الصفحة الثقافية
الثلاثاء 20/3/ 2007
هادي الصكر.. تخطيطات عام 1962
جميل الشبيبي
jamilalshibibi@yahoo.com
كنا في الصف الأخير من المرحلة الإعدادية (الخامس الإعدادي) عندما اقتادونا جماعات وفرادى إلى مديرية الأمن في العشار ثم أوقفونا في مركز شرطة البصرة مع مجموعة من الموقوفين الشيوعيين أوائل نيسان من عام 1962. كان ذلك اثر مظاهرة طلابية انتصارا للثورة الجزائرية التي كانت على وشك الحصول على الاستقلال وكانت الشعارات التي يرددها الطلاب مختلفة : بعض الطلاب يهتفون لحرية الجزائر واستقلالها وبعضهم يرددون هتافات بعروبة الجزائر ، أدى ذلك إلى مصادمات بالأيدي استغلتها مديرية امن البصرة فأوقفت أعدادا كبيرة من طلاب الثانوية ثلاثة أشهر. كان عدد الموقوفين يتجاوز المائة والثلاثين موقوفا محشورين في قاووش لايتجاوز طوله 8 أمتار وعرضه 4 أمتار ولمدة ثلاثة أشهر. وإذا كانت أعمارنا لا تتجاوز العشرين عاما فقد تعرفنا على نخبة من السياسيين الذين يمتلكون تجربة في العمل السياسي كانوا موقوفين قبلنا ، اما مجموعتنا فقد ضمت أسماء توارت أجسامها تحت سماء المدينة أو غيبتها المدن العراقية او الأجنبية من تلك الأسماء :عبد الله عبيد الذي بقي مخلصا لمبادئه حاملا أحلامه النبيلة معه مغتربا عن وطنه حتى وفاته في الغربة قبل سقوط نظام الاستبداد ، وعبد اللطيف صالح الذي حصل على شهادة الدكتوراه في المسرح في المنفى ولابد انه اخرج مسرحيات في الغربة لم يتسن لنا مشاهدتها، وعندما جاء في عام 2005 إلى مدينة البصرة مدعوا لمهرجان المربد كانت عيناه تدمعان وهو يتعرف بالكاد على أصدقائه ومعارفه. وبين هؤلاء الموقوفين كان الرسام هادي الصكر هادئا مشغولا برسومه وتخطيطاته وسط احترام الجميع وتقديرهم لموهبته.
التخطيطات التي أتناولها هنا هي تخطيطات طالب في المرحلة الإعدادية كان يشترك في المعارض المدرسية التي تقيمها مديرية تربية البصرة آنذاك فيفوز دائما بالجائزة الأولى فيها. وكانت تلك المعارض مجالا حقيقيا لاكتشاف المواهب الفنية وقد تخرج فيها معظم الفنانين البصريين .أمثال سلمان البصري عجيل مزهر ، صلاح جياد ، فيصل لعيبي وغيرهم فهي إذن تمثل طفولة فنية لهذا الفنان وهي طفولة ناضجة تشي بوعود فنية قادمة فهل استطاع الفنان هادي الصكر ان يؤسس مشروعه الفني الخاص كما فعل فنانون مجايلون له منهم صلاح جياد وعجيل مزهر ومنقذ الشريدة ام أنهكته الغربة وتعدد المنافي عن مشروعه الفني؟!.
