الصفحة الثقافية
الأربعاء 26/12/ 2007
أليسون كنيدي تنقّب في ذاكرة الخاسرين
رواية عن عواقب الحربرضا الظاهر
أي. أل. كنيدي تمقت عندما يذكر النقاد الكاتب فيما يتعين عليهم التفكير بمنجزه ربما لخشيتها من محاولتهم أن يجدوا سياقاً سياسياً لروايتها. فالمرء لا يستطيع تفادي السؤال عما اذا كانت الرواية الأخيرة للكاتبة البريطانية، الصادرة في نيسان الماضي والتي تحمل عنوان (داي)، وتدور حول عواقب الحرب، تصاغ عبر كراهيتها الصريحة للحرب في العراق على سبيل المثال.
وإذا تحدثنا في الاطار الواسع يمكننا القول إن هناك نمطين مميزين من الرواية التي تتعامل مع تجربة الحرب العالمية الثانية. فهناك الروايات التي تكون فيها الحرب مذهلة ولكنها واقعية. وهناك الروايات التي تكون فيها الحرب غير قابلة للتصديق وسوريالية.
وفي حالات كثيرة يوفر الإلغاء المؤقت للبنى الطبقية، الذي يظهر خلال الحرب، وسيلة للكاتب لتقديم شخصيات لا يمكن لها أن تلتقي في ظرف آخر. وقد تكون الحرب ظرفاً استثنائياً غير أنها لا تمنع تدفق المشاعر الإنسانية في عالمها الذي تستمر فيه الحياة.
ولعل رواية الكاتب الأميركي جوزيف هيلر المعروفة (الدوران في حلقة مفرغة) تعتبر من بين أفضل الأمثلة على النمط الثاني من الروايات. وفي هذا النمط تأتي رواية (داي).
الناس مختلفون عندما يعودون الى بيوتهم من الحرب. فعندما عاد الملك أوديسيوس الى إيثاكا أخيراً، لم يجر التعرف عليه إلا عندما لاحظت مرضعته ندبة مألوفة على ساقه. فقد كانت تغسل قدمه في ذلك الوقت، وهو ترحيب أفضل مما يتلقاه معظم المحاربين، ذلك أن الشك والتجاهل والعداء يواجه كثيرين. ومن ناحيتهم فإن الجنود العائدين لا يجدون التفهم الذي يحتاجون في البيوت. وقد كتب وولفغانغ بورتشيرت، الكاتب المسرحي الألماني، الذي خدم في قوات الدفاع على الجبهة الشرقية في الحرب العالمية الثانية، والذي تعتبر مسرحيته الموسومة (الانسان في الخارج) الصادرة عام 1947، من روائع الأدب الألماني، كتب في مقالة له عن جيل الحرب يقول "نحن جيل بدون عودة الى البيوت، ذلك أنه ليس لدينا ما يمكن أن نعود الى البيوت من أجله". وإذ تميزهم وتغيرهم التجارب فإن المحاربين يتعرضون الى العسكرة والوحشية ويخضعون لفظائع لا يمكن تخيلها، ومع ذلك فإنهم، في الغالب، لا يمتلكون طقوساً مماثلة ولا وسائل واضحة في إعادة الاندماج في مجتمع زمن السلم. والمقاتلون السابقون الذين غالباً ما واجهوا اللوم على حروب لم يكن أمامهم خيار سوى المشاركة فيها، هم مذكّرون بما يمكن أن يفضل المدنيون نسيانه. وهناك طائفة من الأسباب التي تجعل أولئك الذين خاضوا الحرب يجدون من الصعب وصف التجربة لأولئك الذين لم يجربوا خوضها، ولكن السائد بينهم أن من يصغون إليهم ليسوا مؤهلين، عقلياً وتخيلياً، لفهم ما يسمعون.
