورة من ضرورات الحياة مثل الاكل والشرب والدراسة، وابي ايضا ربما يكون جدي منعه عبثا عن التدخين، لكنه يدخن اليوم رغم نصائح جدي له..اه..لو يعلم ابي كم اني مغرم بالتدخين، فالناس ينظرون إلي نظراتهم إلى رجل عندما يرون السيكارة في فمي، والتدخين يساعدني على تركيز افكاري وقت الدراسة... التدخين وسيلة ناجحة بين الاغراب. وواسطة للتغازل مع الاحباب... فلن يلمني ابي؟ولم يمنعني؟ إن لم ادخن في صغري فسوف ادخن حتما في كبري، فلم يلمني ويمنعني ابي ؟ لم؟.
استمرت مطاردة ابي لي اعواما عديدة ،ثم يأس، واذن لي أن ادخن علنا متى اشاء.
جرفني تيار الحياة، ووجدتني اصارع الامواج الصاخبة، وبدات آرائي تتغير وتتبلور. شرعت انظر للامور نظرة واقعية، نظرة رجل حنكته تجارب مرة قاسية، عندئذ فقط ادركت أن ابي كان على صواب. وبدأ الالم يحز في نفسي... اليس من العار أن يستمر الانسان على الخطا؟ وما قيمة السيكارة ؟ ولماذا لا يمكن الاستغناء عنها؟ إن الذي لايقنع نوازع السوء الصغيرة في نفسه لايمكن أن يحقق الامال العظيمة.. بهذه المعنوية شرعت افكر بالكف عن التدخين لاول مرة، باعتبار التدخين رذيلة اجتماعية... وكنت يومئذ صارما في انتقاد الذات، حريصا على تنفيذ اية فكرة تخطر على بالي بدقة متاهية.
وياللاسف... فشلت المحاولة الاولى بعد تنفيذها بوقت قصير، وشرعت ادخن بنهم اكبر من السابق، وعدت اناقش نفسي مرة اخرى: هل قطع التدخين صعب إلى هذا الحد؟ لا..مطلقا. انها مسالة ارادة لا غير، وانا لست ضعيف الارادة في ذلك الشان، ساحاول وفشل المحاولة لن يثنيني عن عزمي، ساعيدها مرة اخرى.
تذكرت قصة القائد المغلوب والنملة.تهيات لجولة ثانية وفشلت
فشلت في جولة اخرى واخرى واخرى، حتى لم يعد بامكاني أن اتذكر عدد مرات فشلي، واستمرأت لذة الفشل، وايقنت أن في الفشل لذة لاتقل عن لذة النجاح ابدا.
ومرت اعوام...
وفي كل عام كنت اظن أن المعجزة ستتحقق، واني لا بد من أن احطم الوحش المجنون الذي استعبدني طويلا. قررت أن اخوض غمار معركة اخرى،مستفيدا من الخبرة الاخرين، ومستعينا بتجاربي الشخصية.
ناقشت نفسي من جديد، لابد من عمل حاسم فقد بدات تظهر اعراض جانبية كما يقول الاطباء، فالتدخين يستنزف جزءاً غير يسير من ميزانيتي، وانا اسعل بشكل مقرف كانني شيخ في السبعين من عمره، ماذا قال لي الطبيب؟التهاب قصبات؟اه..عزائي انه التهاب بسيط لاضرر منه..ولثتي ملتهبة ايضا، وقد دب التسوس في اسناني الصفراء، لكم اصبحت مهملا...يبدو أن الدخان صار يبلد ذهني بدلا من أن يشحذه، من اجل والا كيف ارمي اعقاب السيكاير في اركان المنزل بدلا من أن اطفائها في المنفضة التي بجانبي؟ لقد احرقت ذات مرة بدلة جديدة اول ما لبستها. وهذه اصابعي، صفراء لحد القذارة.. والانكى من كل شي أن ابني الصغير (خليل) بدا يسرق مني السكاير وهو بعد في السادسة من عمره. لقد ضبطته يدخن.. وغضبت وارتفعت يدي في الهواء لتنال على وجه في صفعة قوية، لكني عدلت اخيرا،فان العقاب لايفيد، ينبغي أن اقطع علية الطريق، الا ادع في أي سيكارة في تناول يده، ولكن كيف يتسنى ذلك؟ينبغي أن اقلع انا عن التدخين فلا تقع أية سيكارة في متناول صغير.
...فليتحطم الصنم الذي عبدته طويلا.ولتبدا معركة جديدة. ولنر لمن يكون النصر.
