الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأثنين 20 /11/ 2006

 

 

100 عام على رحيل إبسن

مبدع شخصيات نسائية نموذجية *


رضا الظاهر

(1)

في طرف من الطيف النقدي يقف أولئك الذين ينظرون الى هنريك إبسن، الذي تتواصل في العام الحالي احتفالات الأوساط الثقافية في مختلف أنحاء العالم بمناسبة الذكرى المئوية لرحيله، باعتباره نصيراً للنساء ومجسداً لمصائرهن في أعماله الابداعية. ولديهم الكثير مما يعزز وجهة نظرهم.
وفي الطرف الآخر من الطيف يقف أولئك الذين يجادلون بأن اهتمامات الكاتب المسرحي النرويجي، الذي تجلت نزعاته الاشتراكية والتقدمية في مسرحياته، لم تكن نسوية أو سياسية على نحو ضيق، وانما إنسانية على نحو واسع، وهم يستشهدون بخطاب ألقاه في حفل تكريم أقامته له منظمة حقوق النساء النرويجيات يوم 26 أيار عام 1898. وفي الخطاب قال: "لست عضواً في منظمة حقوق النساء النرويجيات. وكل ما كتبته لم يكن بدون أي فكر واع يهدف الى الدعاية. لقد كنت شاعراً أكثر مما يبدو أن الناس يميلون الىالاعتقاد به، وفيلسوفاً اجتماعياً أقل مما يبدو أن الناس يميلون الى الاعتقاد به. أشكركن على التكريم، ولكن يتعين علي أن لا أدعي لنفسي شرف العمل الواعي لصالح حركة حقوق النساء. بل إنني لست على وضوح مما تعنيه حركة حقوق النساء في الواقع. وبالنسبة لي يبدو أن القضية هي قضية الانسانية بشكل عام".
غير أن هذا التعبير ربما يجري فهمه على أفضل نحو على خلفية التحفظ الذي غالباً ما عبر عنه إبسن بشأن انتمائه الى أحزاب أو منظمات من أي نمط كان. وعلى العموم يبدو أنه من غير المثمر اعتبار "القضايا" الثلاث، قضية الاشتراكية وقضية النساء وقضية الانسانية، مقصورة على إبسن. فاهتمامه بشأن حالة الروح الانسانية يتجاوز حدود الطبقة والجندر. غير أن هذا لا يعني القول إنه لم يركز اهتمامه، بين حين وآخر، على وضع النساء كنساء، وإن هذا الاهتمام هو الذي نحاول إضاءة جوانب منه هنا.
وعلى الرغم من خطابه في حفل منظمة حقوق النساء النرويجيات عبر إبسن الشاب عن عدد من الآراء والمواقف التي تؤهله الى أن يحتل موقع "فيلسوف اجتماعي". وفي ملاحظات كتبها عن مسرحيته (بيت الدمية) عام 1878 قال إن "المرأة لا يمكن أن تكون نفسها في مجتمع معاصر، ذلك أنه مجتمع رجالي على وجه الحصر حيث القوانين يصوغها الرجال، وحيث المحامون والقضاة يحكمون على السلوك الأنثوي من وجهة نظر رجالية". وإذ أكد هذه المشاعر، حثّ إبسن، في خطاب له، العام التالي، أمام الجمعية الاسكندنافية في روما، على أن تحتل امرأة منصب أمين المكتبة، وأن تمنح عضوات الجمعية حق الاقتراع في الاجتماعات. بل كان مفعماً بالمعنى السياسي ذلك الدعم الذي أبداه عام 1884 لمطلب حقوق الملكية المستقلة للنساء المتزوجات. وفي توضيحه لماذا يتعين التشاور مع النساء وليس مع الرجال بشأن مشروع قانون ملكية النساء المتزوجات علق إبسن قائلاً إن "التشاور مع الرجال يشبه سؤال الذئاب عما إذا كانوا يرغبون في حماية أفضل للخراف".
ويتمثل العنصر الحاسم لعلاقة إبسن بالنسوية في الدور الذي لعبته النسويات الحقيقيات في حياته وعمله. فقد بدأ تأثيرهن في إطار عائلته مع زوجته سوزانا توريسن إبسن، وزوجة أبيها ماغدالين توريسن، الكاتبة الروائية والمسرحية ومترجمة مسرحيات فرنسية أخرجها إبسن الشاب على المسرح الوطني النرويجي في بيرغن. وربما كانت (المرأة الجديدة) الأولى التي التقى بها نموذجاً لسوزانا، المرأة المستقلة التفكير التي كانت جورج ساند كاتبتها المفضلة. وتركت سوزانا بصمتها على مفهوم إبسن حول بطلات قويات الارادة مثل هجوردس في مسرحية (الاسكندنافيون في هليغلاند) ـ 1858، وسفانهيلد في مسرحية (كوميديا الحب) ـ 1862، ونورا في (بيت الدمية) ـ 1879.
