الصفحة الثقافية
الأثنين 22/9/ 2008
من تاريخ مأساة تجربة المسرح والثقافة العراقية
حوار مع د. فاضل سوداني
القسم الثانيأجراه : د. عبد الرحمن بن زيدان
س: بعد هذا التكوين غادرت الوطن مضطرا مما أوصلك إلى القول إن الفنان العراقي في المنفى فقد مشروعه الفني بعد أن سرق منه زمنه الفني.كيف عشت هذه التجربة ؟ وكيف كان للتشتت تأثيره المأساوي على رؤيتك؟
المنفى والانبهار بالقيم الجديدة في الغرب
الدكتور فاضل سوداني :
يحدث التناقض بين ثقافة الفنان وثقافة المنفى عندما يعيش الاغتراب المفروض عليه بعيدا عن بيته الأول ، منبت الوعي التأسيسي،وعن تلك العوامل التي شكلت وعيه الفني والجمالي ،ولكن بالرغم من هذا، فإن المنفى يفرض حالة من دمج الثقافات و إغنائها. وبالتأكيد فإن هذا، يعتمد على وعي الفنان ذاته في إعطاء مهمته الفنية بعدا جديدا يؤدي إلى أن تتحول غربته إلى تاريخ جديد من الإبداع في مكان وزمان جديدين. وهذا هو جوهر مهمة الفنان في منفاه .
إن ضرورة هذا الوعي، تحتمه طبيعة المجتمع الأوربي التجريدية ، لأنها تفرض على الفنان قيما جديدة لا تشكل ذات الاهتمامات الفنية للفنان سابقا والتي يحاول الفنان من خلالها معايشة الوجود والالتحام المصيري ، فتنشأ فوضى التناقض ، ويبدأ التصادم بين القيم الثقافية والحضارية التي تشكل وعيه الفني، وبين تلك التي تميز ثقافة المنفى،وعليه أن يحافظ على خلفيته الثقافية حتى يستطيع أن يتوصل إلى التفرد ،والأصالة حتى يبتعد في فنه عن "استهلاكية الثقافة واستهلاكية الوعي ".إن مشكلة التكيف الايجابي لاغتراب الفنان، تكمن في أهمية مقاومته للضياع الفني الذي يحتمه المجتمع الاستهلاكي الجديد . و تكتسب الحصانة الداخلية الواعية أهمية كبيرة هنا ، ليس في إبداع الفنان، وإنما في حياته الجديدة أيضا ، لأنها تساعده على إنقاذ فنه.
وهذه قضية أساسية ، لأن معايشة المنفى الأوربي الجديد في سنوات اللجوء الأولى، تخلق حالة من الانبهار والاندهاش،بسبب بهرجة الحياة الجديدة التي تصيب الفنان بالتوهان،وبلا وعي منه ينجذب إلى الحياة الاستهلاكية، فتخبو جذوة الروح، و تنطفئ شعلة النار التي اختزنها الفنان في روحه، فيخضع فنه لمتطلبات تجارة السوق في مجتمع المنفى الاستهلاكي،أو يجبره لمعان الذهب على التحول إلى تاجر، كما حدث للكثير من المبدعين في منفانا ، لأن الأشياء المستهلكة ، تصبح هي الجوهرية في مجتمع الوعي الاستهلاكي، فيتأثر الفنان بهذا التشيؤ ، ويصبح تأثيره كفنان حقيقي كالذي يعزف على طبل مثقوب .
وهنا تكتسب الحصانة الداخلية الواعية أهمية كبيرة ليس في إبداع الفنان، وإنما في حياته أيضا،وعلى عكس هذا،فإنه يفقد مصباح النور القدسي الذي عثر عليه في أحد دروب الدنيا المليئة بالأسى، فيتحول الوعي الفني إلى وعي استهلاكي ، يُخضع الفن الحقيقي للهامشية التي تحوله إلى لوحات تزين قاعات البنوك ومؤسسات الصيارفة التي تتحكم بالمجتمع المعاصر.
ولكن من جانب آخر، فإن العيش في المنفى، سواء أكان خارج الوطن الأول، أو منفى الإنسان في داخله وهو في وطنه، يمتلك أهميته وضرورته. ولهذا فإن الفنان عليه أن يعمل على نفي نفسه فنيا ، وتغريب ذاته وهو في وطنه كامتحان، وهذا يعتبر جزء من تدريب الفنان لمواجهة ذاته الفنية من أجل أن يمتلك لغته الخاصة التي تختلف عن لغة مجتمعه. ففي المنفى تتجذر الأسئلة الأساسية لدى الفنان، ويستطيع أن يمتلك أدواته الفنية وأسلوبه الخاص ،إن المنفى خارج الذات، وخارج الوطن هي المؤامرة المصيرية التي تضع الفنان على حافة الخطر، بل لا أكون مبالغا إذا قلت إن المنفى هو الحافة التي تجعل من الفنان إما لامباليا،و إما عصاميا ، ويتم هذا ـ فقط ـ من خلال وعي الفنان لدوره في المنفى الجديد، وبدون هذا فإنه يصبح في منأى عن أوليات الحياة، وليس الإبداع ـ فقط ـ وأوليات الثقافة، والمجتمع، واللغة، والحب، والجنس،وتعلم عادات جديدة، مثل الكره ،والحقد، والقلق، والخوف من عنصرية الآخر، ولكن وعيه بكل هذه الإشكاليات تحصن قدرته على القيام بهذه المزاوجة بين الثقافة الجديدة في الحضارة الجديدة وآلياتها وتكنيكها الفني ، وبين ذلك الغنى الروحي الذي يمتلكه الشرق والذي تفتقر له أوربا، أي هي المزاوجة بين العقل الأوربي والروح الشرقية، وبالتأكيد فإنه سينتهي إلى فهم جديد للحياة والعالم والحضارة والتاريخ، وهذا يؤدي إلى وعي فني جديد،يؤدي بالفنان إلى استعادة زمنه الذي سرق منه وهو في وطنه الأول،إن هذا هو الهدف الثاني من معاناة المنفى.
