الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الخميس 18/9/ 2008



هل توجد ثقافة عراقية في كوبنهاگن ؟

د. فاضل سوداني

اقيم للفترة من 18 لغاية 22 / 8 / 2008 في دار الثقافات العالمية في كوبنهاكن المهرجان الثاني للثقافة العراقية . وقد ساهم فيه نخبة من الفنانين والمثقفين العراقيين بمختلف اختصاصاتهم من مسرحيين وموسيقيين وتشكيليين وسينمائيين من الدنمارك و بلدان اوربية قريبة , اضافة الى عرض الازياء الفلكلورية العراقية. والغناء الفلكلوري والتطريب العراقي والعربي .و بالرغم من ان هذه الايام لا يمكن ان تبرز الوجه الحقيقي للثقافة العراقية بجميع جوانبها واشكالها ، إلا ان المساهمين من الفنانين والمثقفين وكذلك منظمي المهرجان كانوا حريصين على المشاركة كرد فعل للخراب الثقافي وتسلط الارهاب بمختلف اشكالة وعبثه في وطنهم ـ إلا انهم بهذه المهرجانات بالرغم من انها تقام في اوربا ، يمارسون مساهماتهم في بناء وعي الانسان العراقي حتى وان تواجد في المهجر القسري وليس في وطنه.

الفعاليات
والمتتبع لفعاليات المهرجان يلمس الجهد المبذول من قبل المشرفين سواء من الجانب الدنماركي او العراقي بشخص منسق الايام الثقافية الفنان خليل ياسين.
وكان البرنامج طموحا حيث بدأت الايام الثقافية بمعرض الفن التشكيلي للفنانين العراقيين علي جبار , محمد العبادي , سامي الجيزاني. وكذلك عرضا للازياء الفلكلورية الكردية و رقصات من التراث الكردي . والشئ الملفت حقا هو الموسيقى و الغناء ، الاستمتاع بالغناء العراقي التراثي والعربي الذي قدمته فرقة مقامات بقيادة الفنان انور بودراغ التي ختمت المهرجان بحفلة الشجن العراقي ، وكذلك فرقة الفنان فنار غالي الموسيقية والتي أسسها سوية مع بعض الموسيقيين الدنماركيين الشباب .
و فنار من عائلة طالب غالي الفنية والمثقفة وبالتأكيد شكل هذا تأثيرا ايجابيا على طموحه ، وقد عمل على تحقيق حلمه الموسيقي (أي تشكيل الفرقة) هذا والتهيئة له منذ سنوات عديدة ،وانا أفتقدته لفترة طويلة في زحمة الايام لكنني أيقنت الان بانه لم يهدر وقته عبثا.

