الصفحة الثقافية
السبت 27/9/ 2008
من تاريخ مأساة تجربة المسرح والثقافة العراقية
حوار مع د. فاضل سوداني
القسم الثالثأجراه : د. عبد الرحمن بن زيدان
س :.في كتاباتك النقدية تقدم منظورا حداثيا أثناء الدعوة إلى التفاعل مع الجسد كمفرد بصرية تخلق الصورة في فضاء الطقس الاحتفالي للمسرح لتحقيق البعد الرابع للزمن والفضاء،وتدعو ـ أيضا ـ إلى إيجاد مؤلف خاص بالنص البصري،بعيدا عن اللغة الأدبية،ما تفاصيل هذا المنظور ؟
معادلة تغيير الرؤية الإخراجية ومستقبل العرض البصري
الدكتور فاضل سوداني :
إن مفهوم البعد الرابع يحتم تغيرا في القوانين السرية لفن العرض المسرحي الذي يشمل : النص المسرحي بحيث يتخلى عن كونه نصا أدبيا ويتحول إلى نص بصري ، و يفرض تغيرا في الرؤية الإخراجية،أي فضاء العرض في الطقس المسرحي بكل مكوناته الجمالية والتكنيكية.ومفهوم التفاعلية ،أي تحول الجمهور من المتلقي السلبي إلى متلق ديناميكي متفاعل ، وكل هذا احاول ان ادعو له واؤسس بعض جوانبه .
س:كيف يمكن أن تتحقق هذه المعادلة ؟
الدكتور فاضل سوداني :
إن هذا يدعوني إلى تناول بعض من مفاهيم البعد الرابع ومعمارية السرد الرؤيوي في الإخراج البصري وكتابة النص البصري الذي ادعو له ، لان موت المسرح المعاصر يكمن في حيثيات سوق العرض والطلب التجاري والمباشرة وهامشية معالجاته لمشاكل الذات والمجتمع ،وكذلك سذاجة اهدافه التي تتحول دائما في المسرح العربي ( ماعدا بعض الاستثناءآت) من افكار وقيم انسانية عالية الرقي والمستوى الانساني الى خدمات إعلامية ، والمشكلة الاخرى هي سيطرة اللغة الأدبية السردية الثرثارة في العرض المسرحي .أما مستقبله فيكمن في لغة النص،وفي علامات العرض البصرية وأسرارها ،والمساهمة في إغناء الوعي الجمالي للمتفرج المتفاعل . ولكن أية لغة هذه التي من المفترض أن تؤثر على البصر والبصيرة ؟
يرتكز النص البصري الذي ينبئنا بمستقبل العرض البصري على ركيزتين أساسيتين هما : اللغة الأدبية البصرية (البعد البصري والمادي للكلمة ودلالاتها التأويلية )،ولغة التداعي البصري للأنساق البصرية في الفضاء الإبداعي ( أي الحوار بين ذاكرة الجسد وتداعيات الفضاء بما فيها ذاكرة الأشياء والأنساق الأخرى ، وبين الفنان البصري ـ المخرج والممثل ـ و المتفرج).
إن هذين الجانبين، اللغة الأدبية البصرية والتداعي البصري للأنساق،هما اللذان يعيدان خلق اللغة الفنية بصريا، سواء أكان ذلك في النص أو كان في العرض ، فمن خلالهما يمكن أن نعيد الكلمة وأبعادها الأدبية السردية والحوارية إلى كينونتها التأويلية والدلالية والبصرية في زمن جديد هو زمن العرض البصري .
إنني هنا أدعو ا إلى نص بصري، وعرض بصري، وجمهور متفاعل، أي مبدأ التفاعلية في المشاهدة التي ادعو لها بدلا من النص الأدبي والعرض التقليدي والمتفرج الهامشي.
وفي الطقس المسرحي البصري الذي ، يتحول الزمن الواقعي فيه إلى زمن فني يشكل بعدا ميتافيزيقيا ، أي زمن الرؤية والحلم والواقع اللامرئي في حركته الديناميكية . وهذا يعني الطاقة السرية الإبداعية للفكر والخيال واللاوعي لتحقيق مفهوم البعد الرابع للزمن والفضاء في العرض المسرحي .
