الصفحة الثقافية
الثلاثاء 26/9/ 2006
مفيد الجزائري لمجلة ألواح :
الثقافة ليست على الاطلاق ترفاً وان الحاجة إليها أكثر من ماسة
نشرت مجلة (الواح) التي تصدر في مدريد حواراً مطولاً مع الاستاذ مفيد الجزائري وزير الثقافة الاسبق :
مفيد الجزائري شخصية غنية عن التعريف، فهو من السياسيين - المثقفين العراقيين القلائل الذين أجادوا الموائمة بين العملين الثقافي والسياسي على مدى حياتهم، حيث دأب على تغذية وإغناء كل من هذين الميدانين عبر ملاقحته بالميدان الآخر. وكانت دراسته الأكاديمية في مجال الصحافة التي أكمل فيها الماجستير سنة 1966 ومارس العمل الصحافي في الستينات والسبعينيات صحفياً ومذيعاً، ثم مسؤولاً عن الإعلام في المكتب السياسي واللجنة المركزية في الحزب الشيوعي العراقي الذي هو عضو فيهما، كما هو عضو في البرلمان العراقي، والبرلمان العربي المؤقت، وكان وزيراً للثقافة في وزارتين متعاقبتين خلال الأعوام الأخيرة على مدى عشرين شهراً.. وأثناء قيامنا بتهيئة هذا العدد من ألواح انتهزنا فرصة زيارته إلى مدريد فأجرينا معه هذا اللقاء :الحديث عن نتاج ابداعي جديد حقاً، خلال الفترة الاخيرة، سابق لاوانه
عندنا في العراق ألاحظ بأسف وألم غياب الاهتمام بالثقافة عند معظم النخب السياسية
* ما هي برأيك أبرز السمات والخصائص التي طرأت على النتاج الثقافي، وخاصة الأدبي، العراقي خلال الثلاثة أعوام الأخيرة، بعد سقوط الدكتاتورية؟.
- الحديث عن نتاج إبداعي جديد حقا، خلال الفترة الأخيرة، حديث سابق لأوانه ربما، فما نشر من نتاج أدبي ونصوص هو في الغالب مما كان يلفه الظلام ومحروما من النشر في العهد السابق. وأبرز ما ظهر منه هو الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة، وهو متنوع، وكثير منه كان محتجزاً في مخازن الدار. وحتى المكتوب حديثاً من النصوص ما زال في معظمه يدور في مناخات الزمن الفائت. ولست أعتقد أن المرحلة الحالية، وهي مضطربة على كل الأصعدة، توفر للمبدع الاستقرار والمستلزمات الضرورية الأخرى للتأمل في الأشياء والظواهر ومحاولة سبر مكنوناتها بما يتيح معالجتها إبداعيا.
* هذا في ما يتعلق بالنتاج، فماذا عن الظواهر الثقافية الأخرى ذات الصلة بما هو اجتماعي وسياسي وسلوكي.. هل طرأت مظاهر جديدة تتعلق بالتقاليد الثقافية أو بدور وتعاملات المثقف العراقي مثلاً؟.
- من دون ريب، وأنا أحس بالارتياح، قبل كل شيء، لتنامي الشعور في أوساط المثقفين أن من واجبهم وبمستطاعهم - كفئة ذات رسالة اجتماعية معينة - أن يحتلوا موقعهم في الصراع الدائر على حاضر البلاد ومستقبلها، وأن يقولوا كلمتهم الجلية في الاتجاه الذي يخدم الثقافة والمجتمع. وفي اعتقادي أن هذا الشعور، إذا ما ترسخ وتبلور، يمكن أن يترك أثره الإيجابي على مجرى الصراع ونتائجه.
في المقابل برزت ظواهر سلبية، منها ما يتصل بموروث النظام السابق، مثل الدعوة إلى منح المثقفين رواتب من الدولة. فهذه الدعوة، اعترف أصحابها أم لم يعترفوا، تفضي في الواقع إلى إدامة تبعية المثقف للمؤسسة وللسلطة والدولة، بغض النظر عن طبيعة هذه السلطة أو الدولة. واللافت في الأمر أن كثيرين جدا من هؤلاء المطالبين بالرواتب هم من بين الأعلى صوتا في المطالبة بضرورة تأمين استقلال المثقف عن الدولة!.. لكن ما أقوله لا ينفي طبعا حقيقة أن من واجب الدولة اليوم، تقديم الدعم المادي الضروري وبالأشكال المناسبة إلى المثقفين، الذين يعاني اغلبهم الأمرين تحت وطأة الظروف المعيشية القاسية.
