الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الجمعة 19/10/ 2007



ملف خاص بالذكرى العشرين لرحيل المناضل جمعة كنجي
(2)

جمعة كنجي

  • مواليد 1933 الموصل ، بعشيقة/بحزاني

  • انهى الدراسة الاعدادية – القسم الادبي – سنة 1953

  • خريج الدورة التربوية سنة 1954، عين معلما ً في مدارس سنجار والشيخان والموصل .

  • التحق بصفوف الانصار عام 1963 ، بعد فصله من التعليم .

  • بدأ الكتابة في الصحافة العراقية عام 1952، حيث نشر العديد من المقالات في جريدة (فتى الموصل) وبعدها في أتحاد الشعب وطريق الشعب والفكر الجديد وشمس كردستان .

  • كان له اهتمام بالتراث ونشر العديد من المواضيع في مجلة التراث الشعبي .

  • كتب القصة القصيرة ، وله عدة مجاميع غير منشورة .

  • نشر قصص للأطفال من خلال دار ثقافة الطفل عام 1985.

  • نشرت له مجموعة قصصية في سوريا بعنوان ذلك المسافر عام 1966 عن دار بترا للطباعة والنشر.

  • له مخطوطة غير منشورة عن الديانة الأيزيدية .

  • اعتقل بسبب نشاطه السياسي لأكثر من مرة في عهود مختلفة .وتعرضت عائلته للأبادة بعد اعتقالها في آب 1988، ومن ضمنها زوجته وأبناؤه الثلاثة ووالدته وشقيقته واولاد شقيقه (ابو عمشه) ووالدتهم .
    ولحد اليوم لم يعثر عليهم رغم سقوط النظام وإكتشاف المئات من القبور الجماعية .

  • منع من النشر وتعرض لأستدعاءات متكررة من قبل جهاز الأمن ، تعرض إلى سكته قلبية قاتلة يوم 18/10/1986 بعد خروجه من مبنى مديرية أمن نينوى مباشرة .
     

 جمعة كنجي نجمة مؤتلقة
قراءة في كتابه " ذلك المسافر"

خلدون جاويد

ذكرتني مجموعة القصص القصيرة للأديب الراحل جمعة كنجي بشاعر انجليزي يدعى توماس كراي ، اذ يقف هذا الشاعر أمام مقبرة فقراء ليعاتب الزمن القاسي قائلا كم من عبقرية تحت هذا التراب وقد عتمها الفقر . واذ أضم صوتي الى هذا الشاعر وأنا بصدد الكتابة عن أديبنا القاص ( جمعة ) فاني اؤكد – زعما مني – ان ادبه جميل وجدير بالقراءة والتوثيق أيضا . وعدا بعض القصص التي لم ترقَ الى مصاف عمله العام ، المتسم بالجودة ، فان اسلوب كتابته لقصته ( كوخ على ممر الكرمل ) يتصف بعنصر التشويق ويكسو القارئ بلحظة نسيان شيقة بل بوهج دافئ ينقله الى مناخات الحدث . أما السجع الجميل لديه في ( المقامة التكريتية) فهو لون او جنس ادبي ميت استطاع ان يحييه بقوة المضمون الذي كتب عنه . أما لو حذفت اسم جمعة كنجي ووضعت اسم أي أديب معروف من ادباء اميركا اللآتينية وقصصهم القصيرة المليئة بالغرائبيات لمافرقت في الاسلوب مابين ادبه وادبهم وخصوصا في قصة ( القلعة القديمة ) . هناك قصص اخرى جميلة أيضا لكن امتدادات جمعة كنجي للأسف مبتورة بانتهاء حياته النضالية المرهفة والنقية . تقول انطولوجياه المسطرة في نهاية الكتاب أنه " من مواليد 1933 ناحية بعشيقة ، أنهى الدراسة الاعدادية – القسم الأدبي سنة 1953 ، خريج الدورة التدريبية سنة 1954 ، عين مدرسا في مدارس سنجار والشيخان والموصل . التحق بصفوف الانصار بعد فصله من التعليم .
بدأ الكتابة في الصحافة العراقية عام 1954حيث نشر العديد من المقالات في جريدة فتى الموصل ، وبعدها في اتحاد الشعب وطريق الشعب والفكر الجديد . كان له اهتمام بالتراث ، ونشر العديد من المواضيع في مجلة التراث الشعبي . كتب القصص ، وله عدة مجاميع غير منشورة . نشر قصص الأطفال من خلال دار ثقافة الطفل عام 1985 .