فإذا كان الزمن الواقعي يتشكل من الماضي والحاضر والمستقبل، فإن الزمن الإبداعي يشكل بعدا رابعا. فالماضي في العرض ( الطقس ) المسرحي هو ماضي الأحداث والشخصيات المنجزة من قبل المؤلف،يعرضها الممثل والمخرج لمناقشة مأزقها وسؤالها المصيري ،ومتابعة مصائرها وقدرها أمام المتفاعل( الجمهور ) من أجل إغناء روحه، وكشف تلك الحقائق اللامرئية في الحياة والوجود وتاريخ البشر .
والحاضر هو آنية وجود (وماهية ) الممثل ( الإنسان )، مضافا إليه ( ماهية ووجود ) الشخصية التي يمثلها (كفنان)، فيلتحم بها، أو يتماهى أو يغربها، وهي في ماضيها وتاريخها،وقبل وجودها في زمن الإبداع الآني،أعني الاحتراق في لحظة الخلق على المسرح باعتباره فن اللحظة .ولهذا فإن الحضور الآني للممثل يعد حاضرا للممثل والشخصية في ذات الوقت، والتي إما أن يتماهى بها، أو يغربها، لأن وجودهما اللحظوي هنا يعني وجودا إنسانيا جديدا يتكشف بصريا ورؤيويا (الآن في فضاء العرض)،فيصبح وجودا ديناميكيا ،حياتيا، إبداعيا . وهذا يعني حسب ( هايدجر ) آنية لحظوية ( أي حضورا آنيا )، إضافة إلى ماض متكدس . ولهذا فإن تاريخية الشخصية هي حاضر الممثل أيضا عندما يكون موجودا الآن وفي لحظة الفعل، أو في الهذيان الإبداعي الرؤيوي المنظم . ( لأن الممثل يقوم بعرض ماضي الشخصية، ويقوم بتغريبه وتحويله إلى حاضر آني في لحظة تفاعل الجمهور معها)، ويؤثر كل هذا في إعادة خلق الحدث والشخصية من جديد .فالتاريخية( حسب هايدجر ) تفهم من خلال علاقة الحاضر الآنية، ( الحضور اللحظوي = الوجود الإنساني)، بالماضي المتكدس والمتراكم(ضمن اللحظة الإبداعية)،وليس وفقا للماضي كمفهوم زال وانتهى، إذن، هنالك استمرارية، وهناك وجود ديناميكي وعلاقة تأثيرية متبادلة بين حاضر وماضي الشخصيات، والأحداث، والممثل كإنسان وفنان وطاقته الإبداعية ،وكل ما يحتويه فضاء ومتن النص في الطقس المسرحي لتحقيق الرؤية البصرية .
أما المستقبل، فهو ذلك السؤال الذي يطرحه الفنان والعرض المسرحي (الطقس)على المتفاعل( الجمهور )، وهو سؤال مرتبط بالحياة والواقع والمدينة والكون و الإنسان في وجوده الآني. إذن فالمستقبل الغامض الذي يطمح الطقس المسرحي في الكشف عنه يعني ذلك السؤال المصيري الوجودي الذي يقلق الفنان والمتفاعل ( الجمهور ) في ذات الوقت.
غير أن لحظة تقريب وتلاحم هذه الأزمنة الثلاث تشكل تلامسها، وهذا يعني تشكيل الرؤيا الإبداعية والتأليف الرؤيوي والفكر الإخراجي،أي أن عمل المخرج الإبداعي يتجسد في تقريب هذه الأزمنة الثلاث فيما بينها في التلامس من أجل خلق بعد رابع هو البعد الإبداعي الشعري الذي يكون رؤية الفنان البصرية . وهذا التلامس هو الذي يخلق العرض الجديد .
بهذه الوسائل ـ فقط ـ يقوم المخرج بإعادة كتابة وبناء النص ( البصري ) أصلا من جديد . ومن هنا فإن هذا النص يجب أن يكون ضد الأدب في مفهومنا البصري، بمعنى أن يكتب للمشاهدة وليس للقراءة لتحقيق الطقس المسرحي في فضاء المدينة المعاصرة.