ولكن ربما كانت الروائية والناقدة كاميلا كوليت، التي تعتبر أول وأهم نسوية في النرويج، الأكثر تأثيراً على مواقف إبسن تجاه النساء. فروايتها الواقعية (بنات حاكم المنطقة) ـ 1854، التي هاجمت المؤسسة الاجتماعية التقليدية لتجاهلها مشاعر النساء وتدميرها الملازم للحب، تجد أصداء في مسرحية إبسن (كوميديا الحب). وخلال سبعينات القرن التاسع عشر كان إبسن قد أثار ووسع الحوارات مع كوليت حول قضايا مثل الزواج ودور النساء في المجتمع. ويتجلى احترامه الشديد لها في رسالة كتبها بمناسبة ذكرى ميلادها السبعين عام 1883، وفيها تنبأ بأن نرويج المستقبل ستحمل آثار "عملها الفكري الريادي"، وفي وقت لاحق كتب اليها حول تأثيرها المديد على كتاباته. ولا يمكن أن تكون أية مقدمة لموضوع إبسن والنسوية كاملة من دون ذكر الكيفية التي استقبلت بها أعماله ومواقفه. فسواء اختار المرء أم لم يختر اعتبار عمله نفسه عملاً نسوياً، لا يمكن نكران أن كثيراً منه، وبشكل خاص (بيت الدمية)، كان موضع ترحيب حار من جانب المفكرات النسويات في النرويج وفي أوروبا. وباغلاقها البيت على زوجها وأطفالها فتحت نورا الطريق أمام حركة النساء في منعطف القرن. ولذكر أمثلة قليلة حسب على تأثير المسرحية وصفت جينا كروغ، وهي نسوية نرويجية بارزة في ثمانينات القرن التاسع عشر وأول محررة للمجلة النسوية (نايلاندي)، الدراما وآثارها البناءة باعتبارها معجزة. وأثنت أمالي سكرام، الكاتبة الطبيعية الأولى في النرويج، وأول مؤلفة نرويجية عالجت موضوع جنسانية النساء، على المسرحية دراماتيكياً وسيكولوجياً، ورأت فيها تحذيراً مما يمكن أن يحدث عندما تنهض النساء عموماً ضد المظالم التي ترتكب بحقهن. وكان لـ (بيت الدمية) تأثير كبير، حقاً، على تحسين وضع النساء في الدول الاسكندنافية، كما وثقت ذلك، مثلا، أنّا أغيرهولت في كتابها (تاريخ حركة النساء النرويجية) ـ 1937.
وسنقارب موضوع النسوية في المسرحيات الرئيسية نفسها عبر إلقاء الضوء على موضوعات مثل المعايير المزدوجة، والمؤسسة الاجتماعية والعائلية التقليدية، والنساء المتحررات، ووظيفة الأمومة. ومن الملفت للانتباه أن تجليات الفوارق بين السلوك والشخصيات الذكورية والأنثوية يجري التعبير عنها، مراراً وتكراراً، عبر شخصيات ضيقة، محافظة، منافقة، أو شخصيات غير متعاطفة. ومن أجل ذكر بعض الأمثلة فاننا نجد في مسرحية (أعمدة المجتمع) ـ 1877 أن مدير المدرسة المتزمت والمبتذل رورلوند يقرأ من كتاب (النساء في خدمة المجتمع) لمجموعة من سيدات المدينة المنضويات في جمعية تسمى (الجمعية من أجل الجانحين أخلاقياً)، في محاولة لدعم تكريسهن للخنوع الاجتماعي، في ضوء الرياء والأكاذيب والادعاءات والأنانية التي يقوم عليها المجتمع. وعلى نحو مماثل فان من يخلق هذا التضليل يرى أن النساء مقتنعات بأن يتخذن وضعاً محتشماً إن لم يكن متواضعاً. كما أن تورفالد هيلمر في (بيت الدمية)، الذي يعتبر همه الأشد هو الحفاظ على المظاهر بغض النظر عن الثمن السايكولوجي، ميال الى إعطاء تصريحات حول العجز والحماقة الأنثوية مقابل القوة والدهاء الرجالي.
ويمكننا أن نجد مثالاً فظاً على المعايير المزدوجة في مسرحية (الأشباح) ـ 1881، حيث القس ماندرز يعبر عن الاستهجان ليوهانا، خادمة عائلة ألفنغ السابقة باعتبارها امرأة ساقطة، ولكنه يسخر من تشخيص السيدة ألفنغ لزوجها المريض باعتباره رجلاً ساقطاً. وما دامت وجهات النظر هذه يجري التعبير عنها من جانب رجل يصدمه أي تلميح للتفكير الحر، والذي كان ولاؤه الراسخ للمباديء قد أعاد، ذات مرة، السيدة ألفنغ الى زوجها المنغمس في الملذات، وبذلك دمر حياتها، فانه ليس من الصعب الاستدلال على موقف إبسن منهم. وفي ضوء شخصيات مثل هذه فإنه ليس من المدهش أن تحتوي المسرحيات الرئيسية على تصوير واسع واحد فقط لزواج سليم نسبياً، وهو الزواج بين آل ستوكمان في مسرحية (عدو الشعب) ـ 1882. وحتى هذا التصوير يظهر السيدة ستوكمان مرتابة بمثالية زوجها.
وإذا ما أخذنا بالحسبان حساسية إبسن تجاه القضايا النسوية، فانه ليس مما يثير الدهشة أنه غالباً ما تلقى الثناء على خلقه الشخصيات النسائية. ويعتبر تقييم جيمس جويس عام 1900 نموذجياً في هذا الشأن: "معرفة إبسن بالانسانية ليست أكثر وضوحاً مما هي عليه في تصويره للنساء. إنه يدهش المرء باستبطانه الموجع. ويبدو أنه يعرف النساء على نحو أفضل مما يعرفن أنفسهن. وإذا كان للمرء، في الواقع، أن يقول هذا عن رجل يتميز بخصائص رجولية فإن هناك مزيجاً غريباً من المرأة في طبيعته". وعلى الرغم من أن أغلبية أبطال إبسن هم من الرجال، فإن بعضاً من أشهر وأبرز شخصياته هن من النساء مثل نورا هيلمر، وهيلين ألفنغ، وربيكا ويست، وهيدا غابلر. وتتحدث الممثلة الأميركية إليزابيث روبنز باسم كل الممثلات في منعطف القرن العشرين عندما تقول بأنه "ما من كاتب مسرحي يعني الكثير بالنسبة لنساء المسرح كما هو الحال مع هنريك إبسن". وقد استمرت قوة أدواره النسائية على اجتذاب أفضل الممثلات حتى يومنا هذا.
