الصفحة الثقافية
الجمعة 20/6/ 2008
(لا شيء غير الكلام)
للدكتور صدام فهد الأسديعباس الحساني
abbasalhassani@yahoo.com
من الاصدارات الحديثة التي تحتل الساحة الأدبية مجموعة شعرية (لا شيء غير الكلام) للدكتور صدام فهد الأسدي تحتوي على ست وثلاثين قصيدة تتضمن صرخات رفض واحتجاج نابعة من صميم الوجدان العراقي الذي يئن تحت وطأة المعاناة المتأزمة نتيجة التداعيات العامة في بنية المجتمع ما قبل السقوط وبعده في ظروف قاسية فرضت تعاملها بشكل غير متوازن ،وتلك السمة الغالبة على كل المناحي ، لذا فمن الطبيعي أن تأتي هذه الصرخات متمزقة داخل الكيان الوطني :
"كان الحزن حبيبي ،
والدمع رفيقي ،
واليأس محطتي .. "
وهو ما لا تقره الآية الكريمة ( يا أيها الذين آمنوا لا تقنطوا من رحمة الله ) ولا العرف العام فاليأس انهزامية لا يمكن قبولها لكنها جاءت لظروف خاصة أبان الحكم السابق الصارم وله العذر في ذلك فليس من المستطاع التفكير بهذا التطلع :
الويل لمن يكفر في هذا البستان .
وتلك حقيقة لا مفر منها ولا يصرح بها عاقل يدرك خطورة قوله وفعله .لقد ظل الشاعر يلفت الانظار الى مواطن التفاوت الطبقي والى مكونات أخرى :
أشياء تسقط في الذاكرة ،
أشياء تصعد في الأشياء ،
أفياء يفضحها النور ،
أشياء تخنقها الظلماء ..
هذا التناقض في العلاقات يشكل خطرا في مستقبل المجتمع العراقي الذي يعيش هذا الكم من الصراعات السياسية التي تتفاوت في توجهها المبدئي ؛ لذا فان الهموم تمد أجنحتها في كل مجالات الحياة ، والشاعر يسلط ببصيرته الثاقبة كاميرته على الواقع ليجسد في النص تلك المتناقضات السائدة . فجاء التكرار الذي يتقاطع بلاغيا في تبسيط الاشكالات الموضوعية باتجاهات تأتي مرة متباينة وأخرى متشابهة من حيث الوحدة الحياتية للمعاناة :
1ـ أشياء تسقط في الذاكرة ،
2 ـ أشياء تصعد في الأشياء،
3 ـ أفياء يفضحها النور،
4ـ أشياء تخنقها الظلماء ،
5 ـ أحياء تخنق حتى الشمس
6 ـ أحياء لا تعرف معنى الأفياء .
فالأمر ليس مقصورا على التصفيات العامة بل هناك توجه ، له خصوصيته لاخلاء الساحة ممن يمتلكون قوة الحياة ونشاطاتها الحيوية لبناء الانسان . ان كبت الحريات وقمعها محكوم بالانفجار الذي يصنع حركة التأريخ فما يؤخذ بالقوة يسترد بالقوة ؛ لذا يفتح النص مصراعيه على الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها بعوامل تتفاعل مبدئيا على الاطلاق فيأتي التوكيد اللفظي ( يدق ) في هذا المنحى حيويا نشيطا :
ونسمع ناقوس الموت
يدق
يدق
يدق ..
معلنا التيقظ الحتمي وهو ما يترصده المفكرالسياسي الحاذق في تحليل هذه التناقضات وهو ما يذكرني بتناصه مع ما قاله الشاعر العربي الكبير أحمد شوقي :
وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجــة يـدق
من خلال هذا الدق المتواتر الشامل فتأتي الصورة التي تفارق كل واحد يدرك النتيجة في كل لحظة :
ونفتح تلك الآذان :
اذن ، لا مناص من الخلاص الذي يعيد التوازن لانسانية الانسان الذي يجتهد في بناء سعادته المنشودة .. فكل شيء طاغ ، ولا بد وانه يتحطم على ( السندان) ويرمز فيه الى الواقع :
وانكسرت أضلاع الموت بذاك السندان .
وتلك هي الحقيقة التي جدال فيها ومع أن الاحتواء الثوري قد يأتي سلبا لارادة الانسان في تحقيق هدفه ،لذا فقد أعطى الأسدي المفردة ( يجر ) حركة السحب القسري فعالة كما يجر الكبش :
ثمة كبش فداء في تابوت الموت !
أمـا أنت ،
وأمـا أولاء الخرفان !
وهو ما يشير الى واقع المأساة الذي يتفجر نفسيا في كل لحظة ، فالانسان هو الذي يدفع ثمن ذلك .. فما أصعب هذا الفارق !