وبهذا فإن النص في الطقس المسرحي البصري، ضمن مفهوم بصريات النص، والبعد الرابع، يجب أن يكتب بوعي بصري ورؤيوي منذ بذرته الأولى . أي أن حجم ومستقبل الفعل والحدث و الحركة و المادة والصمت المتوتر والرموز والإشارات، لها كثافتها وحجمها و ديناميكيتها وأبعادها ضمن الزمن والفضاء الإبداعي على خشبة المسرح، وليس على الورق. لأن المؤلف المسرحي صاحب الرؤية الأدبية ، عادة لا يهتم ، بل غير قادر على امتلاك الإحساس بأبعاد الفضاء المسرحي وديناميكية الإيقاع، وحجم الأحداث، والفعل والتكوين في العرض المسرحي(أي على خشبة المسرح )، بل يعتبره خارج اختصاصه، وإنما يهتم بالدرجة الأولى بالجوانب اللغوية والبناء المعماري الأدبي للنص، وبناء الشخصيات وفرض قوانين الأدب .
ولهذا فإننا يمكن أن ندعو النص المسرحي غير البصري ، بالنص الأدبي المغلق، النص الميت، لأنه ذلك النص الذي يتحدث بالوسائل الأدبية عن كل الأجوبة حد الثرثرة، ولا يتعامل مع فضاء العرض البصري، وإنما يكتب بلغة الأدب.
إن مؤلف النص الأدبي المغلق في المسرح، يعمق اغتراب نص العرض والفضاء الإبداعي ومهمات المسرح، عموما، أمام المتفرج المتفاعل ، لذلك فمثل هذا النص هو اغتراب لآنية العرض البصري و للمتفرج في ذات الوقت . لأنه كتب ضمن انشغالات تهدف إلى تحديد وتركيز وهيمنة الأطر الأدبية على فضاء العرض ،وإهمال الوسائل البصرية وجعلها ثانوية ، أو جعلها تخدم البعد التفسيري للصياغات الأدبية وثرثرة المضامين الواقعية والنفسية المقيتة ، وبهذا فإن النص المغلق هنا، لا يسمح بالإمكانيات البصرية للمخرج والممثل، بل يحدد أفق خيالهما،وخاصة القدرات التعبيرية للممثل التي تعتمد على أطلاق الأسرار الإبداعية لذاكرته الجسدية المطلقة ، والتي لا يتكامل إبداعها إلا في فضاء ديناميكية العرض البصري.
ومن جانب آخر، فإن النص الأدبي، والعرض التقليدي غير البصري ، يخلقان الاغتراب أيضا في وعي وروح المتفرج، ولا ينسجمان مع طبيعة الحوار الذي يتم بين العرض البصري والمتفرج المتفاعل، وبذلك يفقدان الاتصال فيما بينهما.
وهنا تصبح مهمة المؤلف المسرحي مزدوجة، فبالإضافة إلى قدرته على فهم الصنعة الأدبية، عليه أن يمتلك حساسية وفهما دقيقا لقوانين العرض المسرحي بحيث تتحول الكلمة والصور الشعرية ـ الأدبية، وكل رموز العرض إلى رؤيا بصرية.وهذا ما يحقق مفهوم النص البصري وتداعيات الذاكرة المطلقة لجسد الممثل، وهذا يدفع بالمسرح إلى أن ينتمي إلى مسرح ما بعد الحداثة ،أما التمثيل في فضاء الطقس البصري فهو الإيقاع الداخلي لموسيقى المهارة ، وهو الرقص المتوتر والعنيف في دوامة الفضاء الإبداعي الملتهب للتعبير عن موسيقى ومثيولوجيا الجسد وعلاقته بالأشياء. وهذا ما يفرض ما أدعوه بالذاكرة الجسدية البصرية المطلقة للممثل، أي هي القدرات وأسرار الجسد البصرية باعتباره ذاكرة بصرية ديناميكية لاترتبط بالماضي بل بالحاضر والمستقبل ، و هذا يعني كينونة الجسد البصرية . ومن خلال هذه الذاكرة الجسدية، يخلق الممثل لغته البصرية . هذا ما ندعوه بميتافيزيقا الذاكرة لجسدية البصرية المطلقة،و النص البصري الذي يوحي بتداعي الرؤيا الإخراجية البصرية ، يجب أن يسمح بمساحة لإعادة خلق كينونة المكان الفضائي، أي سينوغرافيا الفضاء البصري الذي هو زمن إبداعي مكثف في الفضاء ، يمنح وجودا جديدا ومستقلا لذاكرة الأشياء ولجسد الممثل ولدور الأنساق البصرية الإبداعية الأخرى .