اعتقل بسبب نشاطه السياسي لأكثر من مرة في عهود مختلفة ، وتعرضت عائلته للابادة بعد اعتقالها ومن ضمنها زوجته وأبناؤه الثلاثة ووالدته وشقيقه وأولاد أخيه وأولادهم . وكان النظام البائد مصرا طيلة الوقت على عدم الاقرار بجريمته ، رغم تدخل السيد ياكوب ميلر ودير شويل ( منظمة حقوق الانسان ) .
منع من النشر في السنوات الأخيرة ، قبل استدعائه الأخير من قبل جهاز الأمن ، والذي تعرض بسببه الى سكتة قلبية في عام 1986 ....
يظل هذا الأديب القاص نجمة مؤتلقة في ذاكرة الأدب العراقي ، وخسارة مثل آلاف بل ملايين الخسارات ، والأوضاع المفجعة لحيوات الناس وابداعاتهم ومواهبهم ومصائرهم ، وان محبي جمعة كنجي وعاشقي أدبه ليدينون بالشكر والامتنان الى كل من وقف وراء طبع مجموعته القصصية ...وياليت تظهر الى العيان قصصه الاخرى وآراؤه الأدبية .
اننا رغم ندم بعض أبطاله على الغفلة الصيانية التي سقط فيها شعبنا ، نلمس يد جمعة كنجي تشد على أيدينا وقلوبنا في نداءات أدبية انسانية محرضة على السلام وحق الحرية والبحث والسعادة . يقول جمعة كنجي في ( ذلك المسافر) على لسان أحد المسافرين وبلغة قصصية وشاعرية : " ذات يوم جميل ، قبل أعوام قليلة ، هدمنا جدارا قديما ، لكننا لم نفكر كثيرا بطرح الأنقاض خارج المدينة !!! فعاد الآخرون وبنوا ذلك الجدار مرة اخرى ثم بنوه في غفلة منا " . حقا انها غفلة العمر الصيانية حيث تعلو جدران العهد البائد ، ويكابد المسيرة شعبا وادباؤنا فيغدو طريق ( ذلك المسافر ) شعابا يعج بالثلج والفاقة والألغام ونقاط الحراسة والتفتيش والمتابعات الظالمة ، ومن ثم يستحيل الشعب العراقي بأجمعه مسلخا لمخططات الحروب والاذلال والسجون والمشانق أو المنافي والمغتربات ..الخ .
طوبى لجمعة كنجي في نشيده النابع من الروح والمعبأ بالجمال والحنين الى عالم السلام والمحبة والدفاع عن مظلومي ومعذبي الأرض .
وأخيرا ياليت تنتبه وزارة الثقافة العراقية مشكورة الى كتابات الأديب جمعة كنجي فتقوم بنشرها أو على الأقل باعادة طبع (ذلك المسافر) واحياءا لذكرى وفاته المصادفة في 18/10/ 1986 . وهناك متسع من الوقت لو قدمت الوزارة كتابه للشعب العراقي هدية من أحد القلوب الوفية للشعب والسلام والحرية قلب حبيبنا الغالي الشهيد جمعة كنجي .
انه وعطفا على ما أوردته عن الشاعر توماس كراي ، لابد من الاضافة في كون ظروف التشرد والاعتقالات وقساوة الحياة قد ضغطت بفعلها السلبي على حياة الملايين من الناس ومنهم اديبنا القاص الذي لو توفرت له سنون حياة أفضل لكان قد أبدع أيما ابداع ، لكن القتلة ومقبرة توماس كراي كانت بالمرصا د . ( ولمحبي قراءة النص الشعري المترجم ، لا بد من الرجوع الى ديوان نازك الملائكة حيث أغنت الشاعرة المكتبة العربية بترجمتها لهذا النص الجميل ) .

وأخيرا، عهدا للأديب جمعة كنجي بل أغلى العهود، بأن نعمل على هدي ٍ من محبة شعبنا والانتصار له وايقاد كل لحظة من عمرنا نجمة ً مؤتلقة في سبيله وفي طريق المبدع الأصيل جمعة كنجي ورفاقه في الأدب والنضال .