فالفنان غريب دائما ( بالمفهوم الوجودي )، ولهذا فان الإبداع ـ فقط ـ يجعله منسجما من جديد مع ذاته ـ أولا ـ ومع الآخر ـ ثانيا ـ ولهذا ، فإن المنفى الأوربي أكثر أهمية من الناحية الإبداعية والفنية والتقنية والمعرفية من المنفى في المجتمع العربي، لأن الفنان المنفي في أوربا يتعلم تكنينكا جديدا لفهم الحياة،و لفهم إبداعه وتحقيقه، ويتعرف على جوهر الأسئلة المصيرية.ومن الأهمية بمكان، عليه أن يعرف إلى أي جمهور يتجه، و ما الموضوعات التي تشكل اهتمام الفنان في المنفى والتي من خلالها يستطيع أن يخلق حوارا حضاريا ولغة تواصل بينهما، بالرغم من أن خطورة المنفى تمنح المهاجر عقلا تجريديا.
ويجب أن نفهم العمل الإبداعي الذي يقدم إلى جمهور أوربي من زاوية أخرى، حيث أن بعض الفنانين العراقيين والعرب مصابون بهوس الجمهور الأوربي، أي أنهم يعتقدون أن تقديم عروضهم أمام جمهور أوربي يخلق عالمية الفن والفنان ، كما يجاهد بعض الفنانين العرب في استجداء العرض في أوربا، بدلا من بذل الجهد في إمكانية اكتشاف الأسئلة المصيرية التي تقلق الفنان والجمهور، وكذلك العمل على غنى أدواته الفنية ولغة خطابه الفني، بلا ثرثرة فكرية و فنية أو عاطفية وبلا سذاجة تجريبية.فاكتشاف الأسئلة الجوهرية التي تمس مصير جمهوره ومجتمعه هي التي تخلق عالمية الفكر والإبداع.
ومن جانب آخر، يكون ضغط المنفى مضاعفا عندما تكون الدكتاتورية هي سبب نفيك،وعندما ترفض أن تكون فنانا متكيفا مع آليات التفكير الدكتاتوري، وهذا ما حدث في العراق حيث الكثير من الفنانين كانوا مع ثقافة النظام ، أما الآخرين فاضطروا لترك العراق لهذا السبب ليعيشوا في المنافي في حالة من اللااستقرار والتشتت ، فالدكتاتورية والحروب تسرق زمن الفنان أو المثقف، و المنفى يسلبه نصف طاقته على الإبداع، لأن عليه ـ أولا ـ أن يوفر معيشته الحياتية، مادام هو غريب في بلد الغرباء.
وبالتأكيد، فإن كل هذا يؤثر على رؤية الفنان، بل أحيانا، تتغير جذريا،فمثلا يمكن أن تدخل مفردات ومفاهيم جديدة على اهتماماته.وبما أن الفلسفة والثقافة الغربية وبالذات الفرنسية المعاصرة تمتلك القدرة الشمولية في سبر أغوار النفس والحياة والعقل البشري ، فلابد إذن، أن يكون هنالك تأثير ما ، ولابد أن يعمد الفنان لمعالجة مشاكل الإنسان بشمولية كبيرة ذات فضاء واسع،فيصبح اهتمامه ليس في الإنسان ـ فقط ـ وإنما يضاف لها كل ما يتحرك في محيطه وفضائه، فالمسرح يهتم بالإنسان، إضافة إلى اهتمامه بأشيائه أيضا، أي تلك الأشياء التي تقلقه ،وهذا واضح في الثقافة الغربية، وكذلك الحال في الرسم بحيث امتلكت الأشياء وجودها في فضاء اللوحة وامتداد معناها خارج هذا الفضاء .ولكن هذه الأشياء لا يمكن أن تتكامل، أو تمتلك كيانها ومعناها في فضاء اللوحة،أو في الفضاء المسرحي إلا بجانب الإنسان ومن خلاله فقط، فتبدو علاقتهما أزلية .
إن هذا الوعي الشامل الذي يمكن للفنان أن يكتسبه من المنفى ، انعكس على كتابتي وإخراجي لمسرحية ( الرحلة الضوئية ) سواء في عرضها العربي أو الدنمركي ، ففيها تناولت شمولية المشكلة ، إنني في هذه المسرحية لم أعالج مشكلة الفنان فان كوخ ـ لأنه بطل الأحداث ـ وإنما أعالج مشكلة الفنان عموما ـ بما فيها الفنان العربي أو العراقي ـ في علاقته بالعالم والآخر والمجتمع ، ولم اطرح فيها تفاصيل حياته المعروفة كما عمل بعض من كتبوا عنه، وإنما كان السؤال الجوهري الذي يشكل أزمته المصيرية هو: كيف يستطيع الفنان أن يحول اللون الأصفر إلى نور ليضئ روحه والآخرين ، إضافة إلى تمايز التكنيك وأسلوب الطقوس في الكتابة ،أو الإخراج. ولذلك يمكن القول إن الفنان العراقي في المنفى الأوربي، بالرغم من أنه فقد مشروعه الفني بعد أن سرق زمنه ، إلا أنه تواصل بوعي أشمل، وبتجربة تكنيكية وفكرية أوسع.