الورشة الفنية
والشئ المثير في المهرجان هو الورشة الفنية التي قدمها الفنان المبدع علي جبار إذ فيها الكثير من التمايز والخصوصية حيث استطاع ان يرسم امام الجمهور لوحتين بحجم 2× 2 م بوقت 20 دقيقة . وكان المفروض من فناني المعرض ثلاثتهم أي الفنان علي جبار والفنان سامي الجيزاني ومحمود العبادي ان يقوموا بالرسم امام الجمهور الا ان محمود العبادي لم يوافق ان يساهم بالورشة او لأنه يخجل عن ممارسة الرسم امام الجمهور، ونتيجة لإنشغال الفنان سامي ادى هذا الى ان يتحمل الفنان علي القيام بالورشة . والرسم المباشر هو تجربة ستينية جربها كبار الفنانين العالميين وامتدت الى الدول العربية في السبعينات والثمانينات بالرغم من انها اقتصرت على الجمعيات الفنية إلا أن البينالي الاول عام 1987 في بغداد كان حدثا وساهم به الفنان ايضا .
وقد جرب الفنان علي جبار سابقا مثل هذه الورشة في ملتقيات عالمية وآخرها ملتقى طهران الدولي لذلك فهو مقتدر على هذا ، فهذه التجربة تعتمد على الخبرة الفنية وجرأة الفنان في أن ينسى الجمهور الذي يراقبه والتحكم بادوات العمل ومساحة اللوحة .
وبالتأكيد فان هدف العمل المباشر هو ادهاش المتلقين في تجربة الرسم بالالوان ليطلعوا وبشكل مباشر على همس يدي الفنان وارتعاشات الفرشاة وهي تفتح ابوابا سحرية امام اعينهم. ومثل هذه التجربة تعتمد ايضا على براءة الانفعال الاول بدون ان يكون هنالك موضوع محدد في ذهن الفنان (منفذ الورشة ) حتى قبل ان يضع فرشاته على سطح اللوحة، وما ان يكّون المناخ العام للموضوع حتى تتوالى الصور لتصنع تكوينات انفعالية ملونة امام الجمهور الواجم والمندهش والمنتظر ، وبالرغم من ان الموضوع الذي اختاره الفنان يوحي بانتظار مجموعة من الناس في موقف للباص ، إلا أن انتظار العراقيين الابدي لفرج ما هو الذي تجسد على سطح اللوحتين فمنحنا القدرة على التفكير بان الانتظار مرافق للانسان في شتى تحوالاته التراجيدية وخاصة اذا كان انتظارا مقلقا كانتظار المجهول. وكانت الوان وحركة فرشاة علي جبار وتمكنه من صنعته الفنية تنقلنا من انفعال الى آخر.
( مع الاسف لم يشاهد جمهور الايام التالية المعرض بسبب كون اللوحات وضعت خطأ في القاعة الرئسية العامة التي تقام فيها الفعاليات وتقام ايضا نشاطات مرافقة ، وهذه الملاحظة ارجو ان تدفع القائمين بمعرض السنة القادمة بان يكون في قاعة منفصلة. ونقطة اخرى هي: لماذا يقتصر المعرض على ثلاثة اليس هنالك فنانين عراقيين محترفين واسماء معروفة بالوسط التشكيلي العراقي والعربي في الدنمارك .ولماذا لم تتم دعوة الفنانين العراقيين المعروفين من الدول الاوربية الاخرى وحتى من العراق للمساهمة ما دام الدعم دنماركيا ومتوفرا ).

المسرح
وفي مجال المسرح قدمت مسرحية " الهنا والهناك " وهي من اخراج الدكتور حميد الجمالي وموسيقى جعفر الخفاف وتمثيل اسعد راشد وحيدر ابو حيدر ولا اعرف لماذا اعطيت اسما غير اسمها او يسند النص الى غير مؤلفه البولوني أحيانا ، ما دامت هي ذات الاحداث التي عالجها مؤلفها مروجك في مسرحيته . وكذلك عرضت مسرحية عاشق الظلام لفرقة مسرح اور من المانيا تأليف الكاتب ماجد الخطيب (الذي يتميز بنشاطه التاليفي ) واخراج الفنان محمد فوزي السوداني و تمثيل حسن الدبو , ثامر صادق الشكرجي , موسيقى لطيف الدبو , ادارة زمن البدري .