شرعت اهيء كل مستلزمات المعركة المقبلة،محاولا عدم الوقوع في أي خطا من الاخطاء السابقة. اخبرت بعض الاصدقاء بعزمي، فابتسموا ساخرين، واخبرت زوجتي في الموضوع، وطلبت منها أن تشتري مقدما كل حاجيات الغد، لانه قد يفرض منع التجوال،ففغرت فمها دهشة، وعندئذ أو ضحت لها:
- لن يحدث أي انقلاب يا عزيزتي.
وبلباقة شرحت لها مشروعي، وهو البقاء في المنزل يوما كاملا، وعدم السماح لاي شخص بالدخول اليه ايضا، فتبسمت ساخرة، ثم اردفت تقول:
-لابأس.. لعلك تنجح في احدى محاولاتك.
واوضحت لها بالتفصيل ادق الامور في معركتي المقبلة،فوعدتني بانها ستبذل من جانبها اقصى الجهود في سبيل تحقيق امنيتي. وامضينا ساعة نتناقش. ثم حل المساء، فشرعت ادخن سيكارة في اثر سيكارة حتى انتصف الليل... عندئذ سحقت جميع ما تبقى لدي من سيكاير، واليقيتها إلى الزقاق من النافذة، موذنا بافتتاح المعركة. وبعد أن تناولت فطوري في الصباح لاحت بوادر الازمة... شعرت بالدوار يعصف براسي، كانني رائد فضاء يسبح في مجال انعدام الجاذبية، قاومت هذه الاعراض المزعجة بشجاعة دون أن انبس بكلمة، لكني في قرارة نفسي كنت على استعداد كامل أن ادفع دينارا كاملا في سبيل سيكارة واحدة، بل كنت على استعداد لان اضحي بسنة من عمري لقاء نفس واحد من الدخان.وخطر أن اعلق فوق الباب لافتة: ممنوع الدخول والخروج؟ .ثم ارتأيت أن امضي تلك السويعات المزعجة بالمطالعة.واخترت احب قصة إلى نفسي، اخترت قصة بعنوان (عناقيد الغضب) وشرعت اقرا فصلا معينا طالما اهاج في نفسي اعمق الاحاسيس الانسانية. لكني لم افقه شيئا مما قرات. ثم تناولت مجلة رخيصة حافلة بصور بغايا عاريات باسم الفن.ثم القيتها جانبا هي الاخرى. واحسست بما يشبه الظمأ. وتجرعت كاسين مترعين من الماء دون أن يزايلني ذلك الاحساس. ثم شعرت بالنعاس. غير اني لم استطع النوم..وشعرت بأعراض غريبة كتلك التي يشعر بها مريض مصاب بهبوط في الضغط. وانتابتني حالة من الياس والفجيعة والقنوط دون أي مبرر.. هل ثمة شي افتقدته؟ لكن الباب موصد، وعلي أن اقوم. ثم تمددت ورحت في اغفاءة قصيرة. وعندما استيقظت امتدت بيدي بطريقة ميكانيكية لتبحث عن علبة السكائر تحت الوسادة. فيا لخيبة الامل قررت بعد ذلك اتمشى على السطح لتمضية فترة هي اتعس من الفترة التي يمضيها المتهم قبل صدور الحكم عليه. وصعدت فوق السطح. ويالهول مارأيت كان ابني (خليل) قابعا في احدى الاركان وبين اصابعه سيكارة يدفع بها في فمه إلى اقصى حد ممكن، وقد انتفخت أو داجه ودمعت عيناه. ورايت لعابه يسيل.انقضضت عليه كالبرق وانتزعت منه السيكارة، وامتصت منها انفاسا عميقة متلاحقة، وعصف بي الدوار كرة اخرى، لكني تمالكت نفسي وصرخت في وجهه بغضب:
-هيه ايها العفريت. قل لي من اين حصلت على هذه السيكارة؟ رفع الي وجها مذعورا،فكررت عليه قولي:
-لن اضربك. قل لي كيف حصلت على سيكارتك في هذا الحصار الجهنمي المفروض على البيت؟ دون أن ينبس بكلمة انتصب واقفا، وتطلع حواليه بارتباك شديد ثم مضى إلى احد الاركان، وازاح حجرا عن حجر، ثم سحب قبضة من مختلف أنواع السكاير كان قد سرقها مني في فترات متباعدة.. صادرت السكائر المهربة،وصرخت به وانا اقطب ما بين حاجبي.
-لاتحاول أن تسرقني ثانية؟
واجاب متلعثما:
-لا يا أبي.
واقبلت زوجتي على صراخي، فوقفت مندهشة وهي تتمعن بذهول في سحب الدخان المعقودة فوق راسي.والحق اني شعرت بالخجل والارتباك ثم شرحت لها الموضوع باختصار، فقالت بعطف:
- عبثا تتعب نفسك كل مرة.
اجبتها على الفور:
- خسرت معركة اخرى يا عزيزتي، ولم اخسر الحرب.