إن وجود الممثل في الفضاء في علاقة ديناميكية مع المادة، أو الشئ هو من أجل إنتاج معنى محدد وصورة . ويمتلك جسد الممثل طاقة إبداعية سرية يمكن تحقيقها من خلال مفاهيم "انتونين أرتو" و"غروتوفسكي" و "مايرهولد" ، وطقوس الوجد الصوفي الإسلامي .
و لهذا فإن فضاء الطقس المسرحي يمكن أن يكون معبرا ـ فقط ـ من خلال لغة الهذيان الإبداعي للجسد، وارتباطه بالمادة التي يتعامل معها. حيث أن المادة ، أو الشئ في الفضاء الطقسي، أصبح لهما وجودهما المستقل والمعبر، وأن الجسد هو مادة وشكل وصورة له وجوده وإيقاعه الخاص في فضاء الطقس . فمن خلال الإيماءة، والحركة المعبرة، وعلاقتها بالمادة، يمكن اكتشاف لغة تعبير، وهذه اللغة تحقق بعدا جديدا للزمن والفضاء في الطقس المسرحي.
إن هذيان الجسد التعبيري يؤدي إلى هذيان الأشياء المحيطة، فيعيدها،ويحدث نوع من التحول في وجود هذه الأشياء التي يتعامل معها الممثل . وعندما تدخل هذه الأشياء في العملية الفنية، أو في المملكة التعبيرية للمخرج و للممثل، فإنها تفقد وظائفها الحياتية الواقعية، ويمنحها الممثل والعرض معاني ووظائف جديدة لها إيقاعها ومكانها في الفضاء والزمن.
فالكراسي في مسرحية "يوجين يونسكو"، خلقت هذيانها الوجودي عندما تعامل معها الممثل بشكل مختلف وفي معنى مختلف أدى إلى أن تحقق وجودها في فضاء العرض .
ولا تعني دعوتي لكتابة النص البصري إلى إلغاء الكلمة، أو إلغاء الوسائل اللغوية الأخرى عموما، وإنما على العكس، فإن الكلمة تصبح إحدى الوسائل البصرية المهمة لتحقيق النص البصري إذا أحسن انتقائها ، وإذا استطاع المؤلف أن يحولها من كلمة أدبية إلى بصرية تصبح جزء من تحقيق المشهدية البصرية في العرض .
وهذا كله يفرض أسس كتابة النص البصري في زمن مابعد الحداثة، ويوحي، بل يفرض، أيضا بعدا رابعا للزمن والفضاء البصري في العرض المسرحي .ومجموع هذه الوسائل تحقق ما أطلق عليه بالبعد الرابع للزمن والفضاء في الطقس المسرحي البصري. وهذا يعني تحقيق فن النوايا الخفية، فن الحركة والإيماءة والصورة البصرية المشحونة بالمعنى والرمز المطلق والمستحيل والشعر والسحر. إنه فن السر المباح ـ فقط ـ في حضرة الجمهور المتفاعل في فضاء مقدس، إنه الفن المرئي. والرؤية الخفية لتوضيح التباسات الوجود، والتشابكات الغامضة في مجتمع مدينة تليق بالإنسان المعاصر .إذن، أنا أدعو إلى تحقيق البعد الرابع في زمن وفضاء العرض المسرحي الذي يجدد جميع المكونات والأنساق الإبداعية لفضاء المسرح.