وفي ما يتعلق بموضوعة النساء المتحررات نسب الى إبسن، على نطاق واسع، الابتكار الفعلي للمرأة المتحررة في الفصل الأخير من (بيت الدمية). وبسبب أن تحقيق نورا لذاتها يظهر متأخراً جداً في المسرحية، فاننا سنركز هنا على أربع شخصيات أخرى قد ينظر إليهن، بدرجات متفاوتة، كنساء متحررات: لونا هيسل في (أعمدة المجتمع)، وبيترا ستوكمان في (عدو الشعب)، وربيكا ويست في (روزمرشولم) ـ 1886، وهيلده فانغل في (البنّاء العظيم) ـ 1892.
وتتميز هذه الشخصيات برفضها للتقسيم الصارم بين السلوك الذكوري والأنثوي التقليدي، وتحررها من الرياء الذي غالبا ما يصاحب الابقاء على الوضع الراهن. وتنعكس حالتها التحررية في مظهرها ولغتها وسلوكها، وهو ما نجد مثالاً عليه في شخصية لونا هيسل في (أعمدة المجتمع) وربيكا ويست في (روزمرشولم) وإليدا فانغل في (حورية البحر) ـ 1888.
والسمة الأخرى الدالة على تحرر هذه الشخصيات النسائية هي مستواهن التعليمي العالي. فتأليف لونا لكتاب يكشف عن هذه الحقيقة. وبيترا ستوكمان معلمة تظهر أولا على المسرح مع مجموعة من الكتب المدرسية تحت ذراعها لتعبر عن الولع الخاص بعملها. أما ربيكا، التي تلقت تعليمها الى حد كبير في البيت على يد والدها بالتبني، فتقرأ الصحف الراديكالية في محاولة لمواكبة التطورات الجديدة وتتبادل الكتب والأفكار مع روزمر. ومن الأهمية بمكان أنها هي التي تبادر في محاولة مساعدة الكاتب الثوري الفقير أولريك بريندل عبر الطلب من الصحفي الراديكالي بيتر مورتنسغارد للمجيء بهدف مساعدته. وشخصية ربيكا ويست، التي قيل إنها كانت بإلهام من ماغدالين توريسن، تتلقى الثناء عليها من جانب النسويات. وقد رأت جينا كروغ إن "خلاص المستقبل" يتجلي في (روزمرشولم): ثقة إبسن بالنساء، بنساء بلاده، لم يجر التعبير عنها، أبداً، بفخر كما هو الحال هنا".
وفي مواصلتهن ميولهن التحررية تؤدي هذه الشخصيات، على نحو نموذجي، دور فضح الأكاذيب التي تظلل حياة الشخصيات الأخرى. وبيترا، الشابة المتحررة التفكير التي ترفض ترجمة قصة لأنها تدافع عن المعتقدات التقليدية، تشعر بنفور من النظام المدرسي الذي يتطلب منها أن تقوم بتعليم أشياء لا تعتقد بها، وتعلن أنها تفضل إقامة مدرسة بنفسها لو أنها امتلكت الوسائل. وهي تدعم، كلية، فكرة والدها للكشف عن التلوث الذي يصيب الحمامات المحلية، ومثله تخضع الرفاه الخاص لعائلتهما الى الالتزام بالحقيقة والمباديء والرفاه العام.
وشأن مفهوم ربيكا ويست، فإن مفهوم لونا هيسل كانت تلهمه معاصرة نسوية حقيقية لإبسن هي أستالا هانستين. وهذه المرأة، التي تتخذ من رسم البورتريهات مهنة، والمطالبة التي لا يشق لها غبار بحق النساء في الاقتراع، حققت شهرتها عام 1874 عبر دعم قضية بارونة سويدية زعمت أنها تعرضت الى إغراء من جانب طالب طب نرويجي، حيث طرحت قضية البارونة باعتبارها قضية تخص كل النساء. وفي جدالها لصالح طرد الطالب في مقالات وخطابات ومظاهرات، أفلحت هانستين في إبعاد نفسها عن رياء المجتمع. وكان إبسن متعاطفاً مع هانستين، وأقلقه مصيرها على يد الصحافة والجمهور. وربما يعتبر تأثيرها على مسرحية (أعمدة المجتمع) أكثر وضوحاً في ملاحظات لونا الى بيرنك حول التعامل مع النساء، سواء من جانبه أو من جانب المجتمع عموماً. وعندما يتذمر بيرنك من أن زوجته بيتي لم تكن أياً مما كان يحتاجه، تجابهه لونا قائلة: "ذلك لأنك لم تشاركها اهتماماتك. ولأنك لم تكن صريحاً معها في كل تعاملاتك. ولأنك أبقيتها في ظل العار الذي أثقلت به عائلتها".