بحزاني في 25/5/1969


 الأشجار لا تموت

أقبل الخريف ، بدأت أوراق بعض الأشجار تذبل ثم تسقط على الأرض . حزنت الأشجار حزنا ً شديدا ً ، وتساءلت فيما بينها : " ماذا جرى ؟ ولماذا تتساقط الأوراق هكذا ؟؟" . قصدت الأشجار شجرة جوز كبيرة لتستشيرها في الأمر ، ضحكت شجرة الجوز وقالت : " لا شيء .. لا شيء يا عزيزتي . يبدو أن الشتاء قد بدأ يقترب ، لذلك تتساقط الأوراق نحو الأرض " .
عادت كل شجرة إلى مكانها ، وهي في غاية الأطمئنان . إستمر تساقط الأوراق ، تجمعت أكداس كثيرة منها فوق سطح الأرض . وقبل أن يحل ّ فصل الشتاء ، صارت جميع أشجار الغابة - عدا القليلات- عارية من الأوراق تماما ً .
حتى شجرة الجوز الكبيرة ، سقطت هي الأخرى أوراقها ، وبدت كأمرأة عجوز طاعنة في السن . عندما أضحت الغابة جرداء ، إنتشر الخوف بين الأشجار ، قالت شجرة التين :
-لا بدّ وأن الشتاء فصل قاس لا يرحم ، فأي شيء يمكن أن يحمله لنا ؟؟
ردت شجرة الجوز تقول بوقار:
- أجل.. إن الشتاء فصل قاس ٍ حقا ً ، سيحمل لنا معه الأمطار والثلوج والعواصف ..
لكن عليكم أن تصبروا !
واقبل الشتاء . هبّت عاصفة شديدة ، إرتجفت الأشجار من شدة الخوف ، وإنتشر الذعر في الغابة : الرياح عنيفة ، تستطيع أن تقتلع أي شجرة من جذورها .. ما السبيل للخلاص من العاصفة ؟!. صاحت الأشجار بصوت واحد : " لنهرب من وجه العاصفة ، وإلاّ ستقضي علينا جميعا ً .. !" لكن شجرة الجوز الكبيرة هزت رأسها غير موافقة على هذا الرأي ، قالت بصوت رزين :
- كلا .. لن نهرب ! قد تسقط بعض الأشجار في مهب العاصفة ، لكن ليس في مقدور العاصفة علينا جميعا ً
هكذا صمدت الأشجار في وجه العاصفة . بقيت العاصفة تهب أسبوعا ً كاملا ً . سقطت بعض الأشجار ، تكسرت أغصان أشجار أخرة ، ثم هدأ كل شيء ، تلبدت السماء بغيوم سوداء كثيفة . لم يمضِ ِ وقت طويل حتى تساقطت الثلوج بغزارة . إستمر الثلج يتساقط ويتساقط حتى غطى الغابة وإنطمرت جذوع الأشجار تحته . خافت الأشجار خوفا ً شديدا ً ، قالت شجرة الزعرور :
- لنهرب.. ! الثلج أخطر من العاصفة . سيطمرنا تحته ، ويقضي علينا جميعا ً !.
أطرقت شجرة الجوز الكبيرة تفكر ، ثم قالت للأشجار بصوت حكيم :
- كلا .. لن نهرب ! قد تسقط بعض الأشجار تحت ثقل الثلج ، ولكن ليس في إمكان الثلج أن يقضي علينا جميعا ً !
إقتنعت الأشجار برأي شجرة الجوز الكبيرة ، وبقيت في مكانها بأنتظار ذوبان الثلوج" .
ذات يوم سقطت الأمطار بغزارة . فرحت الأشجار وقالت : " المطر سيذيب الثلوج". في الليل أضاء الغابة بريق ساطع ، أعقبه دويٌّ يشبه أصوات المدافع ، إنكمشت الأشجار على نفسها وهي ترتعد ذعرا ً .