كما يجب على الكتاب الذين يتخذون من الحرب موضوعاً لهم أن يصارعوا مع الاستحالة المعقدة لتجسيدها. وعلى نحو متزايد فإن ما يكتب حوله هو العواقب. غير أن ما هو أبعد من الحديث أو الكتابة عنه يسجل نفسه على الجسد وفي أنسجة العقل حيث يقيم الى أن يستدعيه حافز معين. والاتجاه الملحوظ في روايات الحرب هو استثمار إمكانية السرد لهذه التسجيلات المستقرة في الجسد والذهن. فأعراض اضطرابات توتر ما بعد الصدمة (الكوابيس وردود الأفعال المعينة على تلميحات معينة) هي، على أية حال، أدوات ومصادر للرواية التي تهيمن عليها فكرة متكررة. والنتيجة أن الكتاب يكتبون عن الحرب عبر عدم الكتابة عنها، بمعنى ما، أو عبر عدم الكتابة عنها بصورة مباشرة.
ولهذا السبب وجدت أي. أل. كنيدي في الحرب الموضوع الذي يحتاجه فنها ويتوق اليه. إن رواياتها وقصصها، التي تتسم بالاطلاق البطيء للمعلومات والانعطافات السردية، تتعامل مع الانتهاكات المخفية، والمشاعر الخبيئة، والاخفاق في التواصل، والعنف اليومي، وهي موضوعات يعتبر الصراع إقليمها الطبيعي. ولهذا فإننا نجد في روايتها الجديدة المحارب في الحرب العالمية الثانية ألفريد داي، الذي ترهقه الأفكار التي يريد أن ينساها. فالعواصف تجعله عصبي المزاج، حيث الكثير لا يمكن أن يؤدوا عملهم في أجواء الصخب، بينما النوارس تجعله يفكر بعمليات الاقلاع التي تذكره بالطيران، مما يعيد حلمه الى ذهنه. وغالباً ما تخفي الشخصيات نواحي من وجودها.
وألفريد داي إبن تاجر سمك متعسف. ونحن نلتقيه بعد الحرب، في عام 1949، عندما يعود الى معسكر اعتقال بديل في ألمانيا كمكان لصناعة فيلم سينمائي، وهذه المرة كممثل ثانوي أجير. ومنذ بداية الرواية نعرف أن ألفريد نجا من الحرب، ولكننا لا نعرف كيف حدث له الندب على شفته العليا (نعرف أنه أطلق شاربيه ليتفادى النظر الى نفسه في المرآة)، ولا نعرف، أيضاً، أية صدمة عانى منها، وما الذي حدث لجويس، المرأة التي أحبها (الحبكة الثانوية المتعلقة بجويس تعتبر واحدة من الأجزاء الأقل نجاحاً في الرواية. فعندما تقع شخصيات كنيدي في الحب فإنها تميل الى فعل ذلك من النظرة الأولى على نحو يتعذر إلغاؤه أو تصديقه وبصورة تشل المرء. ولا يشكل ألفريد استثناء من ذلك).
ومن معسكر الاعتقال الاصطناعي، تعاد أفكار ألفريد، على نحو عنيد، الى الوقت الذي كان فيه مجنداً في سلاح الجو الملكي، إذ عمل في طاقم طائرة لانكاستر القاذفة، حيث كان يشارك أفراد طاقمه علاقتهم الحميمة ومخاوفهم من المجهول، وهي علاقات ومخاوف مقنعة تماماً. وبما أنه قصير فقد تولى ألفريد مهمة المدفعي الخلفي. ومن موقعه في ذيل الطائرة ينظر الى المخاطر المحتملة. إن التماثل مع النظر الى الماضي والإنذار بشظايا الأفكار المؤلمة تماثل واضح، ولكن الامكانية المجازية لبرج الهجوم المدفعي لا تجري المبالغة فيه.