س: من العراق إلى العيش في المنفى الاضطراري صرت تدافع على المسرح الذي يعالج المشاكل المصيرية التي تقلق المجتمع، وتدعو إلى إسقاط الأقنعة من المسرح الذي لا يتحدث عن الظروف والأزمنة الملتبسة التي تفرض الخواء الفكري على الفنون.ما تجليات هذه الدعوة على المسرحيين العراقيين في المنفى؟
الفنان العراقي ومواجهته لهامشية المسرح العربي في أطروحاته الساذجة
الدكتور فاضل سوداني:
لا يمكن للفنان أن يكون قادرا على تناول مشاكل مجتمعه وإنسانه العراقي، أو العربي ما لم يمتلك نظرة كسموبوليتية شمولية للحياة والكون الذي نشترك في العيش فيه . وهذه النظرة لا يمكن أن تتحقق ما لم يكون الانتماء الكوسموبولوتي هو تعميق للانتماء الإنساني الأشمل، ولا يعني هذا الإغراق بالعالمية، أو محو الهوية والتفرد الذي يجب أن يمتاز به كل إنسان، بل بالعكس، إن مثل هذا يقوي الانتماء المحلي، فمثلا ما كتبه صمويل بيكيت، ووليام شكسبير، ويوجين يونسكو، وسوفوكلس، وموليير، ولوحات فان كوخ أو بيكاسو وغيرهم، مازالوا أكثر حداثة الآن، وهم لم يعبروا عن أزماتهم، أو لم يكتبوا عن الأسئلة الأكثر إلحاحا التي تمس ذواتهم والمجتمع الذي عايشوه ، بل هم عبروا ـ أيضا ـ عن مشاكلنا نحن أيضا .
وبما أن الفنان العراقي عاش خراب العبث السياسي في زمن الدكتاتورية، وعاش كذلك الإقصاء والتمايز والحرمان من المعرفة والتطور الفكري والتكنولوجي الذي يحدث في العالم،فإنه يضطر إلى الارتماء في المنفى الأوربي،إما أن يلتزم بالتجريديات الفكرية والجمالية بدون مزاوجتها مع نبض روحه،أو يبقى متشبثا بتعاليم فكرية وفنية تبدو سلفية وماضوية وقد تجاوزها الزمن، بحجة الحفاظ على الهوية ، لكن بصيغ سلفية .
وهذا بالتأكيد، انعكس على أعمال بعض الفنانين العراقيين في المنفى إذ أن بعضهم يرفض مفهوم الإستشراق بمفهومة الذي يؤكد على المراكز الثقافية العظمى، وبالذات المركزية الغربية فقط، و التي تتجاهل المراكز الحضارية الأقل منها، ولكنه عندما يتعامل مع أساليب العمل المسرحي، ويحاول أن يقدم عملا يعتبره حداثويا، فإنه يضطر أن يلتزم الفكر التجريدي، و يلتزم بأساليب الفن التجريدية التي خلفها الغرب وراءه منذ زمن، فيتحول العمل الفني إلى إشارات ويعم الغموض.
وبما أن الفنان العراقي يعيش في ظروف صعبة في المنفى العربي، أو الأوربي، مما يضطره إلى أن يعمل بشروط وثقافة وفن بلد المنفى ،مما يضطره إلى تنازلات فنية وجمالية، أما التنازل الجمالي، أو الفكري والسياسي فإلى أين يؤدي كل هذا بالنسبة إلى عمل الفنان في المنفى ؟
ففي المنفى الأوربي، يقع الفنان غير المتزن في الغموض،لأنه لا يملك الحصانة الداخلية فتشتت الرؤية، أو يضطر الفنان إلى تقليد الفن الغربي،مما يؤدي به إلى التجريد في أساليب العمل بحيث يلتبس الأمر على الجمهور، ويضطر الفنان إلى أن يرفضه باعتباره جمهورا متخلفا ولا يفهمه، وسيضطر الجمهور في ذات الوقت إلى أن يرفض هذا الفنان الثرثار في الأساليب الفنية المنقولة التي لا يعرف كيف يوظفها . الشئ المعروف هو أن كل المعارف والمكونات الفكرية مرمية في الطريق ويستطيع الفنان اللماح الذي يكون هدفه هو الإبداع، وليس التجارة ، اكتشافها.
الغموض إذن، يكمن في فكر وخيال وعقل الفنان ذاته، وكما يقول نيتشه "إن مشكلة الإنسان هي خياله" . أحد زملائي من المخرجين جعل الممثل يركض في قاعة العرض فترة طويلة بدون أن يفهم الجمهور سبب ذلك، وعندما سألته عن السبب ، قال إنه يريد أن يصل بالممثل إلى أقصى درجات قدرته الجسدية ، إلا أن الممثل أرهق، وتخلخل أداؤه بعد ذلك . لكن المخرج نسى بأنه بهذا فإن العرض، يتحول إلى تمارين وليس عرضا، وهنالك فرق كبير بينهما ، إن الإبداع لا يأخذ تفصيلات الواقع كما هي،أي أن أي حركة لاتقدم كما هي، وإنما في الفن تتغير وظائفها لكي تتناسب مع زمنها الفني وليس الواقعي ، وبهذا فإن عمله تحول إلى تجريد غير مفهوم، بالرغم من أن الادعاء هو الوصول إلى عمل مسرحي متحرك وديناميكي و مابعد حداثي.أو أن بعض الفنانين يعملون على معالجة مشاكل المجتمع الأوربي الذي يعيشون فيه من خلال أعمالهم المسرحية ابتغاء لضمان مؤسسات الدعم في هذه البلدان، وظنا منهم بأنهم يساهمون في معالجة قضايا اللاجئين ومجتمعات اللجوء. لكن من فائض القول التاكيد على أن فهم مشاكل مجتمع ما، يكون أبناؤه و فنانوه هم الأكثر قدرة على هذا الأمر.