قالت شجرة البلّوط : هذه هي الصاعقة .. وهي تستطيع إقتلاع أي شجرة في غمضة عين ! " . خافت الأشجار وصاحت :
- لنهرب.. ! الصاعقة أخطر من الثلج ، وهي تستطيع أن تمزقنا قطعا ً قطعا ً .
قالت شجرة الجوز الكبيرة مؤنبة :
- كلا .. لن نهرب ! الصاعقة قد تقتلع بعض الأشجار ، ولكن ليس في إمكانها إبادة غابة .
إقتنعت الأشجار بهذا الرأي ، فلم تهرب .
أذابت الأمطار الثلوج إنحدرت السيول من قمم الجبال . تجمعت على شكل نهر هائج . إتجه النهر صوب الغابة وهو يزمجر . إقتلع عددا ً غير قليل من الأشجار ، وجرفها معه بعيدا ً ، إنتشر الذعر في الغابة ، صرخت شجرة الصفصاف :
- لنهرب ..! السيل أخطر من الصاعقة . سيجرفنا نحو البحار البعيدة .
لكن شجرة الجوز الكبيرة إعترضت قائلة :
- كلا .. لن نهرب ! السيل سيجرف الأشجار ، لكنه لا يستطيع القضاء على غابة .
هكذا بقيت الأشجار في مكانها ولم تهرب . مع بداية الربيع أورقت جميع الأشجار ، إكتست الغابة بثوب أخضر جميل . إنسابت الجداول الصافية في كل مكان ، غرّدت الطيور على الأغصان ، إمتلأت الأغصان بالفاكهة ، لم يعد هناك مكان على الأرض أجمل من الغابة .وحدث فجأة - في أحد أيام الصيف - أمر مرعب شبت النيران في طرف الغابة ، تصاعدت أعمدة الدخان نحو السماء ، إنتشر الأضطراب في الغابة ، صرخت الأشجار باكية.
- لنهرب ..! النيران أخطر من السيول . إنها ستحرقنا جميعا ً ، وتحيلنا إلى كومة من الرماد !!
نظرت شجرة الجوز الكبيرة إلى ألسنة النيران ثم خاطبت الأشجار بهدوء ووقار :
- كلا .. لن نهرب !! حتى النيران لا تستطيع القضاء علينا. جذورنا في الأرض، وستنمو من جديد .
أحرقتِ النيران جزءً من الغابة ، ثم مضت تلتهم الهشيم . فرحت ِ الأشجار ، وعانقت شجرة َ الجوز بأعتزاز . ويوما بعد يوم أخذت الأشجار تعلو وتكبر . نبتت أشجار جديدة . ظنت الأشجار بأنها لن تصادف محنة ً أخرى . ولكن حدثَ فجأة أن ترددت في أنحاء الغابة طرقات غريبة : " طاق .. طق ! " وعلى الفور إنتشر خبر مؤلم في الغابة : مخلوق يدعى الأنسان ، بيده آلة تسمى الفأس .. هذا المخلوق يقطع أي شجرة يريد بضربات قليلة من آلته الرهيبة ! .
هتفت الأشجار : " لنهرب ..! هذا المخلوق مخيف أكثر من العواصف والثلوج والبرق والسيل .. بل وحتى النار ! "
ردت شجرة الجوز الكبيرة تقول :
- كلا .. لن نهرب !!
القت نظرة على الأنسان ثم استطردت تكمل :
- هذا المخلوق رهيب ، يستطيع أن يقضي علينا فعلا ً ، لكنه لن يقدم على ذلك أبدا ً .
قالت الأشجار مستغربة :
- لماذا ؟؟
أجابت شجرة الجوز الكبيرة :
-لأنه عاقل !! لن يلحق بنا أذى كبيرا ً .سيأخذ حاجته من الخشب ، وينصرف .
عند ذاك توقفت ضربات الفأس ، غادر الأنسان الغابة حاملا ً معه قليلا ً من الخشب .