وهذا ما نريده من الشاعر أن يضع على الداء أصبع الاتهام صريحا جريئا صلب الارادة في مواجهة الواقع لا خائفا جبانا مخاتلا متقلبا في مزاجه وسلوكياته التي لا يبررها شيء كما تظهر بين آونة وأخرى في الساحة الأدبية ألسنة تلعق القصاع بملاعق ذهبية .. فهل يخجل هؤلاء ؟ فأين تذهبون ؟
يعود الشاعر في ( مواويل محترقة بالمطر ص 85 ) ليؤكد ترابط هذه الصرخات قائلا :
دعني أنــاغيك من قلب بكى قهرا وعانق السهد حتى أزعج القمرا
قفلت بابك حتى الصبر في نبضي لكنه البــاب مل الريــح فانكسرا
لقد خرجنـــا من الظلمــاء في قدر وكيف نخــرج من أهوالنا بشرا
لكن الذي أضعف هذه الصرخات حشد أدوات الاستفهام التي تزيد في التوتر النفسي المتغضن مما يحفز القارىءعلى البحث عن صورة يرتاح فيها بعد أن غمرته الهواجس الجائرة .. فهل وجدها ؟
اتبع الشاعر في ( تأملات في هامات البرق ص19 ) ، أسلوبا جديدا هواما يعرف بالقصيدة المدورة ( لأسباب فنية ـ نصوص ودراسات نقدية / رزاق ابراهيم حسن ) التي تكلف القارىء جهدا نفسيا ولا أحسب هذا النوع من الشعر الا استمرارا للشعر المرسل في محاولة أولى لجميل صدقي الزهاوي عام 1935 ..فهل نجح الأسدي في توظيف الصور بفعالية المتمكن على خوض مثل هكذا من التدوير بنجاح كما فعل الشاعر المبدع حسب الشيخ جعفر وعباس الحسيناوي في قصيدته ( مدينة المتنبي ) ونتساءل : ما هو مركز الثقل في القصيدة ؟ هل كشف عن وحدته الموضوعية برؤية جديدة ؟
لا شك انه يشكل خطورة في ابراز الفكرة من حيث الشكل والمضمون واللغة من خلال الاسترسال الموضعي الذي تحدده نقطة ما . ان الانتقال من صيغة الى أخرى لا يمكن أن تهب النص روحية غضة مالم تتلازم فيما بينها كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ، فاذا كانت القيم متنافرة فأي شيء يدعم بنائية النص ؟
الجديد.. أنه لا جديد ، فما زال القوم يبحثون عن مخرج يعطي للنص هوية واضحة المعالم . فالمحاولات جادة لعلها تنظر ما شاء لها من نظريات كي تتفتح براعم المستقبل على كون بعيد كل البعد عن التراث الأصيل الذي اعتادت الأذن العربية على التفاعل بايقاعه المرن وجماليته البديعة .. وحسبك ما تقرأ ما هو مطروح على قارعة الأدب !
في قصيدة له ( عندما يبلغ السيل الزبى ص 56 ) ثمة وقفة :
ثمة جسر مقطوع في هذا الحي ..
قل كيف سيعبر حلمي الراقد تحت خيول الأهوال !
كان هناك لقاء عام 1969 في بغداد مع الشاعر رشدي العامل كما يذكر الأسدي ، وحين قال له عبارته :" أراهن على أن المستقبل لنا " لم تزل تلك الرؤية قيد التوقع ، فهل تحققت خلال هذه العقود الثلاثة ونيف ؟ وهل تمتد الى أبعد من ذلك ؟ اذن ، كان هناك أمل . وهل تصنع الحياة بيوتوبيا ( فثمة جسر مقطوع ..) لماذا لايكون التفاعل واقعيا ؟ أيخشى سطوته وجبروته ؟ ! كيف تنمو شجرة الحرية اذا لم تسق بالتضحية والفداء ؟ أتنتظر المحارة قطرة السماء ؟ وتشير كلمة ( الحي ) الى الوطن المكبوت في ظلمة القهر والخوف والحرمان .. لكنه يعود متسائلا : كيف سيتحقق الحلم ؟ فيجيبه د. علي الوردي (وعاظ السلاطين ص 207 ) باستنكار مفحم :
" وهذه لعمري حكمة بالغة ، ما أحرانا اليوم أن نعتبر بها ، فنحن نؤيد الاستعمار في قلوبنا ونحاربه بسيوفنا وهذا أمر يؤدي بنا الى التخبط في المظالم ويفت في عضدنا " ويدعم كلمته بما ذكره المرحوم حسن البنــا من طلقة الوعي الفاتكة :
" أخرجوا المستعمر من قلوبكم يخرج من أرضكم "
ويبقى الصراع الأزلي قائما بين الخير والشر والنور والظلمة والحلم والحقيقة ...وهذه الاسقاطات تتواجد في جسد القصيدة الأسدية المشحونة بالتباكي والاغتراب والتحسر والتوجع والاستهزاء والحنق والغضب على خذلان الحق . وفي جانب آخر يتبع المواربة في الفعل مستشرفا الواقع المرير ( ص 64) :
أنظر الآن زرقاء يمامتهم ..
كيف تخفي الحقيقــة
خاف الشجر ؟!
ومع ذلك فان الحق هو الحق وان الباطل هو الباطل وأين تجد من يصغي اليك ؟ فاذا ما نفيت الباطل :
" فالويل لمن كفر في هذا البستان "
ويظهر مدى استهجانه للظروف التي تحاول الحد من تفاعله في سبيل اذكاء روح المجتمع كي يتفتح على معوقات تقدمه وخلاصه من كابوس فقره وقهره :
صحوت ..
واذا يصرخ بي الشعر :
أركض ..
قبل أن ينطفىء الزمن !
فهل ركض الأسدي قبل الانطفاء أم بعده ؟ ذلك ما تتضمنه القصائد من محاولات الطرح الواقعي .
لا شك أن الدكتور الأسدي سيتحفنا في موقعه المحبب ( أنكيدو ) ما تجود به قريحته من شذرات شعرية . كما نأمل منه أن يتحرر من الانغلاق الدائري ليريح نفسه قليلا والقارىء أيضا من هذا التوتر الشديد وانه لقادر على ذلك ؛ فلعل في تغيير مسار الشعر لديه ما يفرزه من معطيات ثرة فيها التفاؤل والانفتاح وأناقة الفنان البارع .