وتعتبر لعبة برج الهجوم المدفعي واحدة من أمثلة كثيرة في الرواية توحي فيها كنيدي بأن الجسد يتذكر التجارب حتى وإن كان العقل ينبذها. لقد نسي ألفريد إحساس عدم الرغبة في أن يُقتَل، ولكن جسده، الذي غالباً ما يفاجئه بقدرته الضليعة على القتال، لم ينسَ. وتبقى الرائحة الحادة للضمادات والرائحة التي يشمها المحارب عندما ينام مع مدافعه تلازم ألفريد في فترة ما بعد الحرب وتأتي بها اليه. إن الجلد الذي يحمل علامات الممثل الأجير يذكره بتفجيرات الشظايا. فالزوبعة "تشن هجوماً خاطفاً" والأضواء "تتمزق مثل نيران إطلاق القذائف". وتلاحظ عيناه، اللتان تصبحان بارعتين، النقاط داخله وداخل آخرين ممن هم عرضة للإصابة، وتحسب أين ستسقط القنابل، وتقدر كيف أن البنايات ستدمر: "أنت ترى أهدافاً بجانب أهداف. لا شيء سوى الأهداف".
ويكون ألفريد في ذروة تأثيره عندما يجري التعامل في إطار العلاقات بين الرجال. فألفريد المدفعي في لانكاستر، والرجل الصغير الذي ترك طفولته الخاملة في ستافوردشاير حيث كان عاجزاً عن الدفاع عن أمه إزاء انتهاكات أبيه المدمن على الكحول، يصبح جزءاً من الطاقم. ويمنحه سلاح الجو الملكي بدلة تثير الإعجاب ويعلمه القتال. ولكنه يمنحه، قبل كل شيء، أصدقاءه من أفراد الطاقم.
وتجري أحداث الرواية بعد أربع سنوات من انتهاء الحرب. ولم يكن ألفريد قد تعلم حتى ذلك الحين كيف يصبح ذلك الرجل في حياة مدنية. وصديقته ليست ممتازة في الحرب، ولكنه يجد أنه ليس ممتازاً في السلم. ولهذا فإنه يتطوع كأجير للتمثيل في الفيلم بمعسكر للأسرى، في محاولة للعثور على ذلك الجزء الذي ضاع منه في الأسر الفعلي بألمانيا عام 1943.
وهو محاط بممثلين يؤدون أدوار الحرب وبينهم أناس مثله لا يتحدثون عما جرى. ثم أن هناك ذلك النمط من الناس الذين كان يقاتلهم مثل فاسيل الذي يقول "أنا أفهم الناس. إنهم يواصلون سفك الدماء. وذلك هو كل ما هم عليه".
ورواية (داي) دراسة لما يحدث للناس عندما تشكلهم المعركة ثم تهجرهم. وحياة داي الداخلية فراغ ومليئة بالخسارات. فهو يفتقد حربه ويفتقد طاقم طائرته، بل ويفتقد مشاق وحرمانات المعسكر. كما أنه يفتقد المرأة التي وجدها في فترة تعتيم أثناء غارة جوية وأضاعها في وقت لاحق.
والكتاب سجل لمحاولة داي الأخيرة تقمص الحرب عبر تذكر كل شيء، ومحاولة معرفة ما إذا كانت هناك أية دروس من الماضي العنيف يمكن أن تتحول الى حاضر حيادي. إن حديثه المتسم بالضياع والغضب والاتقاد مع نفسه هو من بين أفضل مشاهد الرواية، حيث يتحول فيها الحوار الداخلي لشاب يعاني من أزمات عميقة الى لغة تنقل أفكاره وهواجسه.
الآن، وبعد تلك السنوات الأربع من العنف المروع كبر ألفريد قبل الأوان. فأصدقاؤه من سلاح الجو الملكي إما موتى أو غائبون، وجويس تزوجت، وفقدت حياته تلك الغاية الوجيزة التي اتسمت بها. وبينما يحاول كل من يحيط به نسيان الحرب فان ألفريد يتشبث بها باعتبارها واقعه الوحيد، موافقاً على إداء دوره الثانوي في الفيلم عن أسرى الحرب، في محاولة لاصلاح حياته في المعسكر البديل، وهو محاط بالممثلين والمعدات الحربية غير الحقيقية والملاجيء وآليات المسرح، ليبدأ البحث عن ذلك الواقع، عن نفسه المدفونة، ساعياً الى ما يشبه الأمل، ومحاولاً التقدم الى أمام عبر التراجع الى الوراء.