* وماذا تقول عن ظاهرة الحديث الذي بدأ التطرق إليه، فيما يتعلق بمسميات أو ثنائيات (مثقفين الداخل - مثقفين الخارج)، (الذين كانوا مع الدكتاتور - والذين كانوا ضده أو ليسوا معه) وما إلى ذلك؟.
- الحديث عن ثقافة الداخل وثقافة الخارج جاء من الخارج والداخل على حد سواء. وهو في غالب الأحوال نتاج سوء فهم أو عدم إدراك لحقيقة أن الثقافة العراقية واحدة على اختلاف الظروف التي تعيش فيها وتنمو. وان توافر أجواء لقسم من منتجيها تتيح لهم تماسا دائما وتفاعلا حيا مع الثقافات الأخرى في طمأنينة واستقرار وحرية، لا يجعلهم ينتجون ثقافة مغايرة بالمعنى الحقيقي لمفهوم الثقافة، بقدر ما يطلقون رافدا جديدا يثري الثقافة العراقية، وهي بحاجة ماسة إليه بعد عقود الحبس والعزل عن العالم الخارجي والثقافات الأخرى، ويفتح آفاقا أخرى أمام نموها وارتقائها.
لكن قسما من الحديث في الداخل حول ثنائية مثقفي الخارج ومثقفي الداخل جاء على لسان نفر من المثقفين والعاملين السابقين في المجال الثقافي، الذين شنوا في البدء حملة على زملائهم القادمين من الخارج (وهؤلاء قلة كما نعلم) بدعوى انهم هجروا العراق يوم كان جحيما ليفوزوا بنعيم الخارج، ثم عادوا اليوم ليفوزوا بالمناصب ويتنعموا من جديد " فيما نحن الذين بقينا متشبثـين بالوطن نعاني مرة أخرى ما نعاني"!
وفي ما بعد، وبذريعة ما نقل من حديث بعض مثقفينا في الخارج عن كون ثقافتهم هي التي واصلت حمل راية الثقافة العراقية فيما عجزت عن ذلك ثقافة الداخل التي جفف القمع ينابيعها، اتسع الهجوم ليشمل، ثم ليركز على الثنائية المذكورة. بعض المتابعين عندنا في الداخل يرجحون ان يكون الهجوم في واقع الحال دفاعا استباقيا، لأن هذا النفر حسب معطياتهم لم يكن بعيدا تماما عن النظام السابق، وقد بقي في الفترة الأولى التي أعقبت انهيار النظام في حال قلق واستنفار، خوف ما سيأتي. وحين لم يأت ما كانوا يخشونه، بل واخذ تطور الأحداث منحى يحد من قلقهم، اقدموا على التحرك بالصورة المشار إليها.
أما في شأن ثنائية الـ (مع وضد الدكتاتور) فلست شخصيا من أنصار المبالغة في التشدد، واعتقد انه ينبغي أن تتاح فرصة إعادة النظر في المواقف السابقة والاعتذار وطلب الصفح من الناس، لمن يريد أن يفعل ذلك مخلصا. أما من يصر على الإثم فلا تمتد إليه يد.
* ما هي طبيعة العلاقة الآن بين الثقافة والشارع العراقي..؟.
- أقام صدام حسين قطيعة مخيفة بين الشارع والثقافة، سنبقى زمنا يطول أو يقصر نواجهها ونعاني عواقبها. فدولته الاستبدادية كانت تقوم في أحد أسسها على حجب أنوار المعرفة عن الناس وإغراقهم في لجة الجهل، باعتبار أن الجاهلين هم من يسهل خداعهم وتركيعهم واستعبادهم. ونتيجة لذلك نشأ اكثر من جيل بعيدا تماما عن الثقافة، ومن دون أي شعور بالحاجة إليها وبالتالي من دون أي اهتمام بها. وهذه معضلة سيظل تذليلها وتجاوزها يواجهان كل من يفكر في العودة بالثقافة إلى موقعها الطبيعي كركن أساسي من أركان حياتنا، وحفز النهوض الجديد لواقعنا الثقافي.
في الفترة بين خريف 2003 وربيع 2005 سعيت والفريق الذي كان يعمل معي في وزارة الثقافة إلى رعاية التحركات المتفرقة التي بدأت هنا وهناك في الأوساط الثقافية، والى تشجيعها ودعم نموها وتوسيعها، أملاً في تحويلها مدخلا إلى إعادة الاعتبار للثقافة في حياتنا، وتأمين شيء من المتعة والغذاء الروحي لجمهورها القديم الذي حرم منها طويلا، والعمل على اجتذاب من لم يتذوقوا، بل ولم يتعلموا أن يتذوقوا طيباتها.