تقع ثانوية الوثبة في مدينة البصرة القديمة على نهايات نهر العشار الذي يمتد حتى بناية مستشفى البصرة الجمهوري. وبناية الثانوية من طابقين وفيها قاعة كبيرة للتمثيل قدمنا فيها عروضا مسرحية وفيها مختبرات للفيزياء والكيمياء والأحياء إضافة إلى قاعة كبيرة للرسم (المرسم) كنا نمارس هواياتنا : الرسم والنحت.. وفي هذا المرسم كان الفنان هادي الصكر يرسم لوحاته الأخاذة بالألوان المائية إلى جانب فنانين آخرين غيبتهم المنافي : حسن شويل كان بالكاد يمتلك قوت يومه لكنه كان حريصا على أن يكون ندا قويا لهادي الصكر في استعمال الألوان الزيتية في معظم رسومة ورياض بولص الذي كان فنانا عفويا ساخرا وقد هاجر إلى الكويت بداية الستينات والى جانبهم النحات عبد الرضا بتور الذي بقي معنا يصارع حياة شاقة شحيحة محبطة للآمال والتطلعات.كان هادي الصكر فنانا وكادرا قياديا في اتحاد الطلبة ولذا فان رسومه التي شارك فيها في معظم المعارض المدرسية كانت تجسد البيئة الشعبية : نساء متلفعات بالسواد ، عمال بملابس العمل أو وهم يعملون ، بائعات أكلات شعبية ،إضافة إلى المظاهر العمرانية للمدينة ومن أهم مميزات هذا الفنان إلى جانب قدرته على الإنشاء موهبته العالية في استثمار الألوان المائية بشكل أخاذ لم يستطع أن يجاريه فيها إلا عدد ضئيل من الفنانين البصريين اذكر منهم بشكل خاص الفنان صلاح جياد. ولذا كان يحصد الجوائز الأولى في المعارض المدرسية.
في ذلك المرسم المتواضع رسم هذا الفنان الكثير من لوحاته بالألوان المائية بشفافية عالية تحت إشراف مرب فاضل هو الأستاذ عبد الباقي النائب.
في الموقف رقم 4 كان الحر شديدا وسط أعداد كبيرة من الموقوفين ،لم يكن هناك منفذ للتهوية سوى شباك صغير .في هذا الجو استطاع هذا الفنان أن ينجز لوحاته المائية التي خصصها للمعرض السنوي للعام الدراسي 1962 .كنا ننتظر أمهاتنا وأخواتنا وأيضا الزوجات والأطفال بالنسبة للمتزوجين من كل أسبوع ومن خلال هذا اللقاء الأسبوعي استطاع هذا الفنان أن يهرب لوحاته عن طريق والدته وأخته خارج التوقيف وفي الخارج كان الأستاذ عبد الباقي النائب مدرس التربية الفنية في الثانوية ينتظر بفارغ الصبر لوحات تلميذه المبدع ليؤطرها ويعرضها ضمن معروضات الثانوية .وفي ذلك العام حصل هادي الصكر الطالب الموقوف بتهمة سياسية على الجائزة الأولى في الرسم ذلك لان المشرفين على المعارض المدرسية في ذلك الوقت كان يهمهم الإنتاج الفني للطالب وكانوا شجعاناً في تحمل مسؤولياتهم الفنية.
بعد أن أنهى هذا الفنان رسومه المخصصة للمعرض تفرغ لتخطيطات حرة كان كثير من الموقوفين يطلبونها منه لتبقى ذكرى لأيام قادمة.وكانت معظم تلك التخطيطات بورتريهات للموقوفين وبعضها الآخر عن الشؤون اليومية في التوقيف وكنت زميلا قريبا من الفنان ، كنا من ثانوية واحدة وكنت قد جربت الرسم معه في مرسم المدرسة الكبير ولأنه يعرف ذلك فقد خصني بهذه التخطيطات التي ابتعدت عن مألوف تخطيطات الآخرين ولم يكن يعرف ان تخطيطاته هذه ستبقى تلازمني طيلة أربع وأربعين عاما تنقلت فيها بأماكن متعددة وهي تلازمني فقد اعتقدت وما زلت بموهبة هذا الفنان وقدرته على انجاز مشروعه الفني .أتأمل ألان هذه التخطيطات بعد مرور أكثر من أربعين عاما على رسمها:احد الموقوفين يمسك قدحا ويتطلع بشغف نحو الخارج تحيطه ظلمة خفيفة وإضاءة اكبر (تخطيط رقم 1) . في التخطيط ( رقم 2) شكلان يتداخلان: موقوف يعتمر طاقية تحيل إلى الناس البسطاء يندفع من وسطه(جهة القلب) كيان بشري غاضب ومتمرد يحمل مشعل الحرية متخطيا ومندفعا نحو الإمام باتجاه اليسار بقوة .