مضى الصيف ، واقبل الخريف ، وبدأت أوراق الأشجار تتساقط .. في هذه المرة ، لم تخف الأشجار ولم تضطرب، فهي تعلم أنها مقبلة على حوادث خطيرة : ستهب العواصف . وتتساقط الثلوج،وتفيض الوديان وتقصف الرعود، وتنتشر الحرائق ...وسيأتي الأنسان أيضا ًحاملا ً فأسه ، وبرغم كل ذلك ستبقى الغابة مزدهرة ، خضراء ، يانعة، ولن تموت الأشجار أبدا ً ..



 العقاب العادل

هطلت أمطار غزيرة في الربيع ، فأورقت الأشجار ، وتفتحت الورود ، وازدهرت الحقول . تفجرت الينابيع العذبة من كل مكان ، وجرت المياه في الجداول رقراقة صافية . هنا وسط هذه الطبيعة الخلابة ، إختار النحل شجرة حور كبيرة ، فبنى لنفسه خلية ً داخل جذعها المجوّف .

طوال موسم الربيع ، إستمر النحل على العمل بجد ونشاط ، كل عاملة تغادر الخلية ، في وقت مبكر من الصباح ، تطير بعيدا ً عِبر الحقول ، باحثة عن الأزهار ، لتنقل رحيقها إلى الخلية . إستمر النحل يعمل أشهر عديدة ، دون كلل أو ملل ، حتى إمتلأت الخلية بالعسل ، ولم تعد تتسع للمزيد منه.

إحتار النحل في أمره . أيتوقف عن العمل والأزهار ما تزال تملأ الحقول ؟.

وجد النحل نفسه أمام معضلة ، غير أن فكرة لطيفة خطرت على بال الملكة ، فقالت :
- ليس هناك أي معضلة . إبحثوا عن مكان آخر لنبني خلية جديدة .

طارت نحلة لتبحث عن مكان ٍ ملائم ، لكنها لم ترجع . قيل أن زنبورا ً إفترسها .

خرجت نحلة أخرى ، لم ترجع أيضا ً . قيل بأنها تاهت ، ولم يعرف النحل ُ شيئا ً عن مصيرها .