غير أن ما يأتي أخيراً من الرواية هو الاحساس المحبط بأن الحرب تدور حول مقاتلة أناس مثلنا. ويرى قاذف قنابل، ماتت أمه في غارة على انجلترا، الدمار الذي أحدثه في هامبورغ، حيث يقول "لقد رجعنا وقصفناهم مرة أخرى".
ومن المحتمل أن لا نعرف أبداً ما إذا كانت الروائية كنيدي تفكر بالمدنيين العراقيين عندما كتبت هذا، وقد تقول إن ذلك لا صلة له بالموضوع. ولكن في لحظة صراحة نادرة تحدثت ذات مرة عن أهمية الرواية. وقالت إنها "الشكل الذي يبرهن، على نحو عميق، على أن الكائنات البشرية هي كائنات بشرية مثلنا".
وهذه الرواية تدور حول وحشية الحرب، والصداقة الحميمة التي تنشأ عند مواجهة الموت، والاستكشاف المذهل لتعقيدات العاطفة الانسانية. وهي رواية مركبة نادراً ما تنحدر الى الحكم على عنف الحرب خارج السياق، وتذكّرنا الكاتبة، على الدوام، بأنها رواية وأن حربها خيالية. وبالنسبة لقراء كتب كنيدي فان الكوميديا السوداء والملاحظة الثاقبة واللغة الأصيلة لن تكون مفاجئة. أما بالنسبة لقرائها الجدد فستكون هذه الرواية كشفاً.
وعلى الرغم من كل جهود ألفريد في الاختفاء فان الذكريات غير المرغوبة تتدخل. وتستخدم كنيدي مجازات عسكرية لهذه العملية. فألفريد يفترض أن أجزاء من الحلم ستحدث دائما عبره الآن، "الطريقة التي يمكن أن تتحطم بها الشظايا أحيانا عبر بشرته". وبينما يشق سجناء الفيلم نفقاً نحو الحرية، فإنه يتخيل أن باستطاعته "أن يشق نفقاً بصورة مباشرة عبر المكان الذي فقد فيه نفسه". ويفكر "بالهوة المظلمة اللامبالية التي يمكنه القول إنها نائمة في داخله". وفي مركز رواية (داي) هناك فضاء مظلم مماثل. وإذ اقتفت آثاره المادية والفكرية، كتبت كنيدي رواية عن الحرب العالمية الثانية عبر معرفتها بما الذي يتعين عدم تسليط الضوء عليه.
وأليسون لويز كنيدي، الروائية وكاتبة القصة القصيرة التي تكتب دائما بالحروف الأولى لاسمها (أي. أل. كنيدي)، ولدت في دوندي بأسكتلندا عام 1965. ودرست الانجليزية والدراما في جامعة وارويك، حيث بدأت تكتب المسرحيات ذات الممثل الواحد والقصص القصيرة. وكانت كاتبة مقيمة في مؤسسات عدة، ورئيسة تحرير لمجلات خلال سنوات التسعينات، حيث كانت، فضلاً عن ذلك، تنشر مقالاتها وعروضها النقدية في أهم الصحف والمجلات البريطانية. وحصلت على جوائز ادبية عدة، وكانت عضواً في لجنة تحكيم جائزة بوكر البريطانية المعروفة للرواية عام 1996.
كان كتابها الأول، الموسوم (هندسة الليل وقطارات غارسكادن) ـ 1990، مجموعة قصص تجري أحداثها في أسكتلندا. واعتبرت، مرتين، واحدة من بين أفضل 20 روائياً بريطانياً شاباً من جانب مجلة "غرانتا".
وظهرت مجموعتها القصصية الثانية (الآن وقد عدتَ) عام 1994، ومجموعتها الثالثة (الجنة الحقيقية) عام 1997. ومن بين رواياتها (التطلع الى الرقصة المحتملة) ـ 1993، و(إذن فأنا مسرورة) ـ 1995، و(كل ما تحتاجه) ـ 1999. وظهرت مجموعتها القصصية (أفعال يتعذر محوها) عام 2000. أما روايتها الموسومة (الفردوس) فقد نشرت عام 2004.
المدى ـ 25/12/2007