 


من أعماله :

الينبوع الحزين

حط ّ السنونو فوق غصن شجرة. غرّد بصوت ٍ جميل ، ثم طار إلى ينبوع قريب لينهل الماء.
بكى الينبوع بدموع غزيرة ، وحزن السنونو على صديقه ، فأقترب منه ، وسأله:
- لماذا تبكي يا عزيزي؟
أجاب الينبوع من خلال دموعه :
- أواه.. يا أخي ! في الليلة الماضية تسلل إلى المجرى مخلوق مزعج، فليتك تساعدني في التخلص منه.
قال السنونو:
- ما شكل ذلك المخلوق؟؟
أجاب الينبوع :
لا ادري يا صديقي . قلت لك إنه تسلل ليلا ً ، و لا يكفّ قط عن القفز من مكان إلى آخر ، مثيرا ً الصخب والضجيج ، و عكّر مياهي بلعبته السخيفة هذه .
نظر السنونو إلى مجرى الينبوع من خلال شق ٍ بين الصخور، لم ير شيئا ًلشدة الظلام ، وفكر مع نفسه: أي مخلوق ذاك الذي إقتحم مجرى الماء ؟ لا بدّ وانه واحد من هاتيك المخلوقات التي تعيش في الماء . والينبوع يقول بأنه مخلوق مزعج ، يثير الضوضاء ، فمن المحتمل أن يكون ضفدعا ً . أصغى السنونو فأتاه صوت من الداخل : " قيق .. قوق .. قع! . صاح يخاطب الينبوع :
- يا صديقي ! إن ضفدعا ً طائشا ً قد إقتحم مجراك ، وهو الذي يعكر عليك الماء ، ويثير في داخلك الضوضاء.
قال الينبوع بدهشة:
- ضفدع ؟ ذلك المخلوق اللزج الملمس ، القبيح المنظر ، الكريه الرائحة .. هو الذي فعل بي هذا ؟؟
- أجل.
- أونسيَ هذا المخلوق القبيح فضلي ؟ أو يستطيع العيش بدون مياهي المنسابة في الجداول؟؟.
- يبدو أنه مخلوق عاق.
- ما العمل يا صديقي السنونو؟
قفز الضفدع قفزة جانبية، وصاح شامت :" قاق .. قوق !. فخاطبه السنونو قائلا ً:
- أيها الضفدع. إصغ إلي َّ . أنت تزعج الينبوع ، وتعكر مياهه ، وتسد ّ مجراه ..
- فردَّ الضفدع عليه ساخرا ً: " قاق .. قوق..قق ! لن أخرج ، ماذا تستطيع أن تفعل بي؟؟
- أجابه السنونو غاضبا ً:
- الماءُ ليس ملكا ً لك وحدك يا ضفدع إنه مُلك جميع الكائنات. وعليك أن تفهم هذه الحقيقة .
ردَّ الضفدع بسخرية :" قيق .. قاق .. قوق!" .

إنزعج السنونو. طار بعيدا ً عِبرَ المستنقعات. ثم عاد وبصحبته سلحفاة . وخاطب الضفدع بقوله:
- لقد اتيت بسلحفاة . سوف تدخل وتحملك على ظهرها عنوة ً . خيرٌ لك أن تخرج .
- أجاب الضفدع بأستهانة: " قاق .. قاق.. قاق! لن أخرج أيها السنونو!"
حاولت السلحفاة الدخول ، لكن مدخل الينبوع بدا أصغر من حجمها ، ففشلت في مهمتها .
بكى الينبوع بصوتٍ عال ٍتألم السنونو لحال ِ صديقه الينبوع، قال له:
- لا تحزن يا صديقي . سنجد حلا ً لهذه المشكلة .

- طار السنونو عبر الحقول . عاد وبصحبته أبو جنيب ( سرطان) . خاطب الضفدع مهددا ً:
- أخرج أيها الضفدع ، وإلاّ فسيدخل عليك صديقنا أبو جنيب ، فيمزقك بفكيه القويتين.
رد ّ الضفدع ينقنق بصوت قبيح : " قيق.. قيق.. قيق! لن أخرج من مكاني ".
لم يستطع أبو جنيب الدخول في الثقب ،حزن السنونو ، مضى الينبوع يبكي . فرح اللقلق وقال :
- ضفدع تافه يعكر مجرى الماء؟ سأقضي عليه بضربة واحدة من منقاري ، واحمل لحمة طعاما ً شهيا ً لفراخي .