وتشترك هذه الشخصيات النسائية الأربع في الكثير من الخصائص مع "المرأة الجديدة"، وهو النموذج الأدبي الذي ازدهر، قبل كل شيء، في الرواية الفكتورية في تسعينات القرن التاسع عشر. وتقيم المرأة الجديدة، نموذجياً، الانجاز الذاتي والاستقلالية بدلاً من المثال الأنثوي المقولب للتضحية بالذات، وتؤمن بالمساواة القانونية والجنسية، وهي أكثر انفتاحاً بشأن جنسانيتها من "المرأة القديمة"، وهي ذات تعليم جيد، وتقرأ كثيراً، ولديها مهنة، وهي نشطة جسدياً، وتفضل الملابس المريحة على الزي النسائي التقليدي. غير أنه بينما كانت شخصيات إبسن النسائية المتحررة مؤثرة في مفهوم المرأة الجديدة، لم يكن متماثلات بالكامل مع هذا النموذج. إن الاعتراف بمؤهلاتهن لتحريرهن هام بالنسبة لفهم موقف إبسن من النسوية.
وإذا ما دققنا النظر في الشخصيات التي جرت مناقشتها أعلاه، نرى أن جميع الأربع يجري تعريفهن، في نهاية المطاف، في إطار الشخصيات الذكورية. فعلى الرغم من شخصية لونا هيسل وقوة تفكيرها واستقلاليتها فانها تخبر بيرنك بأنها عادت من حياتها الجديدة في أميركا بسبب مشاعرها نحوه، ولكي تساعده على إعادة تأسيس نفسه على أساس صادق. وعبر مسرحية (عدو الشعب) تصاغ آراء بيترا ستوكمان من خلال آراء أبيها، وهو تأثير أكدته الكلمة الأخيرة في الدراما: "الستارة تنسدل بينما تمسك بيترا بيدي توماس ستوكمان وهي تقول مندهشة: يا أبي !"
وحتى ربيكا ويست، التي تعتبرها النسويات المعاصرات بطلة لهن، تكشف عن نفسها باعتبارها متجهة، من دون ريب، الى الرجال. فعندما يقول كرول صهر روزمر (مشيراً الى بقائها مع روزمر) : "أنت تعرفين ... هناك شيء رائع نوعاً ما بشأن ذلك. امرأة تتخلى عن أفضل سنوات شبابها وتضحي بها من أجل الآخرين"، تجيب ربيكا: "ما الذي غير ذلك كان بوسعي العيش من أجله ؟". وتتركز رؤاها في تمجيد الانسانية على روزمر، موضوع حبها، بدلاً من نفسها. وعندما يسألها روزمر في نهاية المسرحية عن الكيفية التي تكون فيها الأشياء بالنسبة لها كما تراها، تجيب إن ذلك ليس هاماً. ويعلق كرول بأن ما تسميه تحررها هو ليس سوى شيء مجرد. وفي هذا الاطار يأتي اعترافها بأنها عندما وصلت سن الخامسة والعشرين بدأت تسقط سنة من عمرها المعترف به، طالما أنها كانت تشعر بأنها بدأت تصبح أكبر قليلاً بحيث لا يمكنها أن تبقى بدون زواج.
كما أن ربيكا ويست أنثوية، على نحو نمطي، في إغرائها، وميلها الى استخدام جاذبيتها لاستغلال الآخرين. ويتهمها كرول، الذي يقول "مَنْ هناك من لا تستطيعين أن تخلبي لبه إذا ما حاولت ؟"، باستخدام افتتانه السابق بها من أجل الحصول على مدخل الى روزمرشولم. ويسميها بريندل "حوريتي الصغيرة الفاتنة" في تحذير روزمر من الاعتماد عليها في تحقيق أهدافه.
إن دراسة الشخصيات المعقدة للونا هيسل وبيترا ستوكمان وربيكا ريست وهيلده فانغل تلقي ضوءاً جديداً على ملاحظة إبسن من أن المرأة لا يمكن أن تكون نفسها في المجتمع المعاصر. وعبر هذه الشخصيات الدراماتيكية القوية يشير إبسن الى أنه حتى بالنسبة للنساء المتحررات جزئياً فان طبيعة الهيمنة الرجالية التي يتسم بها مجتمعه، والتي تؤثر على تفكيرهن منذ الولادة، تقف في طريق استقلاليتهن الكاملة. ويتعزز هذا الاعتقاد من خلال التصوير المتعدد للأمومة، الفعلية أو المجازية، في مسرحياته النثرية الرئيسية.
وهذا الرأي يلقي ضوءاً جديداً على ادعاء إبسن في سنواته الأخيرة من أن " النساء هن اللواتي يقدر لهن حل المشكلة الاجتماعية". وقد تقف مسرحية (حورية البحر) باعتبارها الكلمة الأخيرة بشأن مسألة إبسن والنسوية. ذلك أنها تبدو بقدر ما تعكس اتجاه نموذج (بيت الدمية)، فانها لا تعرض النساء مع الخيار بين الأمومة و"الأمومة الجديدة" المعزولة، وإنما بدلاً من ذلك تدافع بقوة عن حق النساء في اختيار مصيرهن، وممارسة أدوارهن كما يرغبن. وبدعم الاعتقاد بأن عقل المرأة وجسدها يعودان إليها لتتحكم بهما كما تشاء، فإن إبداعات إبسن تجعله حليفاً للمفكرات النسويات لا في عصره حسب، وإنما في عصرنا أيضاً.