لكن عزم النحل ِ لم يفتر . لا بدّ َ من بناء خلية أخرى . الصغار سيكبرون ، والخلية لا تتسع للجميع، والشتاء سيحل - عاجلا ً أم آجلا ً - ببرده وأمطاره وثلوجه . والعسل لن يكفي للكل. من الضروري أن يفتشوا عن مكان آخر ، قبل فوات الفرصة ، مهما كلفهم الأمر من تضحيات..
هكذا ، وبحماس منقطع النظير ، طار النحل في جميع الأتجاهات ، يفتش بين جذوع الشجار ، وفي شقوق الجبال ، وتحت الأجمات .. الأرض واسعة ، سيجدون حتما ً موضعا ً مناسبا ً لبناء خلية جديدة .
... عادت نحلة متعبة لتخبرهم أنها اكتشفت موضعا ً ملائما ً في جذع شجرة زيتون .
وفي موكب رائع بدأت الرحلة . ودّعت النحلات ُ القديمات صغارها ، ثم غادرت الخلية في رحلة طويلة نحو بيتها الجديد .. في الطريق، حطّت الملكة فوق غصن شجرة رمان للأستراحة ، تجمع النحل حولها على هيئة عنقود عنب ، إلاّ أفراد الحرس حيث ظلّوا يحومون في المنطقة خوفا ً من الأعداء .

إعترض سبيل النحل زنبور مغرور . إفترس عددا ً من النحلات المسكينات وقال بغطرسة :
- هذه الأرض أرضي ، ولن اسمح لكم الأقامة فيها ، سأفترسكم جميعا ً إن لم ترحلوا ..!
أجابته ملكة النحل الحكيمة :
- الأرض واسعة ، وليس من العدل أن تكون مُلك مخلوق دون آخر .
قال الزنبور المغرور :
- أريد حصتي من العسل ..! أنظروا إلى جسمي الكبير ، ولوني الزاهي . سأنتقم منكم إن خالفتموني.
عاود النحل رحلته .
الزنبور شرس وأحمق ومتغطرس . لا ينبغي أن يعرف مكان الخلية ، طار النحل إلى مكان مجهول ، وبنى خلية جديدة ، في مأمن مِن الأعداء . عمل النحل بنشاط لا مثيل له . الأزهار ما تزال كثيرة ، ستمتليء الخلية بالعسل قبل حلول موسم البرد والأمطار والثلوج.

جرادة صغيرة ظلّت تراقب النحل بفضول ، وهي تقضم كل ما يصادفها من نباتات خضراء .
إستمر النحل يعمل حتى حلَّ الخريف ، بدأت الأزهار تذبل .

عملت كل نحلة ٍ بأخلاص وتضحية ، إلاّ ذكور النحل الكسالى حيث ظلّوا يتسلقون في أرجاء الخلية عاطلين . قيل أن أحدهم غنّى يوما ً للملكة ، فأعجبت بصوته .. وهكذا تصور هؤلاء الحمقى أن الملكة ستمنحهم حصة كبيرة من العسل لمجرد أنها طربت لصوت أحدهم ذات يوم ! .

خرج ذلك الذكر الطائش ، جلس بباب الخلية ، وشرع يغني بصوت عال .
سمعت الجرادة صوته ، فلم يعجبها غناؤه . شرعت هي أيضا ً تغني غناء يثقب الأذن.
إقتربت منه وقالت :
- النحل ُ مخلوق غريب ، لا يعجبني سلوكه . الغذاء متوفر في كل مكان ، لكنه لا يأكل منه شيئا ً.
أجاب الذكر موضحا ً :
- النحل يضع العسل . يجمعه من رحيق الأزهار ، ويدخره غذاء ً لفصل الشتاء .
ثم أضاف يقول بكبرياء :
- لكننا الذكور لا نعمل . غنيت ُ ذات يوم للملكة ، فأعجبت بصوتي، وهي لذلك فقط قد تمنحني حصة كبيرة من العسل.
قفزت الجرادة قفزة جانبية ، إستقرت فوق غصن شجرة ، شرعت تأكل تارة ، وتغني تارة أخرى .
عاد الذكر يتسكع في الخلية.