أما في المنفى العربي، فإن الفنان العراقي يعمل ضمن شروط (غير معلنة ) تخضعه كي يتكيف مع سياسات وإيديولوجية ذلك الحزب أو النظام ، وهذا خسران كبير للفكر الفني الإبداعي، لدرجة أن الكثير من الفنانين يضطرون للمساومة ،ليس فقط على مبادئهم، أو أخلاقياتهم الفنية، وإنما على تضامنهم مع مصائب شعبهم كما هو الحال بتأخر بعض الفنانين العراقيين (خوفا على مكاسبهم ومجاملة للأنظمة العربية التي يقيمون فيها ) من التضامن مع مصائب الشعب العراقي و الحرب التدميرية ضده التي يلعب الدور الأساس فيها بعض دول الجوار ، وبالتأكيد فإن هذا يؤثر على أدائهم الفني . أي أنه يؤثر على الفنان، ويمنعه من أن يفكر بحرية وعلى قدرته على كشف تلك الحقائق المصيرية التي تقلق المجتمع، انطلاقا من أن الفنان هو ضمير شعبه . وأي مسرح لا يتحدث عن الظروف والأزمنة الملتبسة التي تفرض الخواء الفكري على الفنون، فإن هذا المسرح، ومن ورائه فنانيه يساومون على وجودهم ليس الفني فحسب وإنما الوجودي أيضا.
الفنان العربي تربى على هامشية المسرح العربي في أطروحاته الساذجة الآن، وأكثر الفانين العراقيين وضعوا في ظروف تجبرهم على خدمة أغراض سياسية وإيديولوجية، كما هو الحال في عهد النظام السابق، وفي ظروف الحر ب المعلنة و غير المعلنة، والهدف الحقيقي هو توقف عملية تطوير الثقافة والفكر.... إضافة إلى أن الكثير من الأعمال الفنية العربية تعمل على خلق سكونية الوعي، مما يساهم في تكريس سكونية التطور الاجتماعي .
ولهذا فإن الكثير من البلدان غير الديمقراطية، يشكل ديالكتيك الثقافة الحرة خطورة على أنظمتها،وخاصة إذا كانت الأمية تشكل نسبة كبيرة في المجتمع، وإذا أضيف إلى هذا لامبالاة وتساهل المثقف مع ذاته . إذن معاناة الفنان مضاعفة، فإما التكيف الفكري ضد مايؤمن به ، أو التكيف ضمن شروط المنفى. أما الطريق الآخر، أي طريق انسجام المثقف مع ذاته ودوره التاريخي، فهو الطريق الأشق، لكنه الوحيد لإنقاذ الوعي الحر المشاكس الذي يمتلك ضرورته للمثقف والفنان الفعال غير المتكيف.
س: ربما أوصلتك هده النظرة ـ أحيانا ـ إلى الاقتناع بأن المسرح هو الذي يخلق التوازن النفسي عند الإنسان والجماعة في زمن العذابات، وأنه يستطيع داخل الوطن وخارجه أن يبني الوعي الإنساني عموما والوعي الجمالي خاصة كنتيجة حتمية لوجود علاقة بين الإنسان والمدينة.هل هذه النظرة عندك خلاصة للنظريات المسرحية في الغرب ؟
المدينة العربية غير مؤهلة لخلق المسرح
الدكتور فاضل سوداني:
إذا كانت هذه النظريات المسرحية الغربية هي النظريات السائدة هناك، ولها تأثيرها في حياتنا، وفي بلداننا نتيجة لهيمنة المركزية الثقافية الغربية، أو الأوربية، فعلينا أن نتمثل هذه النظريات جيدا من خلال غنى الخيال و الروح الشرقية ، من أجل خلق العلاقة المصيرية بين المدينة العربية، أو الشرق أوسطية وبين المسرح أو الثقافة و الفن عموما.وعلينا في البداية أن نشخص طبيعة العلاقة بين المسرح والمدينة العربية، وهل هنالك حقا وجود لهذه العلاقة ؟. أم أن هنالك وهما وادعاء دعائيا للسلطات ذاتها. وبما أن الأنظمة العربية تكره الفن والجمال، وتخاف من علاقته بالمدينة ، نتيجة لجماهيريته، فإنها إما أن تكيفه مع أهدافها الإيديولوجية والسياسية، وبهذا فإنها تقوم بالتشويه الفكري ، وإما أنها ترفضه بحجج دينية سلفية كما ذكرت سابقا . ولهذا فليس هنالك علاقة مصيرية بين الفن والمدينة العربية لان تطور المسرح وتكامله فكريا وجماليا يفرض مقدمات جوهرية تؤثر في المدينة كمجتمع والإنسان كفرد برغم تعقيدات التطور الاجتماعي . وأهم هذه المقدمات هي الديمقراطية الاجتماعية ، وحرية الفنان و الذات ككائن بشري مبدع فاعل ، بما فيها حرية الاكتشاف والتجريب في الفكر والفن وشتى أشكال الوعي الثقافي .
فالمدينة المتحضرة التي تحتم مقدمات التكامل الاجتماعي، ويشكل التطور العلمي والفكري والثقافي أساس وجودها اليومي ، بالتأكيد ستكون مدينة مستقبلية ، ويوتوبيا ، ومدينة الحلم ، والفردوس . إنها المدينة والمدنية التي تؤثر على المتعايشين في فضاءها الديناميكي . وبما أن المسرح قضية حضارية أساسا، فإنه ينشأ ويتطور في المدينة الحضارية، وتحتمه تكاملية المجتمع المديني . ولهذا فإن أي تفكير بجوهر وماهية المسرح، هو بحث قوامه وطبيعته اجتماعية فلسفية ـ جمالية وفينومينولوجية ـ ظاهرا تيه ـ أيضا .. وبالرغم من ارتباط المسرح بالمثيولوجيا والطقوس الدينية لمختلف المجتمعات القديمة ،إلا أنه كان ـ ومازال ـ يعبر بشكل بصري عن التصورات والأسس الفكرية والفلسفية والمشكلات الاجتماعية للمدينة والإنسان .
ولكن السبب الحاسم والمثير الذي أدى إلى تطور المسرح بعد ذلك هو الذي حدث في الحياة الاجتماعية الإغريقية حيث أحدثت الممارسة الديمقراطية في المجتمع الأثيني القديم تطورا وتغيراً داخليا هائلا لعصرها .