(2)

يعكس تجسيد إبسن للنساء "المعركة الطاحنة" بين القديم والحديث لأنه يرفض واقع تبعية النساء للرجال، المستمرة منذ قرون في كل الثقافات. إن وضع النساء الثانوي هو مثال على ما يسميه السوسيولوجيون "اللامساواة الدائمة"، حيث تنسب جماعة باعتبارها تابعة طبيعياً لجماعة أخرى بسبب العرق أو الطبقة أو الجنس أو الدين أو القومية أو سمات أخرى تتحدد منذ الولادة. ويضفى طابع الشرعية على العلاقة غير المتساوية بين الجماعتين المهيمنة والتابعة بجعلها جزءاً من "القوانين الطبيعية" للمجتمع، مثل مكان المرأة في البيت ومكان الرجل في العالم. وهذا تجسيد لجوهر النظام البطرياركي الذي يسعى الى تأبيد تبعية النساء.
وبسبب أن سايكولوجيا العلاقات غير المتساوية على نحو دائم تتطلب أن يخلق التابعون مزايا شخصية مسلية للجماعة المهيمنة ـ الخضوع، السلبية، الافتقار الى المبادرة ـ فان التابعين يرغمون على التصرف بطرق مكتومة أو غير مباشرة. وفي (بيت الدمية) تؤدي نورا دور المغفلة وتنقذ حياة زوجها بدون معرفته. وفي (الأشباح) تدير امرأة الأعمال غير العملية المسز ألفنغ أملاك زوجها. وفي (هيدا غابلر) ـ 1890 تلعب هيدا دور البرجوازية المقتنعة وتتآمر سراً لجلب شيء من المعنى لحياتها. وفي (عندما نستيقظ نحن الموتى) ـ 1899 تتظاهر إيرين بأنها تعتنق هويتها التي تقدم الخدمات باعتبارها مصدر تسلية لروبيك. وما دام التابعون يتكيفون، أو يبدون متكيفين، لوجهة نظر المهيمنين، فانهم يعتبرون منضبطين بصورة جيدة. وعندما لا يفعلون ذلك، ويتمردون، فإنهم يعتبرون غير طبيعيين: حكم تورفالد على مغادرة نورا العائلة في (بيت الدمية)، وحكم ماندرز على مغادرة المسز ألفنغ زوجها في (الأشباح)، وحكم فانغل على استقلالية إيليدا عنه في (حورية البحر)، وحكم روبيك على رفض إيرين تكرار خدمتها له في (عندما نستيقظ نحن الموتى).
وغالباً ما يعرف التابعون عن المهيمنين أكثر مما يعرف الأخيرون عنهم: فنورا تعرف كيف تروض تورفالد عبر إطراء ذاته، والمسز ألفنغ تدرك مكر العالم الأخلاقي للقس ماندرز، وهيدا تدرك وتزدري تفاهة آل تيسمان، وإيرين تعرف ذات روبيك المتضخمة. وعلى النقيض من ذلك فان تورفالد لا يعرف زوجته الداهية، وماندرز يصدم عندما تواجهه المسز ألفنغ بمفاهيمها الليبرالية، ولا يمتلك آل تيسمان أية فكرة طفيفة عن يأس هيدا، وروبيك غير واع بمعاناة إيرين. كما أن التابعين يعرفون عن المهيمنين أكثر مما يعرف هؤلاء عن أنفسهم، ذلك أنه إذا ما اعتمد مصير امريء على إمتاع الآخرين، فانه لن يكون هناك الكثير من المبرر في معرفة المرء نفسه.
وما هو ضمني في مفهوم اللامساواة الدائمة للمرأة هو أنها وسيلة أكثر منها مستقلة، وأن غرضها ليس أن تكون بل أن تخدم. ومن (كاتلاين) ـ 1850 حتى (عندما نستيقظ نحن الموتى) يعبر أبسن بطريقة مسرحية متناغمة عما سماه السوسيولوجي الألماني جورج سيميل "تراجيديا المرأة" في التاريخ، حيث النساء "يعاملن ويقيمن باعتبارهن أدوات". وتهاجم مسرحيات إبسن آيديولوجيا المرأة باعتبارها الجنس الخادم عبر سخرية مباشرة، من خلال التصوير المنتقص للرجال الذين يعتبرون عبودية النساء جزءاً من العلاقة الطبيعية بين الجنسين، وعبر تصوير المرأة كضحية في المسرحيات التي تركز على المرأة، وعبر تثبيت قيمة المرأة المستقلة مقابل المرأة الهدامة، في المسرحيات التي تركز على الرجل، وغالباً ما تتداخل النماذج وتظهر سوية في المسرحية ذاتها.
وتشكل السخرية المباشرة من دور النساء في الخدمة جوهر (كوميديا الحب) في إصرار فالك العنيد على أن مهمة سفانهيلد كامرأة هي خدمته كمصدر وحي، و(أعمدة المجتمع) في قراءة رورلوند، مدير المدرسة المتزمت، لسيدات المدينة من (المرأة كخادم للمجتمع)، و(البطة البرية) ـ 1884 في انشغال هجالمار في أن تجري خدمته من جانب زوجه وابنته، و(حورية البحر) في ملاحظات لينغستراند الساذج المبتذلة حول قدر المرأة السعيد باعتبارها مساعدة لرجل متفوق، و(هيدا غابلر) في خدمة ثيا في أعمال السكرتارية للوفبورغ وتيسمان وفي تضحيات العمة جولي المفرطة لابن أخيها المدلل.