بعد أيام عقد النحل مؤتمرا ً . وقبيل إنعقاد المؤتمر ، غادرت الملكة غرفتها ، إلتف حولها النحل باعتزاز. ألقت الملكة خطابا ً مقتضبا ً ، أشارت فيه إلى أن الشتاء على الأبواب . اتفق الجميع على أن العمل سيتوقف تماما ً في موسم البرد ، والعسل - برغم وفرته - قد لا يكفي . عليهم ،إذن ، أن يقتصدوا في طعامهم . هذه حصة الصغار، وهذه حصة العاملات ، وتلك حصة الملكة . هنا استاء الذكور وأثاروا ضجة في قاعة الأحتفال .. أين حصتهم هم ؟ ردت الملكة على إعتراضهم بهدوء : "انتم لم تساهموا في إنتاج العسل ، فمن العدل الاّ تذوقوا قطرة منه .. ! " وقيل بأن الملكة أمرت بطردهم ، لكن هؤلاء الحمقى رفضوا بغرور . ضنا ً منهم أن حجمهم اكبر وأقوى ، ويستطيعون انتزاع حصتهم بالقوة . وهنا هجمت العاملات عليهم ، قضمت أجنحة البعوض ، لسعت البعض الآخر بأبرها الحادة ، فرّ من نجا منهم على غير هدى ، هائما ً على وجهه ، باحثا ً عن مكان يحتمي فيه .

أقبل الشتاء ، اشتد البرد . شاهدت الجرادة ذكر النحل المغرور يختفي في ثقب شجرة .
تساقطت الثلوج ، غطت وجه الأرض ، إحتمت الجرادة في مكان آخر .
إشتد الجوع بالزنبور . ما ذا يأكل والثلوج تغطي كل شيء من حواليه ؟. تذكر خلية النحل . لو عرف مكانها ؟ ! آه.. كم العسل لذيذ ! لكن أين يجد الخلية ؟ وكيف ؟ .. النحل لا يخرج من خليته شتاء ً . تذكر الزنبور بأنه رأى الجرادة تختفي في موضع ما . لمَ لا يقصدها ؟ لعلها تعرف مكان الخلية . لكن الجرادة أخبرته أنها نسيت مكان الخلية . الجوع أنهك جسدها ، واضعف ذاكرتها . فكرت بعمق دون أن تهتدي إلى حل .أخيرا ً تذكرت أن ذكر نحل يختفي في مكان قريب .
قالت : " إنه يعرف مكان الخلية . لمَ لا نذهب إليه ، قد يساعدنا ؟ ...

إتفق الزنبور والجرادة وذكر النحل على مهاجمة الخلية ، ونهب كل ما فيها من عسل .
عندما إقتربوا من الخلية ، لم يجدوا غير ثقب صغير لا يتسع إلا لدخول نحلة .

قال الزنبور بصوت آمر :

- هيا ، يا ذكر النحل ، ادخل.. الجوع يقتلنا . تستطيع أن تسرق لنا شيئا ً من العسل .
رد عليه ذكر النحل وهو يرتجف من الخوف :
- لا أستطيع ! سيقضي عليّ النحل بأبره الحادة . لمَ لا تدخل أنت ؟
صاح به الزنبور غاضبا ً : " يا لك من رعديد جبان !" ثم هجم عليه وافترسه .

طلب الزنبور من الجرادة الدخول إلى الخلية . جسمها صغير ، وقد تفلح في محاولتها . لكن الجرادة رفضت وهي تجهش بالبكاء . كيف يستطيع مخلوق ضعيف مثلها مهاجمة خلية نحل ؟ . وحين هجم عليها الزنبور طفرت طفرة عريضة ، سقطت في بركة ماء ، وماتت غرقا ً .

بقي الزنبور ينتظر وحيدا ً بباب الخلية ، لعل نحلة تخرج . طال الأنتظار دون أن تخرج أي نحلة ، أخيرا ً مل ّ من طول الأنتظار ، طار عائدا ًإلى حجره ، قيل أنه سقط صريعا ً في منتصف الطريق ، بعد أن نهشه هدهد بمنقاره .

الموصل 7/7/1985



يتبع




 

Counters