ومنذ القدم ارتبط نشوء الظاهرة المسرحية بتكامل المدينة وفضائها الاجتماعي المديني الذي تطورت فيه ذات الإنسان الواعية، بعد أن وجد ت جوهرها الحيوي،ولكن ارتباط ديمقراطية المدينة بحرية الفكر وتجريبية الإبداع في شتى المجالات يشكل الشروط الأساسية لتكامل المدينة والمسرح في ذات الوقت،كما أسلفنا سابقا .
فالانسجام الحقيقي بين هدفية التكامل الاجتماعي و الثقافي ـ وبالذات المسرح ، باعتباره فعالية جماهيرية ـ هو الذي سيخلق نوعا من وحدة الهدف لتحقيق مجتمع المدينة الحضاري والمسرح الحضاري المستقبلي ـ البصري ، فتتكامل العلاقة التبادلية بين تأثير مجتمع المدينة في تكوين فكر الفنان، وبالتالي القدرة التأثيرية للمسرح في المدينة .
وضمن التطور الديناميكي للمدينة والمسرح، فإن المواضيع التي نوقشت على خشبة المسرح في الأزمنة التي تلت الإغريق اختلفت جذريا. فمع مسرحيات شكسبير بدأ النقد الاجتماعي للحياة وتأشير معادلة الخير والشر والصراع بينهما، وازدواجية هذه العلاقة في ذات بشرية واحدة ،وفي أزمنة لاحقة تميز المسرح بمعالجة المشكلات الاجتماعية بسخرية مرة ،بما فيها معالجات مسرح القرن السابع والثامن عشر . و أكدت الكثير من الأعمال المسرحية على رفض المظالم الاجتماعية، وتطور هذا إلى التأكيد على ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية ومطالبة الإنسان بحقوقه، التي بدأت مع نهاية القرن التاسع عشر وانعكس هذا في أعمال الكثير من مؤلفي المسرح العالمي.
لكن التطورات العظيمة في القرن العشرين الذي مر عاصفا ومضطربا ومخيفا ـ في ذات الوقت ـ ومازال تأثير حروبه المعلنة والمخفية كبيرا على وجود الإنسان،أعطت إمكانيات جديدة للمسرح، فأرتبط بالتطور التكنولوجي، وأشر تناميا متزايدا للوعي الثوري والفلسفي في معالجته لشتى المشكلات الاجتماعية والفردية ضمن الواقع المضطرب . وطبيعة هذه المشكلات وحجمها خلقت الوعي الشمولي للفنان المسرحي وساعد هذا على إمكانية المسرح وقدرته في أسلبة العصر ، من خلال التأكيد على جوهر المشكلات الأساسية التي تميزه .
ومن اعتيادي القول إن المسرح يتطور وسط الاستقرار والهدوء الاقتصادي والسياسي وحرية التجريب التي تطور ديناميكية الفكر ، غير أن المدن تخلق أحيانا جحيمها الأرضي، وتجعل من الحرب قدرها، فتفقد أمنها ليتحول كل شئ إلى أشباح ويصير المسرح خرابا .إلا أن مسرح ما بعد الحرب العالمية الأولى، والثانية ،أكد حالة من الفوضى المنظمة ، أي الفوضى البنائية من أجل خلق اللاتوازن في النظام الطبقي، وكذلك في الوعي الاجتماعي للمدينة ،وإعادة خلق ديناميكية الوعي الفردي الجديد .
فارتباط المسرح بالفلسفات الطليعية ،وخاصة الوجودية ،والسريالية ،والماركسية،وفلسفة تضخيم الذات التي نشأت بتأثير الحروب،جعلت الفكر المسرحي موزعا بين جانبين :
الأول : فضح النظام الرأسمالي ـ الاستغلالي، وكشف الأسباب الحقيقية والعدوانية للحروب التي تقودها مخططات أرباب العمل ورأس المال العالمي ،و المساهمة في بناء وعي جديد، و إغناء روح الإنسان من خلال التأكيد على الفكر الثوري ـ اللبرالي والماركسي، كأيديولوجيا يمكن أن تمنح الإنسان عالما فوق الطبقات . وكان للعقل البر يشتي المؤدلج، والمشاكس دور كبير في تأكيد الأيديولوجيا في المسرح، وإعطاء أهمية كبرى لاحترام حرية الإنسان .
الثاني : إبراز الخواء الروحي والقلق المضاعف للإنسان الخارج للتو من تحت أنقاض الحرب، مع الإشارة إلى استلاب هذا الكائن في عالم غير حر أساسا، وفي الآن ذاته، تضخيم الذات الفردية وسط تناقضات حياتية عصيبة نتيجة لخواء العصر . وقد أكد هذا الاتجاه أيضا على التناقض في الوجود والحياة والتأكيد على عزلة الإنسان، وقصور لغة التفاهم بين الإنسان والعالم المحيط.
ولهذا فإن مؤلفي ومنظري هذا الاتجاه ،كالمسرح الطليعي ( اللامعقول ) ـ والتجارب الآنية كمسرح الصورة ،أو مسرح الحداثة وما بعد الحداثة المتأثرة بفكر ورؤى أنتونان أرتو،ومايرهولد ،وغروتوفسكي، تميزوا بالوعي الشمولي لمعالجة أي ظاهرة حتى وإن كانت محلية لتأكيد شمولية مشكلة الإنسان .ومن هذا المنطلق فإن المسرح هو الذي ساهم في خلق التوازن في زمن الاضطراب والفوضى التي أعقبت الحرب، وأعاد الثقة للفنان وللإنسان عموما بأنه قادر على مسك اللحظة الزمنية من جديد .