والشخصيات الرجالية الرئيسية في (براند) ـ 1886 و(بيت الدمية) مدافعة شديدة عن عبودية المرأة باعتبارها نتيجة طبيعية ومتوافقة عاطفياً مع جنسها. فبراند يضفي طابع الشعر على دور المرأة باعتباره استراحة المحارب في محاضرته العاطفية لأغنس عن مهمتها النسائية. كما يحاضر تورفالد لنورا حول مبرر خدمتها من أجل الحياة: "واجباتك تجاه زوجك وأطفالك". ويظهر مستخدمون للنساء بذهنية أقل تنظيراً في مسرحيات (بيتر غينت) ـ 1867 و(أعمدة المجتمع) و(البنّاء العظيم) و(إيولف الصغير) ـ 1894 و(جون غابرييل بوركمان) ـ 1896 و(عندما نستيقظ نحن الموتى). ولا يمنح بيرنيك لسولفيغ أي مبرر لعبوديتها، ولكنه مع ذلك يفرضها. وإذ يبقيها محتجزة بينما يجول في مختلف أنحاء العالم، فانه يعود لمطالبتها بإنقاذه من نفسه. وفي (أعمدة المجتمع) و (جون غابرييل بوركمان) تلبي النساء يلبين حاجات أكثر ابتذالاً: فبيرنك يتخلى عن خطيبته المعدمة ليتزوج وريثة أرباح "بيرنك أند كومباني". وبوركمان يتاجر بزوجته من أجل سلطة المال. وفي (البنّاء العظيم) و(إيولف الصغير) نجد النساء كمساند عاطفية وكذلك مالية للرجال الطموحين: فسولنيس يستخدم ملكية زوجته كاجا وافتتانها به باعتبارها موجودات مشاريع تجارية، ويستولي بلهفة على هيلده باعتبارها ملهمته لانجاز أعظم. وأولمرز يتزوج ريتا من أجل المال الذي يمنحه وقت الفراغ اللازم لتأليف كتاب ويستخدم إعجاب أستا الشديد به كموازن لغروره. وفي (عندما نستيقظ نحن الموتى) يؤكد روبيك لإيرين أهميتها بالنسبة له بكلمات تغيب عنه أهميتها لخدمة ذاته: "استطعت أن استخدمك لكل شيء كنت بحاجة اليه".
وتحتج مسرحيات إبسن التي تركز على مثلث النساء على عبودية النساء عبر حبكة التضحية في الزواج القسري. فمارغيت في (الوليمة في سولهوغ) ـ 1956، وسانهيلد في (كوميديا الحب)، والمسز ألفنغ في (الأشباح) يتزوجن رجالاً موسرين انطلاقاً من الواجب العائلي. أما هجوردس في (الاسكندنافيون في هلغيلاند) فتحب رجلاً يهبها لآخر. وإيليدا في (حورية البحر) وهيدا غابلر تتزوجان من أجل الأمان المالي. وعواقب هذه الزيجات تمتد من الخيبة الجنسية والعاطفية لمارغيت، ورفض سانهيلد الكئيبة الاعلان عن خطوبتها، الى التعاسة العامة لحالات الموت المتعددة في (الاسكندنافيون في هلغيلاند)، حتى بؤس المسز ألفنغ والارث القاتل للإبن، والمرض العاطفي لايليدا فانغل، ويأس هيدا غابلر.
وفي المثلث الابسني الآخر، أي مثلث الرجل المطوق بامرأة قوية وضعيفة، يكمن التحدي لخدمة المرأة في معارضة المرأة لاحباطها السلبي المرتبط بالرجل. ففي (كاتلاين) و(فايكنغ) و(أعمدة المجتمع) تعيش الخانعات أوريليا وداغني وبيتي فقط من أجل علاقتهن برجل، بينما المنتقمة نوريا، والمحاربة هجوردس، والكاتبة لونا لديهن أهداف أخرى. وفي مسرحية (هيدا غابلر) تعيش ثيا أولاً من أجل انجازات لوفبورغ، ومن ثم من أجل إعادة بناء تيسمان لها، بينما تفضل هيدا أن تقتل نفسها على أن تبقى زوجة لتيسمان. وفي (إيولف الصغير) تعيش أستا أولاً من أجل انجازات ألفريد ثم انجازات بورغهايم، بينما ستعيش ريتا من أجل هدف مسؤول. وفي (البناء العظيم) تؤذي ألاين نفسها بسبب فشلها في هدف حياتها كزوجة لسولنيس وأم أطفالهما، بينما هيلدا تلهم سولنيس الارتقاء الذي يدمره بإنجازها. وفي (عندما نستيقظ نحن الموتى) تعرّف ماجا الحرية باعتبارها الخيار الذي يمنحه روبيك لها لكي تستبدله برجل آخر، بينما تتمرد إيلين على استخدام روبيك لها.
وبسبب أن المرأة النشطة في المثلث تظهر قوة فردية فانها توصف تقليدياً باعتبارها "مسترجلة"، بينما نقيضها السلبي المتماثل مع الرجل يوصف بـ "الأنثوي". وتعني مقارنة الذكوري بالأنثوي في الجنس ذاته، ضمناً، نكران ثنائية الجندر. والنقطة الأكثر أهمية هي أن التضاد بين المرأتين يعكس رفض إبسن الشديد للحكمة التقليدية من أرسطو الى روسو وحتى فرويد من أن "أحد الجنسين يجب أن يكون فاعلاً وقوياً، والآخر سلبياً وضعيفاً"، وأن "المزايا الأساسية للرجال والنساء، التي تعتبر مقدسة لأنها طبيعية، هي الشجاعة والقوة بالنسبة للرجال، وفن الابهاج والخضوع بالنسبة للنساء". ورفض إبسن لإنسانية مجندرة ثنائياً يجعله رائداً لما سماه الروائي البريطاني جورج غيسنغ "الفوضى الجنسية" التي هيمنت على أدب العقدين الأخيرين للقرن التاسع عشر. إن بروز التساؤل عما يعنيه "له" و"لها"، مرة أخرى بحدة في نهاية القرن العشرين، يجعل من إبسن ليس فقط المبشر بالفوضى الجنسية الحداثية وإنما ما بعد الحداثية أيضاً.