- عاد السنونو ، خاطب الضفدع بقوله:
- يا ضفدع ! كفاكَ عنادا ً . أخرج ولا تزعج صديقنا الينبوع . لقد جاء اللقلق ، سيمزق لحمك بمنقاره الطويل.
ردّ الضفدع الأحمق يقول : " قاق .. قاق .. قاق! أنا في مكان ٍ حصين. حتى منقار اللقلق لا يصلني..!"
أدخل اللقلق منقاره في الشق. لم يستطع الوصول إلى الضفدع . قال للسنونو بأسف :
- الضفدع في مكان ٍ لا يصله منقاري .

هكذا وجد أصدقاء ُ الينبوع أنفسهم في حيرة . بكى الينبوع من جديد، توّسل إليهم ألاّ يتركوه في محنته . فكروا في وسيلة للقضاء على الضفدع الملعون.. أمن المعقول أن يتحداهم مخلوق تافه ضعيف وارعن مثله؟ وأخيرا ً إستقر رأيهم على أن يستشيروا شجرة الصفصاف ، لعلها تهديهم إلى حل .

حين قصدوا الشجرة ، وأوضحوا لها الأمر ، قالت :

- آه .. يا أعزائي . كم أنا آسفة لمصيبة صديقنا الينبوع . لولا مياهه العذبة لهلكنا جميعا ً .
سكتت الشجرة ، ثم استطردت تقول بأسف :
- لو استطعتُ أن أسيرَ مثلكم ، لقضيت ُ على الضفدع الملعون بضربة صغيرة من أحد أغصاني..!
- قالوا لها بصوت واحد:
- جئنا نسألك عن حل للمشكلة ، وأنت ِ أُختنا الكبيرة ، فهل نترك الينبوع وحيدا ً في محنته؟؟
أطرقت الشجرة ثم قالت بفرح:
- آه .. وجدت ُ الحل . أين صديقتنا البعوضة؟ إنها قادرة على مساعدتكم !

ضحكوا من كلام الشجرة كيف تتمكن البعوضة من مساعدتهم ؟ إنها مخلوق صغير ، سيبتلعها الضفدع بسهولة . لكن الشجرة الحكيمة أخبرتهم بأن الضفدع مغرور ، ولن يخرج من مخبئه إلاّ بالحيلة .. نادت ِ الشجرة ُ البعوضة َ ، خرجت من بين الأدغال، طارت فوق الأغصان ترسل طنينا ً متواصلا ً .
قالت لها الشجرة :
- يا صديقتنا البعوضة ! إن ضفدعا ً إعتصم في مجرى الينبوع ، و يمتنع عن الخروج منه.
- خافت البعوضة حين سمعت اسمَ الضفدع . حطّت فوق غصن ، قالت للشجرة :
- الضفدع حيوان متوحش، سيبتلعني بكل سهولة ، أخاف أن اقترب منه.
ضحكت الشجرة وقالت:
- لا.. لا يا عزيزتي . الضفدع حيوان غبي . سيخرج بمجرد أن يسمع صوت جناحيك.
لا تخافي ، فأنت ِ في حماية أصدقاء مخلصين.

إقتنعت البعوضة برأي الشجرة . طارت حول الينبوع ترسل طنينا ً عاليا ً .إبتهج الضفدع وقال لنفسه : " قيق .. قاق .. قوق ! سأحصل على وجبة غذاء لذيذة !" . وخرج إلى مدخل الينبوع . إقتربت البعوضة منه، حين مدَّ لسانه الطويل ليصطادها ، أطبق أبو جنيب على رقبته بفكيه القويتين، رفعه عاليا ً ثم ألقى به فوق ظهر السلحفاة .

مضت السلحفاة به بعيدا ً ، ألقته في بركة آسنة ، ثم جاء اللقلق ، إلطقته بمنقاره الطويل.
تدفقت مياه الينبوع عذبة صافية . ووقف السنونو يغرد فوق شجرة الصفصاف .