مسرح الجسد
أما فرقة مسرح "الحافة " من هولندا فقد قدمت عرضا جسديا ـ مسرحيا متميزا بعنوان " اين الهناك " النص لشعلان شريف , تمثيل الفنان صالح حسن فارس , اخراج فخر الدين صالح بيكوفيتش , الازياء تانيا لوجيس , ادار الانتاج دينيكه هاوزنغا. والمسرحية عرضا لممثل واحد ( مونودراما ) يمزج بين النص الشعري المكثف وحركة الجسد، في فضاء ديناميكي مملوء بالرموز والإشارات التي يبثها الجسد وتحولاته من خلال حركة الفنان صالح حسن فارس وهو من الفنانين العراقيين المثابرين على تطوير ادواته الابداعية وخاصة الجسدية ولهذا فانه انهى فترة تدريبه تحت اشراف الفنان ايوجيني باربا هنا في الدنمارك للوصول الى القدرة على التحكم بالجسد .
وقد حتمت فكرة العرض استخدام وسائل تعبيرية متعددة كالسينما والرقمية وغيرها من اجل الوصول الى لغة تود التعبير عن توق الانسان للسفر وتحقيق ذلك الحلم المنتظر وكذلك صراعه الابدي مع اغترابه ـ ولكن اذا كان اغتراب الانسان في داخله او في ذاته فبالتأكيد أن أي بحث او وصول الى ( مدينة اين ) هو غربة مضاعفة ، لأن المكان ليس سوى حلم أو سفر جديد لأكتشاف (الهناك)، وهو صراع متكرر مع مشكلة الاحساس بالاغتراب ، وكما يقول كفافس ( إذا كنت قد خربت حياتك في هذا الركن الصغير من العالم ، فهو خراب لك اينما حللت ) ، فيتحول المكان الى خراب حقيقي بسبب التشاكل الذاتي او بسبب خارجي كالحرب مثلا ولذا سيكون الدخان كثيفا يفقد فيه الانسان البصر والبصيرة. ولكن احيانا يرى هذا الكائن للحظةٍ ظلّ القمر على غيمة دخانية قد يكون شاحباً، ويؤشر للانسان ان يتبعه ، الى اين ؟ الى المجهول أم الى الحلم أم الى حلمنا العراقي المسروق .
ويمكن القول بان الفنانين المبدعين الذين يجعلون من الجسد لغة ابداعية في فضاء المسرح هم قلة واحدهم الفنان صالح حسن فارس الذي كان متمكنا من ادواته الجسدية التعبيرية وكذلك استخدامه للاشياء والادوات والالوان بطريقة تعبر عن هدف العرض ، فبحركة جسدية متميزة أو استخدام خودة حربية ، يمنحنا القدرة على فهم الهدف المنطقي للعرض ، ولهذا كان المفروض على الفنان صالح ان يعتمد على امكانيات جسده التعبيرية بدون استخدام الفلم الذي اعاقنا من فهم بعض افكار العرض وكذلك حركته المعبرة ، واتمنى ان يلغي هذا الجانب فيما اذا قدم العرض مرة اخرى ، لان هدف التكنولوجيا في العرض أما ان يغنيه او يؤدي به ان يكون غامضا .
وبالرغم من أن لغة المسرح المعاصر هي لغة تتكون من شمولية الوسائل والانساق الفكرية والتقنيات وكذلك الاستخدام الابداعي للتكنولوجيا في العرض المسرحي ، وإزالة الحدود بين الانواع والاصناف الادبية ووسائل بصريات الفنون المختلفة فليس هنالك أي حدود بين الكلمة البصرية ودرامية وشعرية الحركة والمايم والرقص وموسيقى الجسد والكتلة وسينوغرافيا الفضاء. ولايمكن ان تغني هذه الانساق معمارية حركة الممثل والفضاء المسرحي مالم تُفهم أبعادها التعبيرية و تستخدم بشكل صائب .
محتم على المسرح العراقي في المنفى الان ان يبني اسس مستقبلية للعرض العراقي المستقبلي وهذا يتطلب مهام جديدة من العاملين فيه ، واولها أن يتخلص فنانه من مرض الاديولوجيا والدعائية المباشرة ، وان يطور ثقافتة ويغنيها بمتابعة ومشاهدة التجارب الاوربية الجديدة وهذا متاح لهم في منفاهم .

السينما
وفي مجال السينما قدمت عدة افلام كفلم " فيروس "من اخراج الفنان جمال امين وهو يعرض لاول مرة ، وفلم " الهارب "من اخراج الفنان الدنماركي يسبر تغولستغوب ومثل فيه اضافة الى ممثلين دنماركين كل من بيدر ديوان , سنان سباهي , سهام علوان و حيدر ابو حيدر . وفلم " زينب " من اخرج الفنان طارق هاشم بمشاركة الفنانة سهام علوان ايضا .و فلم من اخراج الفنان عدي رشيد بعنوان " غير صالح للعرض و عرض فلم" صائد الاضواء " من اخراج الفنان محمد توفيق بطولة الفنان جمال امين وفلم الجذور لأحسان الجيزاني يتناول حياة سكان الاهوار وفلم " رسام في زمن الارهاب" صالح كاظم صالح .وقد استطاعت بعض هذه الافلام ان تؤكد على تطور اللغة السينمائية لبعض مخرجينا الشباب وتمكنهم من ادواتهم التعبيرية.
وساتناول ثلاث أفلام لأهميتها سواء من ناحية الافكار او الاستخدام المبدع لتقنية الرؤيا الاخراجيية .
من البديهي القول بان جحيم الحروب العراقية ستشكل موضوعة متميزة للفنان العراقي ، سيعود لها دائما ولن تمحى ، مادامها تشكل كابوسا للذاكرة العراقية . ولهذا فان جل الافلام السينمائية التي يصنعها الفنان السينمائي العراقي سواء في داخل العراق ام في المهجر مستقبلا ، لابد ان يتناول ذاكرة الماضي كحقيقة آنية مرتبطة بشكل وثيق بالحاضر وهذا ما امكننا ان نلاحظه في افلام طارق هاشم عموما وفلم عدي رشيد والى حدما بعض من أفلام محمد توفيق الاخرى ، ان ذاكرة الحرب هي التي تقلق بصيرة الفنان السينمائي الذي يعيش في المنفى فيحاول ان يوافق بينها وبين غربته من اجل خلق معادلة خراب الوطن المنفي.
ونقطة اخرى هي أن هذه الأفلام التي عرضت واعني فلم طارق هاشم وفلم عدي رشيد والى حد ما فلم محمد توفيق تميزت بالمزج بين الفلم التوثيقي والروائي .بمعنى ان موضوع الوثيقة التي تغري المخرج في المهجر عادة لعدم توفر الامكانيات المادية والتقنية التي تحتاجها صناعة الفلم ،لا بد ان تعالج بوعي وعقل اخراجي روائي( الذي هو طموح أي سينمائي )، وهذه ميزة ستشكل ضاهرة في مستقبل السينما العراقية.