وفي سياق ذلك نظمنا كثيرا من الفعاليات الثقافية والنشاطات الإبداعية المتنوعة، بمشاركة أعداد متزايدة من منتجي الثقافة ومن بعض الجمهور. لكن هذا الجهد عجز عن التواصل بفعل عوامل مختلفة، يتصدرها التدهور في الأحوال الأمنية منذ ربيع 2004 بنحو خاص، والذي لم يكف عن التصاعد بعد ذلك.
في أجواء انعدام الاستقرار وتفاقم المخاطر الأمنية واشتداد الضغوط المعيشية والحياتية والنفسية لا يمكن للعلاقة الاعتيادية بين الشارع والثقافة إلا أن تضيق وتضعف. فكيف وهذه العلاقة في حالتنا غضة هشة، وقد عاودت النشوء أخيرا فحسب؟.
* نلاحظ، وكما هو غالب عادة ليس في العراق وحده، بأن الحكومات تولي اهتماماً أقل وهامشي فيما يتعلق بوزارة الثقافة وتشح كثيراً في تمويلها.. كيف تنظر إلى هذه المسألة؟.
- عندنا في العراق ألاحظ بأسف وألم غياب الاهتمام بالثقافة عند معظم النخب السياسية. وهذا الموقف يعكس من دون شك النقص الجسيم في الوعي بأهمية الثقافة كقيمة إنسانية وغاية بحد ذاتها، وكوسيلة لا غنى عنها لتحقيق أي تقدم حقيقي في المجتمع.
وقد صدمت وزملائي المثقفين الآخرين، في السنة الفائتة، بالموقف المتجاهل الذي جوبهت به مطالبنا المتعلقة بالثقافة في "مذكرة المثقفين العراقيين حول الدستور" التي قدمناها إلى لجنة إعداد الدستور.
في تلك المذكرة طالبنا بتضمين الدستور نصوصا تؤكد العمل على نشر المعرفة وجعلها في متناول فئات المجتمع وأجياله كافة، والعناية بالموروث الثقافي وحمايته وحفظه، ورعاية الثقافة إبداعاً ونشراً وإنتاجاً، وتخصيص نسبة ثابتة (1%) من الدخل الوطني سنويا للأغراض هذه، وأمور أخرى. وعندما طرحت مسودة الدستور في صيغتها النهائية للاستفتاء، وبرغم احتجاجنا على الصيغة الأولى في البيان الذي أصدرناه بتاريخ 18 أيلول 2005 تحت عنوان "في بلد الثقافة.. دستور بلا ثقافة!" لم نجد في تلك المسودة النهائية سوى عبارة عامة (المادة 35) تتحدث عن رعاية الدولة للنشاطات والمؤسسات الثقافية، والحرص على "اعتماد توجهات ثقافية عراقية أصيلة"!
أقول الحق انني اشعر بالقلق ازاء افتقار النخب السياسية، في غالبيتها، إلى الإدراك الكافي لدور الثقافة في إعمار مجتمعنا المدمر، خصوصا عبر إعادة بناء النفوس التي شوهها النظام المنهار بسياساته وممارساته عقودا عدة. وهذه الحقيقة هي ما يختفي وراء التقصير في اعتماد التخصيصات الضرورية للثقافة في ميزانية الدولة.
قلت مرات، شأن كثيرين من مثقفينا، واكرر هنا ان الثقافة ليست على الإطلاق ترفا، وان الحاجة إليها اكثر من ماسة، خاصة في مجرى إعادة البناء الشاملة في بلادنا. فهذه العملية لن تتحقق بالنحو المرتجى على يد الإنسان المجهَـل المستنزف، الذي خلـَفه لنا عهد الدكتاتورية، وزادته السنوات الثلاث الأخيرة إنهاكا روحيا أيضاً.
وهل يمكن أن نعيد العافية إلى هذا الإنسان من دون الثقافة؟.
* وماذا عن المستقبل.. ما هي آفاقه برأيك، وكيف ترى ما يمكن أن يكون عليه حال الثقافة العراقية مستقبلاً؟.
- سيعتمد حال الثقافة في المستقبل، إلى حد كبير، على عوامل عديدة، لعل أهمها: تأمين الإدارة الكفوءة للمؤسسة الثقافية، إشراك المثقفين في تحديد أهداف وتوجهات وأولويات العملية الثقافية وفي تنفيذها، توفير الأموال الكافية للعملية والمؤسسة الثقافيتين. ومن المهم أيضاً تنشيط وتوسيع دور المجتمع ومنظماته وهيئاته في الحياة الثقافية وفي توجيه ودعم الحركة الثقافية.
ويتوجب على المثقفين أنفسهم أن يدركوا أهمية دورهم في العملية الثقافية، وأن ينتزعوا هذا الدور بجهدهم ولا يقبعوا منتظرين أن يتفضل به أحد عليهم، من السياسيين أو من غيرهم.