نينوى/ بعشيقة
5/8/1985
 

الطوفان

في مزرعة من المزارع ، شمر الفلاح عن ساعديه ، علق طرف ثوبه في وسط حزامه ، وتناول مسحاته ، ثم راح يعملُ  بصمتٍ وهدوء، لهيب الشمس يكاد يحرق ظهره . في مكان ٍ غير بعيد  منه ، جلست فوق ورقة ِ نبات  بعوضة وذبابة وجرادة . شرع هؤلاء الحمقى الثلاث يسخرون من الفلاح ، زاعمين بأنه مخلوق بليد، ينهك نفسه في العمل ، في حين يعرفون هم كيف ينتزعون طعامهم منه عنوة بلا مقابل .

مرَّ الفلاح بالقرب منهم ، دون أن يراهم ، فسخروا منه ، متوهمين بأنهم يختفون عنه في مكان حصين .

هكذا ظل هؤلاء الكسالى يلتهمون طعامهم بشراهة، إستطاعت الجرادة ُ أن تأكل بقدر حجمها من الأوراق الخضراء ، أمّا الذبابة فرشفت من  قشر بطيخ حتى إنتفخ بطنها ، بينما بقيت البعوضة  ملتصقة بأحد  السيقان، غارسة خرطومها الحاد فيه ، تنهل عصيره بغير حساب... إستمروا يأكلون ببطر، والفلاح منشغل في عمله .

حين أدار الفلاحُ ظهره لهم، طاروا إلى مكان ٍ آخر ، وتمادوا في غيهم وغرورهم، قالت الجرادة:" أنا اقوى من الأنسان ، أستطيع أن التهم كلّ مزروعاته! " . لكنّ البعوضة إعترضت  على كلامها قائلة : " أنت ِ متوهمةٌ يا جرادة . أنا اقوى من الأنسان . في النهار احتمي بين مزروعاته ، وفي الليل أهاجمه، ألسعه وامتص دمه لا أدعه ينام! " . إستاءت الذبابة من كلام البعوضة، فردت عليها: " يا لكِ من تافهة ! أنت لا تفارقين مخبأك إلا في الظلام . أمّا أنا فأهاجم الأنسان في وضح النهار، أرافقه في كل خطوة يخطوها. أعيش في منزله ، واشاركه  طعامه ، وأنقل له ولحيواناته أمراضا ً مختلفة ، قد تؤدي إلى  الموت !  أنا أقوى من الأنسان ! " .. ظلّوا يتناقشون دون أن يتفقوا على رأي معين. إحتدم الخلاف بينهم ، وكاد يؤدي إلى نزاع وخيم العواقب .

هنا زقزق عصفور بالقرب  منهم. قالت البعوضة: " لنحتكم إلى العصفور ،هو اكبر منا ، قد يعرف من هو الأقوى" لكن الجرادة إعترضت وقالت بأنه حكم غير عادل ، بينها وبينه عداوة قديمة .

سمعوا نقيق ضفدع بجوارهم ، إقترحت الجرادة أن يحتكموا إليه، لكن الذبابة إحتجّت، مدعية أن لسانه بذيء ، و غير آهل ليحكم بينهم . وقبيل غروب الشمس طار خفاش من فوقهم، قالت الذبابة : " لنحتكم إليه هو حاكم نزيه ، يخجل حتى من الظهور بين الناس!." لكن البعوضة لم توافق، إدعت إنه قصير النظر ، قد يراها ولا يرى بقية الخصوم! .

وهنا قرروا أن يفترقوا، على أن يجتمعوا في اليوم التالي ، لعلهم يتفقون على رأي معيّن .

لكن الفلاح وقف بالقرب منهم ، رافعا ً مسحاته عاليا ً ، ثم هوى بها على حافة اللاحة    ، تدفق الماء يغمر الأرض ،صاحوا مذعورين وبصوت واحد: " إنه الطوفان .. لنهرب !!" . وقبل أن يتمكنوا من الهرب، غمرتهم موجةٌ من المياه، تعلقوا بقشة طافية ، حاولوا النجاة ، غير أن الفلاح ضرب الأرض بمسحاته مرة ثانية، فانطمروا تحت كومة صغيرة من الطين .

نينوى/ بعشيقة
 27/8/1985


الثيران لا تستحق الرحمة !