فلم غير صالح للعرض
إذ يفاجئنا فلم "غير صالح للعرض" لعدي رشيد بتقنيته الفكرية الدقيقة المبنية على كشف خراب الوطن والذاكرة ، ولابد ان يدهش الجمهور أيضا بسبب غزو وعيه بمساحة واسعة من حجم الخراب والجحيم العراقي بلا تزويق ، فهو يطرح لنا تلك الشخصيات التي تبدو وكانها تدور في حلقة جحيمية مفرغة بسبب معايشتها لظروف الحرب المفروضة , فالمتحاربون هم خارج الذات العراقية ن ولهذا فان الشخصيات العراقية تستقبل حاضر الحرب ومستقبلها بسخرية عراقية مرة. والمخرج حاول ان يعالج سلوك الانسان وكانه في مصيدة المجهول بدون ان يعرف مالذي سيحدث بعد دقيقة ، وكانت الكامرا الداخلية التي يدور بها الممثل ـ المخرج والمصور لينتقي الشخصيات والمكان الاكثر جحيمية في هذا الخراب ،تشكل ذاكرة جديدة . فالجندي المجروح والهارب والعائلة التي تعيش هول الحرب والتي تتواصل مع العالم الخارجي من خلال المذياع والطقوس العراقية المرتبطة بماء دجلة وذلك المجنون الذي يسخر منا ومن الحرب والذي هو وحده صاحب العقل المتزن. وإلا لماذا الحرب وماذا ستفعل هذه الذوات وسطها؟ وموضوعة المزج بين الوثائقية والروائية واضحة وسط هذا الخراب.
إذن يمكننا ان نكتشف الزمن بشكل مكثف وهذا مادل عليه موضوع الفلم وفكرته وكذلك تقنية المعالجة ، فالزمن هنا هو الاول: زمن الكامرا الداخلية التي يدور بها الممثل كجزء من الحدث ، وهو زمن الماضي الذي يتجوهر عندما يصور الشخصيات وهي تعيش وسط الخراب البغدادي و تتحدث عن الماضي ، أي عما جرى قبل لحظة التصوير وخاصة تلك الشخصيات التي اجريت معها مقابلة كالوثيقة ـ والتي يراها المخرج والمصور وصاحب الصوت في الفلم اضافة الى الجمهور المشاهد . والزمن الثاني: هو زمن الحاضر الذي تتحرك فيه احداث الفلم الانية أي علاقة المخرج الممثل (كشخصية )بالحرب وبزوجته والعثور على الجندي المجروح والذي يبحث عن ملجا وبعد ذلك موته وغيرها .
فهو فلم لا يفرض رايا منحازا على المشاهد وانما الكامرة فيه عين تراقب وتشعرك بالذنب والمسؤولية احيانا ازاء ذلك الذي جرى في بغداد. لقد اشرت على ان المخرج عدي رشيد استخدم طقسا عراقيا تمارسها امهاتنا عندما يتمنين ان تتحقق امنياتهن فيرسلن الشموع ونورها ليتلألأ في نهر دجلة ، انها دجلة التي تحقق اماني العراقيين واحلامهم ، وهو طقس له علاقة بعودة الغائب ، بالرغم من جذوره التي تمتد الى البابليين و المخرج بهذا اكد على امتزاج الواقع بالخيال الاسطوري الشعبي ، وكذلك استخدمه لأغاني المقامات العراقية الحزينة للتدليل على عمق التراجيديا العراقية .
لقد شعرت ببعض التكرار لدلالات ومعاني الاحداث في نهاية الفلم وكنت اتمنى على المخرج ان ينهي فلمه بالضبط عندما يبدا مطرب المقامات بغناءه الحزين ولكن ان ينقل طقس عودة الغائب قبل هذا ، بالرغم من انه لايمنعنا من القول بان الفلم كان وثيقة روائية عن الجحيم البغدادي حققهها مخرج يعيش منفاه .