إضافة إلى هذا، فإن هذه المسارح، والاتجاهات،والرؤى، أرجعت المسرح إلى جذوره الطقوسية الأولى التي تحتم على عدم الاستغناء عن مشاركة الجمهور الوجدانية . ومن جانب آخر، فإنها تعد تجارب ضرورية للمزج بين المسرح كطقس والمدينة كفضاء اجتماعي يمكن أن يؤثر أحدهما بالآخر. وهنا ينبثق سؤال جوهري هو : هل يمكن أن توجد في المدينة العربية مثل هذه العلاقة الدينامية بين المسرح والمدينة الأوربية ، وكيف يمكن أن توجد؟
إن الالتباس الذي يعيق تطور المسرح العربي الآن، ويخلق جوهر أزمته، هو أن المدينة العربية غير مؤهلة لخلق المسرح،لأن المتعايشين في المدينة منشغلين عن المسرح بأمور أخرى ، إما أن تكون إيديولوجية ،أو سياسية ،أوفكاهية تخديرية ،وإما أن الأنظمة التي تسير هذه المدن تعتبر المعرفة الفكرية والجمالية شيئا ثانويا . وعكس هذا فإن المسرح، لا يمكن أن يوجد، ويكون ديناميكيا إلا في قدرته على إثارة الأسئلة الجوهرية والمصيرية في عصر تكنولوجي جديد. إضافة إلى أن المسرح يشكل بالنسبة للمدينة خطورة جوهرية، لأنه يخلق التجمعات، ويثير الأسئلة، وينتج وعيا جديدا، ويقوم بعدوى المعرفة، لهذا فإنه يعد هامشيا في صلب برنامج النظام الذي يقود المدينة العربية.
والجانب الآخر الذي يمتلك أهميته، وتفرضه لغة المسرح وطبيعته الفنية ، هو تغيير العلاقة مع الجمهور المتلقي ليتحول إلى متفاعل، و يقوم بفعل المشاركة كما كانت عليه وظيفته في الطقوس المسرحية قديما .
هنا تكمن ضرورة إعادة معمارية السرد الرؤيوي والفكري للطقس المسرحي في المدينة العربية المستقبلية، بحيث تكون هنالك إمكانية لاستعادة مجد المسرح حتى يصبح له ارتباط عضوي بحياة الجمهور كما كان عليه المسرح اليوناني القديم . أو خلق تلك العلاقة الحميمة المتجذرة بالمدينة، كما في مدينة القرون الوسطى الأوربية .
س : أنت تنتقد ـ دوما ـ الديمقراطيات المزيفة التي تخلق إنسانا مزيفا وسطحيا بفكر سطحي يجعله يتكيف مع مفاهيم لا يؤمن بها ، ويساير ثقافات سلفية بعيدة عن روح العصر،هل أوصلك هذا الاعتقاد إلى بلورة تجربتك في كتاباتك المسرحية والنقدية؟
النص البصري والذاكرة الجسدية المطلقة للممثل والعلاقة مع المتلقي
الدكتور فاضل سوداني :
المسرح هو فن اللحظة ( الآن وهنا ) التي لا يخضع الزمن فيها لأبعاده الواقعية والمنطقية ، وإنما يخضع الإبداع المسرحي لقوانين زمن الإبداع الذي يكون ديناميكيا يعبر عن الإيقاع المستتر للموضوع الفني ، فيظهر لنا الخفايا اللامرئية في الواقع والحياة وذات الإنسان. ويقوم أيضا بدلالات وإحالات على الماضي وكذلك على المستقبل .
فالطاقة الإبداعية في الفنون جميعها، وفي المسرح خاصة ، ذات قيمة دلالية ، تقوم بالعدوى ،وتؤثر على الفنان ، ومن خلاله يتسرب الإبداع المبني على الإشارات والدلالات والإحالات السيميولوجية إلى المتلقي الذي يتحول إلى متفاعل بمفردات هذه اللغة التعبيرية لخلق صورة درامية في زمن و ظروف محدد ة ،ولكنها تخضع للآنية ( الآن) وللمكانية (هنا )، وبهذا يكمن جوهر الفن المسرحي .
والشيء الذي يمتلك أهميته في المسرح أيضا، هو " اللحظة الإبداعية " التي تعتبر رؤية درامية ذات دلالات سميولوجية يتجلى بمفرداتها فكر المؤلف والمخرج ، ويتجسد المعنى الذي ينتجه جسد الممثل وقدراته التعبيرية لتأليف لغة دلالية إشاراتية للمخاطبة، فالحركة التعبيرية لجسد الممثل هي مفردات للغة معرفية في الفضاء الديناميكي المكتظ بالدلالات والرموز والضاج بالمعاني .
وعلاقة الممثل بالسكونية والنمطية أو الديناميكية تحدد لنا نوعين من الإبداع في عمله :
الممثل الفنان المبدع : وهو الفنان الذي ينشئ معنى معرفيا في الفضاء الإبداعي في مكان وزمان وظرف محدد ،ويمتلك معرفة علمية وإبداعية بتكنيك لغته الفنية ،وهو الذي يكوّن من جسده والوسائل التعبيرية الأخرى لغة سميولوجية لإنتاج المعاني .
الممثل النمطي المتكيف الذي يتكيف مع نمطية و سكونية المسرح التقليدي ، وهو عبد مخلص لهذه الطريقة التي تنتج وتعيد واقعا فوتوغرافيا . و يعتمد الممثل فيها على الارتجال الساذج، بغية خلق علاقة تعتمد الثرثرة في الحركة التي لا تعني شيئا.