ألاحظ في هذا التخطيط الحركة الرشيقة للخطوط وهي تنفلت من أسار الجمود مكونة حركة دائمة تلازم الرؤية وتتمرد على السكون. في الشكل (3) تندفع يد طليقة تحمل شعلة الحرية نحو الأعلى وتتركز الرؤية على أصابع اليد الممسكة بالشعلة وقد بدت قوية متماسكة .أما الخطوط فقد اندفعت في فضاء لاحدود له متمردة على التشكيل والتحديد وكأنه يعلن ارتحاله مع خطوطه الرشيقة هذه إلى آفاق لا حدود لها واعتقد انه لم يكن يعبر عن مفهوم أيديولوجي فقد كنا في مرحلة عمرية لا تؤهلنا لذلك بل أن ذلك يدخل ضمن أجواء اللعب الجمالي ويتضح ذلك بشكل جلي في التخطيط رقم ( 4 ) الذي يظهر فيه يافع يحمل سلة بمظهرين الأول مكتمل الملامح ومظلل حد الركبتين لتأتي بقية الأجزاء منسابة إلى الأسفل دون تحديد أو تظليل وبدت القدمان على وشك التشكل والاكتمال.أما الشكل الآخر فقد جاء وكأنه تخطيط أولي للشكل الأول :بلا ملامح فقط خطوط متداخلة تكوّن هيأة الشبيه وقد تحرر من إسار الملامح والتحديدات وبقي طليقا في الفضاء وهي تقنية تلائم اللعب الفني (جماليات الرسم) كما ان تقنية ترك الأشكال دون تحديدات تحيلها إلى النموذج الواقعي ( الايقوني)هي تقنية متقدمة إذا احتكمنا للزمن الذي رسمت فيه تلك التخطيطات وهي تقنيه جمالية تؤسس لفضاء ابيض يساعد على مشاركة وتفعيل دور المشاهد في الرسم ويلاحظ أن الرسام قد خطط لظهور قدم ثالثة للإيحاء بالحركة خصوصا وان هذا التشكيل الثلاثي جاء بثلاثة اتجاهات وليس باتجاه واحد وهو دالة واضحة على الشروع بالحركة. وفي الشكل رقم ( 5 ) يحلق الفنان خارج غرفة التوقيف فيرسم رجلا وامرأة من الريف : الرجل يعتمر ( الجراوية ) والى جانبه امرأة بالملابس الشعبية ويلاحظ أن الفنان يعمد إلى التظليل الكثيف لوجهي موديليه في حين يطلق الخطوط منسابة للأجزاء السفلى كي يختصر كثيرا في الخطوط التي تؤطر صدر المرأة بخط واحد متصل أما الملامح الشخصية للموديل فتأتي مظللة بشكل يطغى على الملامح وكأنه يزمع الاحتفاظ بالشكل دون ملامح فالهدف كما يبدو هو الخطوط والتقاؤها وانسيابيتها.
إن تقنية عدم اكتمال الموديل تبدو واضحة في معظم التخطيطات التي رسمها هذا الفنان كما أن الاقتصاد في الخطوط واستثمار الخط الواحد في تشكيل شخصيات متنوعة هي من جماليات هذه التخطيطات التي لم يكن يدرك اهميتها في ذلك الوقت المبكر من حياته وإنما هي مجالات حرة كان ينحو فيها منحى جماليا وليس منحى تعبيريا لأنه يرسم ضمن أجواء حرة بعيدة عن الرقيب فهي رسوم ستختفي في صفحات دفتر ولن يتسنى لها الخروج إلى الهواء الطلق ونحن نجد في هذه النزعة امتثالا للفن وتعبيرا عن حرية غير مقيدة.
ان الكتابة عن طفولة تجربة فنية لم تكتمل في محيطها وبيئتها الطبيعية هي في الأساس نزوع لنا لنؤطر هذه التجربة ضمن حدود الماضي لتؤشر بالتالي على بذرة انجاز فني وتطلع جمالي لدى فنان ملتزم أراد أن يكون في قلب الحدث اليومي- السياسي آنذاك ويعطي لنفسه هامشا بسيطا يقدم فيه عطاءه الفني على وفق حرية مشروطة بالالتزام !!.
أتساءل الآن عن هادي الصكر الفنان مكررا سؤالي : هل استطاع أن ينجز مشروعه الفني على الرغم من صعوبات الترحال في تضاريس الطبيعة ومناخات مدن الغربة والضياع ؟!