والمثال الأبسط على رفض إبسن للجندر الثنائي هو عدد الشخصيات الثنائية الجنس في مسرحياته. ومن الناحية التقليدية فأن يكون المرء ذكراً يعني أن يكون فظاً، مغامراً، طموحاً، محللاً، حاسماً، ذكياً، مادياً، واثقاً من نفسه، جنسياً، قوياً، ناجحاً، وخبيراً بالحياة والناس. وأن يكون أنثى يعني أن تكون متعاونة، معبرة، تركز على البيت والعائلة، رقيقة، مساعدة، ميالة الى الحدس، ساذجة، مربية، حساسة، متعاطفة، شفافة، وضعيفة. وأول شخصية ثنائية الجنس في مسرحيات إبسن هي شخصيته النسائية الأولى فوريا، وهي فظّة ومغامرة وحاسمة وواثقة من نفسها. والثانية هي مارغيت التي لديها سمات مماثلة. وتقول بطلة مسرحية (الليدي إنغر من أوسترات) ـ 1855 التي تشارك في الميادين الرجالية للحرب والسياسة إنها رجل أكثر من الرجال الذين يلاحقونها. وهجوردس، بطلة (الاسكندنافيون في هليغلاند) هي امرأة محاربة، وهي حاسمة وواثقة من نفسها وتتمتع بطاقة لا حدود لها. ومشاركة هجوردس وإنغر في العالم الذكوري تؤكد رسالة تفجع هجوردس على جنسها: "إمرأة ! إمرأة ! آه، ما من أحد يعرف ما تقدر عليه المرأة !". ولونا هيسل، الشخصية التي تعبر عن رأي المؤلف في (أعمدة المجتمع)، مغامرة وحاسمة وذكية وواثقة من نفسها وقوية وناجحة. وفي (بيت الدمية) تعرض فكرة تورفالد عن نفسه كرجل قوي البنية وراسخ الايمان باعتبارها خداعاً للذات عبر رد فعله الهستيري على أنباء تزوير نورا. وفي (الأشباح) فان المسز ألفنغ هي المديرة الناجحة، والقس ماندرز، الذي صور نفسه باعتباره رجل أعمال قوياً يجري ابتزازه بسهولة باحتيال واضح. وفي (عدو الشعب) يعتقد الدكتور ستوكمان الساذج إنه عندما تقال الحقيقة للناس فان الحق سيحقق فوزاً في المباراة، بينما زوجته الواعية تعرف الأمور بصورة أفضل. وفي (البطة البرية) نرى غريغرز وهجالمر ضعيفين ومبالغين في عواطفهما، بينما جينا وبيرتا قويتان وعمليتان، وأن جينا، وليس هجالمر، هي معيلة العائلة. وفي (إيولف الصغير) تكشف ريتا القوية المحللة مواقف زوجها الضعيف الأناني. وفي (روزمرشولم) و(إيولف الصغير) يتناقض عجز روزمر وأولمرز بشدة مع جنسانية ربيكا وريتا. وفي (هيدا غابلر) يتسكع تيسمان، المحب للحياة المنزلية، بنعاله، بينما الفارسة هيدا تنطلق بالحصان وهي تطلق النار من مسدسها، تواقة الى الهرب من سجنها كامرأة في البيت والعائلة.
وتعكس شخصيات إبسن الثنائية الجنس تحديه للاستقطاب الجنسي الذي ميز البطرياركية منذ بدايتها. وتجسد مسرحيات إبسن الشخصية المنقسمة للعلاقة بين الجنسين بكل خللها. إن الاستقطاب الجنسي للحياة وتفوق المجال الذكوري يجري تحديهما عبر صور الرجال المضلَّلين في (الاسكندنافيون في هليغيلاند) و(المدّعون) ـ 1863 و(براند) الذين يشوهون سمعة النساء باسم عالمهم الرجالي.
وترفض (بيت الدمية) فكرة الطبيعة الذكورية والأنثوية المستقطبة بتحديها لآيديولوجيا "المجالين" في القرن التاسع عشر، فكرة أن ضعف المرأة وعاطفيتها تجعل من البيت قصرها الطبيعي حسب تعبير المؤرخ الاجتماعي الأميركي بيتر غاي، بينما قوة واحساس الرجل بالتفوق تضعه في العالم الخارجي العام.
وتتحدى مسرحيات (البناء العظيم) و(إيولف الصغير) و(جون غابرييل بوركمان) و(عندما نستيقظ نحن الموتى) فكرة عالم الجندر الثنائي عبر تجسيد شخصيات تعتنقها بصورة صادقة. فالأزواج في هذه المسرحيات هم صور استحواذية لرجال ونساء تستغرقهم هوياتهم الذكورية والأنثوية، حيث الرجال يحكمون على أنفسهم عبر إنجازاتهم والنساء يحكمن على أنفسهن عبر نجاحهن كحبيبات أو زوجات أو أمهات.