وضمن هذا الفهم، وهذه الفرضية، كتبت دراساتي النقدية، أو نصوصي المسرحية والتي أخرجتها برؤى حاولت من خلالها الوصول إلى مفهومي عن النص البصري، والبعد الرابع، والتفاعلية بالتلقي، و الذاكرة الجسدية المطلقة للممثل، وذاكرة الأشياء. إنه أسلوبي في العمل الذي يعتمد على نظرة خاصة ليس للحاضر وإنما لمستقبل و للماضي أيضا الذي يشمل ماضي الإنسان وقلقه التاريخي وغموض التاريخ المكتوب دائما بانحياز. وكل هذا يحتاج من الفنان قراءة جديدة .ولهذا فإن المشروع الفني لأي فنان هو زمن يسمح بطرح سؤال جوهري، قد لا يكفي عمر الفنان لمعالجته. انطلاقا من هذا فإنني عالجت علاقتي بالتاريخ السومري والبابلي، من خلال قراءتي المتحررة لملحمة "جلجامش" أنتجت مسرحيتي "أغنية الصقر" . ومن جانب آخر كانت تقلقني ـ أيضا ـ علاقتي كإنسان معاصر ، بالأزمة الإنسانية للآخر،وشموليتها،بغض النظر عن البعد الزماني والجغرافي ، كما هو الحال في كتابتي لمسرحية "مساء الخير أيها السيد فان كوخ"، أو مسرحية "النزهة "، وكذلك مسرحية " الرحلة الضوئية"، أو مسرحية" النـزهات الخيالية ".
وطرحت على نفسي السؤال التالي :
كيف يمكن النظر إلى العلاقة بين الذات المعاصرة و التاريخ وبين العنف، والحرية كمفردات معاصرة يمكن أن نعثر عليها في التراجيديا أو الملحمة ؟
فمن أجل الإجابة عنه، اتجهت نحو معالجة موضوعة تراجيدية البطل الملحمي، وجحيم الحرية بوعيها المعاصر، كالتباس من جانب، والتزام من جانب آخر، وكذلك انعكاس العنف كسلوك يميز حياتنا المعاصرة كان من الضروري إعادة تفسير النص التراجيدي و الملحمي القديم ( واعني ملحمة جلجامش ) ،والنظر إليه وقراءته من فضاءاته الخفية الأخرى ، بحيث نتعمق في تفسير مصير البطل ضمن التباسات الوجود الملحمي والمعطى المعاصر.وهذا يفرض بالتأكيد، وعيا بنائيا، تأويليا ودراميا للأحداث حسب مفهومي البصري.
فحاولت التعامل والغور بحرية في المتن المتشابك والمعقد لأهم ملحمة منحت البطل إمكانية طرح الأسئلة المصيرية (ملحمة جلجامش )،كنص ملحمي متفرد عصي على الفهم ،أحيانا، يخضع لفانتازيا الامتداد الأسطوري،مبتعدا عن مقصلة المنطق واليقينيات.وقد أدى هذا إلى انبثاق نص مسرحي امتلك حريته وديناميكيته بعيدا عن الفضاء الملحمي، وهو نص أغنية الصقر (إصدار دار الحضارة الجديدة سابقا ـ الكنوز الأدبية بيروت) التي عالجت جلجامش كبطل يحمل قدره ويتصارع مع ظلامية عصره ، لكنه كان معذبا من حريته أيضا ، وكان الجوهر الذي يمتد على طول المسرحية هو الحرية والاختيار .
ومن أجل أن يتحقق الوعي الملحمي المعاصر في "أغنية الصقر"، لم أعتمد على تفاصيل الأحداث والشخصيات، كما أكدها الشاعر الملحمي القديم ، بل عمدت إلى إتباع أسلوب التناقض ، بمعنى استخدام بعض أحداث الملحمة والتناقض معها، وإبقاء بعض شخصياتها ، مع التغيير الجذري لمصائرهما، وأهدافهما وخلق شخصيات جديدة ، ومسك اللحظة الزمنية المعاصرة التي تؤدي إلى الإبداع الدرامي البصري .
فتطور شخصية جلجامش الجديدة في النص المسرحي، شمل بعدا آخر ، فهو لم يعد بطلا أسطوريا وملحميا، نصفه إله ،ونصفه الآخر إنسان، كما في الملحمة .وإنما هو ابن ملك مازالوا يهيئونه للعرش ، فهو إذن شاب قليل التجربة أيضا ، يعيش وسط مجتمع مدنس يقدس قيوده وعبوديته، ومسكون بالخوف من سلطة قصر ملئ بالوجود المزيف يقوده الملك( والد جلجامش)،وأركان سلطته الإرهابية من الجهلة وعلى رأسهم الكاهن( الطاعون و العقل المعدي والمتكيف للشرور).
فمن أجل أن يتوحد جلجامش مع ذاته، ويمارس وجوده الخالص والمكثف، عليه أن يكتشف أسرار فضاء الوجود الملوث الآخر الذي يحيط به، عندها يرى سبب ويلات مدينته هو القصر ـ كسلطة .
فكل من جلجامش بوعيه المعاصر ( الحرية المعاصرة ) و الملك يمثلان زمانين مختلفين،لكن لهما فعلهما الخاص الذي تفترض الضرورة الوجودية أن يدافع كل منهما عن زمنه .
وزمن جلجامش يعني وعيه الحر، ورحلته المصيرية، ولكن ليس في طلب الخلود، كما في الملحمة، وإنما لممارسة فعل حريته الواعية ،وهذا يعني أن الذات مسكونة بحريتها من أجل الوصول إلى الحقيقة الذاتية ومواجهة الوجود المزيف ، وتمسك جلجامش بحريته في ذات الوقت يحثه ويقربه من مصيره المحتوم ـ بوعي منه ـ أي يقربه من الموت ..تلك البومة القدرية بعينيها الناريتين.
إن جلجامش يجب أن يقتل، لأنه رأى وهج الحرية وشعاعها،فسمح لنفسه بالتحرك في فضاء أوسع من ذلك الذي حدد له ، لذلك فالملك ( والد جلجامش )، يسند مهمة قتل ابنه إلى الكاهن (الأب الروحي الآخر والمنفذ الفعلي لنتائج مقصلة منطق السلطة)، فتبدأ عملية استهانة رجال السلطة بكل القيم الإنسانية تاريخيا،ويصبح جلجامش صدى للفكر البنائي العالمي المتمرد ، فيتهمونه بسرقة النار المقدسة ، ويدينون دعوته بدوران الأرض حول الشمس ، وإيمانه بأن الملكية الخاصة سرقة ، وبحثه الدائم عن الحقيقة بوعي أعمى عندما يمسك مصباحا وسط الظهيرة ودعوته بأن الوجود مرتبط بالوعي .