زينب
ويعد طارق هاشم أحد الفنانين السينمائيين والمسرحيين المتميزين حيث قدم العديد من الافلام التي عالج فيها مختلف الموضوعات فمن عادته الانتقال من موضوعة الموت مثلا الى الحب ومن الحقيقة الى الوهم وبالعكس ،والواقع في افلام طارق هاشم هو اما حلم او وهم ، والحلم يتماها مع الواقع دائما، وهو يتعامل مع شخصياته حتى في افلامه الوثائقية كونها ذوات محاصرة تعيش في نفق ضيق ولكنه يخرجها الى النور ومعها يحاول ان يقدم حقيقة غير مفتعلة . وبالرغم من ان فلم زينب الذي قدمه يعالج بعض من حياة وموت فنانة الشعب العراقي زينب (فخرية عبد الكريم ) إلا أنه يعد وثيقة امتنان لها من معاصريها من الفنانين والجمهور،لانها قضت حياتها على خشبة المسرح في العراق و المنفى وأُهملت لسنوات عديدة ،و سرق زمنها الفني ، وهذا قدر الفنان العراقي النبيل والمخلص في وطن ينهبه ابناءه ،ولانها أيضا صعدت المسرح بجراة لا مثيل لها في فترة الخمسينات من القرن الماضي حيث كانت التقاليد تعده عيبا ، فكيف سينظر الى المراة وهي على خشبته او تصور فلماها السينمائي الاول (سعيد افندي ) ، ولهذا فان هذه الوثيقة ـ الفلم الوداعية عن الفنانة هي في ذات الوقت فلما عن الموت كموضوعة تقلق الانسان وهذه احدى الثيمات التي تقلق طارق هاشم وعالجها في بعض افلامه . ونرى في هذا الفلم ذلك المزج بين الوثائقية والروائية والذي يلجأ له طارق دائما.فعندما تخرج الكامرا من النفق الى الضوء في الحركة الاولى من فلم (زينب )فان المخرج يؤشر لنا على خلود الفن والفنانة ،أي اننا لا يمكن ان ننسى الفنان حتى وان خرج من نفق الحياة المظلم .
وأكد المخرج هذا المفهوم ايضا عندما استخدم المونتاج والتناوب والمزج الفكري بين كتابات وقصيدة الفنانة زينب وحزن وشجن ذكريات الفنانة سهام علوان عنها والتي تربت فنيا تحت اشرافها.وذكرّنا المخرج بالزمن العراقي الهني الذي كانت زينب فيه النجمة السينمائية عندما عرض بعض أفلامها كفلم "من المسوؤل" وفلم "الحارس ". وعندما يفضل المخرج ان يكون الكادر ضبابيا بسبب المطر الذي يهطل على زجاج السيارة التي تحمل تابوت الفنانة ، فانه يحاول ان يجعلنا نفكر بضبابية الموت ذلك المتربص بنا دائما.
ان طارق هاشم مخرج طموح يحاول ان يرسم ويخلق كادره السينمائي كفضاء مملوء بالاشارات والرموز الفكرية الواقعية والخيالية تعمقها الموسيقى الموحية والصوت البشري الذي يأتي من خارج الكادر أحيانا، والصمت فس أحيان اخرى اضافة الى استخدام بعض الشجن العراقي سواء في الاغاني او الطقوس الشعبية.