وبينما يسعى مكافحو إبسن من الرجال الى تحقيق دورهم الذكوري، فان مكافحاته من النساء يصارعن ضد دورهن الأنثوي. وفي هذا فان المرأة في دراما إبسن هي شخصية حديثة بطريقة لا يستطيع أن يكونها الرجل. وفي (سوسيولوجيا الدراما الحديثة) يشير لوكاتش الى فكرة "الاستقلالية" التي تحدت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر النماذج التراتبية القائمة عبر تأبيد الصراعات في "علاقة الأعلى بالأدنى، أي السيد بالخادم والزوج بالزوجة والوالدان بالأطفال". إن الدراما الحديثة هي، بالضرورة، "دراما الفردانية". والمرأة كفرد مستقل في مسرحيات إبسن هي فرد بالمعنى الحداثي للوكاتش. فهي تتمرد على مكانة التبعية المفروضة عليها. أما الرجل الابسني الداعي الى الفردانية فيتمرد ضد النظام السائد ولكن استقلاليته مفترضة. وينتمي مكافحو إبسن الرجال الى التقليد الأدبي الغربي الذي يمتد من المتمرد البروميثيوسي الى المتمرد النيتشوي، بينما مكافحاته النساء يجسدن الكفاح الحداثي في سبيل الهروب من سجن الجندر.
إن نموذج إبسن المتكرر لصراع المرأة بين هويتها الموصوفة واستقلالها الفردي، أي ما يطلب المجتمع منها ما يجب أن تكونه وما هي حرة لأن تكونه، إن هذا النموذج يجسد الوجهين الايجابي والسلبي للحديث باعتباره مضاداً للتقليدي: الحرية والحرمان، والحاضر الحي والماضي الميت. وتتنبأ صراعات إبسن المتعلقة بالنساء المتمردات في مسرحياته الأولى بصراعات متمردات إبسن اللاحقات المعروفات بصورة أكبر. فإنغر يجب أن تختار بين الولاءات الشخصية والسياسية، ومارغيت تثور ضد زواجها المفروض عليها كواجب. وهجوردس تحتج على تعامل سيغورد معها كشيء من ممتلكاته.
وفي (أعمدة المجتمع) تصبح نساء إبسن الفردانيات مهاجمات بصورة مباشرة للمعتقدات القائمة ذلك أنهن يواجهن بصراحة الأفكار المعترف بها التي ترفض استقلاليتهن. وبرفضها السلوك الأنثوي الذي يفرضه المجتمع تجسد لونا هيسل الناحية الايجابية من الحديث، أي الحرية والحاضر الحي. إن توجيه النقد القاسي إليها من جانب المواطنين الطيبين هو مثال رائع على ملاحظات برانديس بشأن الأنثوية المفروضة في مقدمة ترجمته لكتاب جون ستيوارت ميل (استعباد النساء): "نحن نعامل أرواح نسائنا بالطريقة ذاتها التي يعامل بها الصينيون أقدام نسائهم. مثل الصينيين نحن نفعل ذلك باسم الجمال والأنوثة. فالمرأة التي تنمو أقدامها بصورة حرة وصحية تبدو فاقدة للأنوثة وقبيحة بالنسبة للصيني. وفي صيننا الصغيرة البرجوازية فان المرأة التي تتطور بحرية تبدو مشوهة على نحو قبيح وفاقدة للأنوثة". وتزدري لونا هيسل الضالّة أعمدة المجتمع السائدة التي يمكن أن تستبدلها بأعمدة جديدة: روح الحقيقة وروح الحرية.
أما تجربة نورا هيلمر، وريثة لونا هيسل، فتجسد، أيضاً، الناحية الايجابية للحديث كمضاد للتقليدي. فنورا تعرف أن رأي تورفالد بأنها قبل كل شيء زوجة وأم يعكس ما تقوله الأغلبية، وما هو مكتوب في الكتب، وما يجري تعلمه في المؤسسات التقليدية. وبرفضها هذه الآيديولوجية فإنها تتمرد على الرأي الذي يشترك فيه الناس العاديون، ورأي المثقفين، والسلطة الاجتماعية التي ترى أنها وجدت على الأرض لكي تخدم الآخرين.
وأما مسرحية (الأشباح) فربما تعتبر أفضل من أي عمل أدبي آخر في الكشف عن الوجه السلبي للحداثة: تضليل الحرمان والماضي الميت. وتجسد هذه المسرحية، التي تعتبر واحدة من الدراسات في أدب خضوع المرأة للسلطة، تراجيديا جبن هيلين ألفنغ.
وفي (حورية البحر) تتأقلم المرأة لعالم الرجل. ولكن إذا كانت الحبكة الرئيسية في هذه المسرحية تجسد الوجه الايجابي للحداثة فان الحبكة الثانوية تجسد الوجه السلبي. أما (هيدا غابلر) فتجسد وجهي الحداثة داخل شخصية واحدة.
وتصور صراعات نساء أبسن في عالم يحرمهن من الحياة الانسانية الكاملة معركة بين التعاليم والمباديء البالية والنبضات المتمردة لبداية عالم جديد يولد. وكان إبسن من ذلك النمط من العباقرة السابقين لعصرهم لأنه، ببساطة، رأى المستقبل في الحاضر. فنساء أواخر القرن التاسع عشر، اللواتي كافحن ضد الافتراضات الموغلة بالقدم، هن التجسيد الأشمل لحداثة إبسن.

* نشر الموضوع في جريدة طريق الشعب يومي الاحد 19 والأثنين 20/11/ 2006