هذه مجمل الخطايا التي يذنبونه بها، ولهذا فإن جلجامش المعاصر كبطل جديد يجتاز حواجز المكان والزمان ، فهو اختزال للعقل البشري وشمولية الكينونة الايجابية التي تدعو إلى الفعل الثوري التمردي تاريخيا، و في هذا العالم إنه اختزال لبطولة بروميثيوس، والعقل التركيبي لجاليلو، وحب ديوجين وديكارت للحقيقة ، وجنون وعبقرية نيتشه من أجل الإنسان الحلم ، وقدر المسيح في حبه للتضحية .إنه بطل يمكن أن يوجد في كل العصور، لكنه مرفوض في كل العصور أيضا.
وإذا حاولنا أن نحلل البعد السيميولوجي للزمن الأسطوري في فضاء هذا النص المسرحي البصري، لاكتشفنا ما يؤكد على وجود أزمنة ثلاث للحدث ، من خلالها تكون الشخصية فعلها ووجودها الخارجي ـ الموضوعي والداخلي ـ الذاتي .فهنالك زمن الشخصية الآني (الآن) على خشبة المسرح ، حيث يمكن للممثل أن يتكيف مع شخصيته وهو في حضرة الجمهور لحظة الكشف . والزمن الآخر هو زمن الشخصية وهي منسجمة مع زمنها الماضي، ومن ثم زمن الشخصية وهي تعيد تشكيل الحدث الذي وقع في الزمن الماضي الأكثر بعدا عن لحظة وجودها الآني و الماضي القريب.
إن هنالك تداخلا وتلامسا واعيا ومقصودا للأزمنة ، فالماضي يشكل تاريخية الأحداث والشخصيات ،يتداخل مع الحاضر الذي يضئ ذاكرة الممثل والجمهور في ذات الوقت . لذا فان الأحداث تخضع لزمنها الإبداعي، الذي يشبه زمن الحلم، وليس الواقعي. وهذا يعتمد على تحقيق ما أطلق عليه بالبعد الرابع للزمن والفضاء في النص والعرض البصري.وإذا كانت الملحمة البابلية القديمة قد عالجت جلجامش كفعل باحث عن الخلود ، فإن مسرحية "أغنية الصقر" تناقضت مع هذه الموضوعة، وأوجدت بديلها المعاصر .كما في الحوار التالي :
( جلجامش : إن مانبغيه ليس الخلود وإنما وسيلة العيش في هذه الحياة ، حتى وإن كان الطريق إلى هذه الغاية هو الموت ذاته . المهم هو الحيوية وليست الحياة.الأبدية... نعم ليست الحياة الأبدية )
إذن جلجامش هنا يفضل الموت على الحياة بدون حيوية ، بدون وعي ، ولهذا فإنه لا يقوم برحلته من أجل الحصول على " زهرة الحياة "، وإنما يقوم بهذه الرحلة بداخل ذاته ووعيه وماضيه وحياته وحياة الآخرين من أجل اكتشاف المعنى الحقيقي للحياة ،
وفي جانب آخر عالجت موضوعة الحرية والذات الأخرى أيضا، فكتبت مسرحية "الرحلة الضوئية"برؤيا مختلفة للتعبير عن طقس مسرحي بصري عن رؤى فان كوخ (العنف وأمل الإنسان في التطهير )،وأخرجتها برؤى إخراجية متنوعة ومختلفة، سواء كان ذلك باللغة الدنمركية ( لجمهور دنمركي ) أو العربية ( للجمهور العربي ) وسيطبع قريبا وكذلك ترجمت إلى الانكليزية.
و في هذا النص حاولت تحقيق مفهومي حول النص البصري في الكتابة، واعتماد رؤيا إخراجية لتأكيد ما ورائية الأحداث وانعكاسها على واقعنا، إنها لغة لها علاقة بميتافيزيقا العنف، وميتافيزيقا ذاكرة الجسد المطلقة.إزاء هذا نحتاج إلى مسرح مغاير، وإلى مفهوم مسرحي يرى العنف والجمال والتطهير برؤيا تتناسب مع حجم خراب الإنسان وضياعه المعاصر.
وبالتأكيد فإن تأسيس عرض مسرحي بهذا المفهوم سيبتعد عن تقديم حياة فان كوخ كسرد تاريخي، و سيتعمق في تلك الرؤيا التي تسببها نوبات الوجد الوحشية التي يعاني منها الفنان جراء العنف الاجتماعي الذي يمارس ضده ، وسيتعمق في أحلام الفنان الشاردة في الذاكرة النهارية ، وفي تلك الرؤى القلقة التي توجد صداها في العنف وفي الفوضى الكونية ، وفي ذلك النور المتوهج الذي يضئ روح الفنان وأرواحنا ليطهرنا كشهود على انهيار الحضارة و نتيجة للشعور بالذنب .
إذن من أجل تقديم عرض مسرحي بصري عن الإنسان والعنف،احتوى النص على طقوس بصرية عديدة ،وكل طقس يمثل رؤيا حلمية واقعية فيها الكثير من البصريات مثل : القربان ،وهم الحب ، ملاك وشيطان يتخاصمان على جسدي الاعتراف، أما الطقس الخامس فهو على شكل بابين ضوئيين... الباب الأول : زهرة الشعراء و قداس النقاد ، و الباب الثاني: عينا ميدوزا الجميلتان، وأما الطقس السادس والأخير، فكان تحت عنوان غابة السد يم في مرآة الأسرار .وهذا النص هو محاولة للكشف عن النص البصري الذي يكتب للعرض وليس للقراءة ويؤَول كشفرة تؤسس بصرية العرض المسرحي المستقبلي .
يتبع القسم الثالث
¤ القسم الأول