فلم اللحية
أما الفلم الثالث فيضعنا أمام مخرج سينمائي وفنان مبدع وصاحب توجه جدي في نظرته للسينما وصناعة الفلم واعني المخرج محمد توفيق ، فهي لا يكتفي بالاخراج فقط وانما يعمد الى كتابة السيناريو الادبي كما في كتابه المطبوع باسم "محطات الانتظار" ، اضافة الى كتابته للشعر ، لذلك هنالك مسحة شاعرية في افلامه كما في فلمه (شاعر القصبة ، عن الصكار) ، اضافة الى ان هذه الشاعرية مغلفة بسخرية كوميدية سواء كان هذا في الحوار او الكادر لذلك يحتاج الامر معه الى النظر والتمعن بدقة وبذات الجدية عندما نتتبع بناء سيناريوهاته الدرامية وتقنيات اللغة السينمائية حتى نستطيع ان نكتشف بان هنالك فكرة واحدة مبرزة هي الانتظار اللا مجدي ضمن ظروف سياسية واجتماعية والتباسات معقدة ، وأن الشخصيات محاصرة ومقموعة وتدور في مكان واحد ، ينقذها ماضيها عن طريق استخدام وسيلة الفلاش باك للقاء بمحيط آخر.
والنقطة الاخرى هي اهتمام المخرج بالذات وقرينها ضمن حرية مفقودة ، وهذا واضحا في سيناريوهاته المطبوعة (فهي ثلاث محطات: المطار ،وداعا يا صديقي، لقاء) وافلامه الاخرى القصيرة والروائية ، إضافة الى انه يستعرض مصائر أشخاص مختلفين ومتباينين ، ويجعل المكان وسيلة للكشف عن تناقضاتها ضمن ظروف غاية في الخصوصية والكثير من هذه الشخصيات تلتقي مرة واحدة و تختفي سريعا، أو تخطف أحيانا كالوميض وتغيب . أما المحجوزون منهم فيدورون في حلقة ضيقة يحاصرهم الآخرين ، وهذا واضحا في مسرحية "اللحية "( تمعن بالعنوان ) إذ يبدو الامر سهلا عندما يرغب شخص ما ان يطيل لحيته ولكنه يكتشف بان الامر معقدا اكثر مما تصور ، وبالتاكيد فان الغروتسك الساخر الذي استخدمه المخرج يدفعنا لإكتشاف مقاصده .ومؤكد فان اللحية رمز لجيل من الثورين او انها رمز للارهاب الديني وفي كل الاحوال فانها تثير الاخرين الذين يبادرون دائما لمحاصرته بالسوال (خّير .. لماذا هذه اللحية ..إحلقها )ولكن الجوهري ايضا ان الفلم هو معالجة ساخرة لحرية الانسان المخنوقة .وقد مثل دور البطولة في الفلم الممثل المقتدر جمال امين الذي ساعدته انسيابيته واسترخاءه على التعبير بلغة وحركة سينمائية عن مضمون دوره وهذا مايحتاجه الممثل السينمائي عادة .
ويمكن القول الان بان السينما العراقية قد كسبت مخرجين جدد واننا لن نشكو من قلتهم في المستقبل وان تجارب هؤلاء الشباب الذين يصنعون افلامهم الجادة المتأثرة بافكار ابداع المخرجين العالمين ، لا بد ان تشكل صناعة سينمائية عراقية متطورة تقنية وفكراً.
ومثل هذا الهدف تحتاج صناعة السينما في المنفى الى عقل وخيال سينمائي اكاديمي مثقف ومدرب ، إذ لايقتصر الامر بإستخدام الدعم الذي تمنحه المؤسسات المختصة بصناعة فلم مرتبك فكرا وتقنية نتيجة لعدم تمكن المخرج من صنعته وادواته.

مقترحات ودية عامة:
ـ
مازالت بعض مهرجاناتنا الثقافية يطغي عليها الطابع الاديولوجي او السياسي الضيق مما يحد من طبيعة الجمهور والتأثير عليه فاضافة الى الجمهور العراقي نحن وسط محيط اوربي يحتاج الامر الى التنظيم الراقي والدقيق. وهذا لا يمنع من التأكيد مرة اخرى على الجهود المبذولة في تحقيق هذا المهرجان. ولكن في ذهني دائما مهرجان الثقافة العراقية في برلين الذي يتميز بجديته وتخطيطه الاكاديمي المنظم.
ـ ان التخطيط لاقامة مهرجان يعكس الوجه الحقيقي للثقافة يحتاج الى عدم الاقتصار على مجموعة صغيرة من الاداريين والمنفذين ، إذ يجب التفريق بين مشاكل ادارة تنفيذ المهرجان وبين تنفيذ العمل الابداعي لذلك يكون من الضروري اشراك المثقفين والفنانين في التخطيط للمهرجان، اضافة الى الدعم المعنوي على الاقل الذي يجب ان تقوم به السفارة، وكمثال على هذا الدعم هو اهتمام السفارة العراقية بمهرجان الثقافة العراقية في استوكهولم .


كوبنهاكن في شمال الكوكب
14 سبتمبر 2008


 

free web counter