شرع عاشور يبحث عن عمل آخر . فوجد له عملا ً في مزرعة قريبة من مدينة الموصل . صاحب المزرعة رجل ثري ، مهنته شراء العجول الصغيرة ، ومن ثم تسمينها ، وبيعها في المدينة . وقد إنحصر عمل عاشور في تقديم العلف والماء للعجول . أمّا زوجته جرادة فتولت مهمة تنظيف الحضيرة . وترتب على حماره شوشو نقل العلف على ظهره من المخزن للحضيرة .

وقد ورث صاحب المزرعة الثري خبرة ً عن أبيه في مجال تسمين العجول .
وأوصى صاحب المزرعة عاشور بشيئين إثنين : ألا يقدم للعجول علفا ً أكثر مما تحتاجه ، وأن تظل مربوطة على الدوام .

واضب َ عاشور على عمله ، يقدم العلف والماء للعجول ثلاث مرات في اليوم ، وحرص على تنفيذ وصية صاحب المزرعة .كبرت العجول ، وأصبحت ثيرانا ًكبيرة ، ضخمة ، باعها صاحبها في المدينة ، فحصل على أرباح جيدة.

قرر صاحب المزرعة أن يزيد راتب عاشور . فله ولزوجته جرادة فضل كبير من نجاح عمله .

إشترى وجبة أخرى من العجول . إستمر عاشور يعمل بهمة وحماس ، وحرصت جرادة على تنظيف الحضيرة بعناية فائقة .. وأصبح بأمكان شوشو أن يتناول ما يشاء من علف العجول . ذات مرة ، سافر صاحب المزرعة إلى جهة بعيدة ، وأوكل عاشور بأدارة العمل إلى حين رجوعه .

لكن فكرة جهنمية خطرت على ذهن عاشور : " لماذا لا يقدم المزيد من العلف للعجول لكي تسمن بسرعة ؟ .. لو فعل ذلك ، فإن صاحب المزرعة سيحصل على أرباح أكثر ، وفي فترة زمنية أسرع ، قد يزيد أجوره أيضا ً..!" . بدأ عاشور يعلف العجول ببذخ ، كبرت بسرعة ،أصبحت ثيرانا ً جاهزة للبيع . لكن صاحب المزرعة تأخر ، وبقيت الثيران تأكل وتأكل ..

إحتار عاشور في أمره : البطر جعل الثيران هائجة ، وجرادة تخاف أن تدخل الحضيرة .
عاد صاحب المزرعة من سفره . لم يصدق ما رأى : أيمكن أن تكبر العجول بهذه السرعة ؟!.
أثنى صاحب المزرعة على عاشور وزوجته جرادة ، ونوه إلى أنه سيزيد من أجرهم .

الثيران الآن جاهزة للبيع . صاحب المزرعة توجه إلى المدينة ليعقد صفقة مع الدلالين . عاشور في غاية الفرح والرضا. لقد أثبت بأنه رجل مجد ومخلص في عمله. شيء واحد ينغص عليه سروره. الثيران تبدو عصبية المزاج ومشاكسة . قال لجرادة : " لو حررنا الثيران من أربطتها ، أفلا يحتمل أن تصبح هادئة وديعة؟ " . وافقته على رأيه ، عندئذ اخذ عاشور يحرر الثيران من أربطتها واحدا ً بعد الآخر .

إنطلقت الثيران تتراكض في أرجاء الحضيرة ،هي في أشد حالات الهياج . أدرك عاشور أنه قد إرتكب خطأ ً كبيرا ً . كل ثور بدأ ينظر للآخر بشزر . نفخ أحد الثيران بغضب ، إندفع يهدد الآخرين بقرنيه الطويلين . نشبت معركة طاحنة بين الثيران ، سقط بعضها على الأرض داميا ً . وعلا خوار الثيران الهائجة ،لم يعد في مقدور عاشور السيطرة عليها . حاصرته الثيران في زاوية الحضيرة ، صرخ من مكانه مستنجدا ً : " جرادة .. جرادة ! إفتحي الباب ، وأخرجي شوشو ، الثيران ستقضي عليه " . وحين فتحت جرادة الباب ، إنطلقت الثيران هاربة في كل إتجاه .
قفز عاشور من النافذة وهو يتمتم ساخطا ً : " حقا ً .. إن الثيران لا تستحق الرحمة ! ".
وعندما عاد صاحب المزرعة ، لم يجد أثرا ً لا لعاشور ولا لزوجته ولا لأي ثور .. !

19/10/1985

يتبع

¤ الجزء الأول

 

Counters