س:.أين يكمن البعد الفكري في هذا المسرح البصري؟
المسرح البصري والالتزام بمشكلة الإنسان الأزلية
الدكتور فاضل سوداني :
لا يعالج العرض و النص المسرحي البصري ماضي وحاضر الإنسان وعلاقته بمجتمعه ومدينته فحسب، بل يتنبأ بمستقبله أيضا،و هذا يجب أن يساعدنا على اكتشاف الطريق نحو النص المسرحي العربي المؤسس، والغني بالحكمة والفلسفة والأسطورة والطقس ومحاججة، مسلمات الواقع بعقل ديناميكي شمولي مشاكس، ومن ثم رفضها جذريا ـ بلا أسف ـ إذا اقتضت الضرورة ، وبالتأكيد فإن الجانب الفكري في المسرح البصري سيتحقق من خلال الأفكار التي تعطي بعدا جديدا للعميلة المسرحية الإبداعية برمتها،والتي تشمل كتابة نصا فاعل وحيوي بعيدا عن النصوص المتكيفة مع الواقع الذي لا يعبر عن الجوهر الحقيقي للإنسان ، وبعيدا أيضا عن مفاهيم التراث السلفي ، و لا يتحقق هذا إلا بوجود فكر بصري يمتلكه مؤلف مسرحي له القدرة على الرؤية البصرية وليس الأدبية فقط . و بالنسبة للمسرح الأوربي،فإن البحث عن البصريات كان هو السبب الحقيقي الذي دفع بـ "أنتونان أرتو"، و"مايرهولد"، و"بريشت"، و"بيتر بروك" إلى اللجوء للطقوس والأساطير الشرقية . وبالتأكيد، لا يقتصر البعد الفكري على معالجة الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما هو الحال بالنسبة إلى المسرح التقليدي ، وإنما يكمن الجانب الفكري للمفهوم الذي ندعو له في الكشف عن الأسرار والجوانب اللامرئية من مشكلة الإنسان الأزلية وفي طرح تلك الأسئلة التي تقلق الجمهور حتى يعمل حياتيا ووجوديا على إزالة الصدأ الفكري لديه،ويتم هذا من خلال مفهوم البعد الرابع الذي هو ذلك البعد الإبداعي الرؤيوي والبصري الذي يتشكل من نص بصري ورؤية إخراجية بصرية والذاكرة الجسدية للممثل، ومجموع الوسائل والأنساق البصرية المعاصرة لتوصيل الرؤيا للجمهور المتفاعل.
س :تقترح مجموعة من الشروط التي يجب أن تتوفر في هذا المخرج ،منها أن يتعامل مع الممثل كجسد يمتلك قدرة مخفية يجب أن يفجر منها الذاكرة الميثولوجية والتاريخية والتعبيرية لإنتاج لغة بصرية للتواصل مع المتلقي.كيف تحقق ذلك في تجربتك الخاصة؟ومع أي متلق ستتواصل في المنفى؟
تكامل اللغة في بناء عرض النص البصري والتحرر من العواطف الثرثارة
الدكتور فاضل سوداني :
في المسرح البصري يشكل الجسد وذاكرته المطلقة ،والأنساق الأخرى التي تحقق البصريات ، تشكل لغة تواصل فيها الكثير من التأويلية و الشاعرية والتفرد .لهذا يمكن الحديث عن ذاكرة جسد الممثل، وذاكرة الأشياء، وإعطاء غير المرئي الكامن في الشئ شكلا مرئيا ووظيفة بصرية أخرى.
إذن،فجسد الممثل هو وجود وكينونة وطاقة مشبعة بالدلالات والرموز البصرية والسميولوجية . وكما يمكن التواصل بالكلمة،كذلك يمكن تحويل الجسد إلى لغة تعبيرية من خلالها يمكن التواصل مع الجمهور بمفردات لغوية رؤيوية وبصرية غير أدبية .فالصمت المعبر له مكانته كلغة للممثل للتعبير عن شعرية الفضاء، وكذلك الحال مع الرموز والإحالات التي لها أبعادها الفلسفية، والتي تصل إلى وعي وأحاسيس المتفاعل بكل تكثيف، وبدون ثرثرة أو ضجيج فائض.
ومن هذا المنطلق، فإن المخرج هو راء متفرد نتيجة لرؤيته الإبداعية الخاصة التي تتشكل في زمن مأزوم دائما.ومثل هذا المخرج الرائي في مفهوم ما نطلق عليه بالبعد الرابع، يكون كالشاعر الرائي، حيث هو الذي يستشف بكل حواسه وكيانه ما وراء الأشياء ، وهو الذي يضع يده على الجوهر الخفي في كل مظهر من مظاهر الوجود بما فيه الواقع المرئي واللامرئي .
وأستطيع أن أؤكد ،بلا حرج، أن بحث المخرج، من أجل تكامل لغته، يكمن في ما وراء النص وما وراء الإيماءة ، ما وراء الميزانسين ، وما وراء الفعل والحدث ،وما وراء سينوغرافيا العرض ، ما وراء الصورة ، ما وراء الفضاء المسرحي وزمنه .
فمن الضروري أن يتحرر المسرح والدراما ـ بشكل عام ـ من الغموض والالتباس السيكولوجي والعواطف الثرثارة ، ومن أجل هذا، يعمد المخرج إلى التأليف بالجسد،وبالحركة، وبالصورة،وبالسينوغرافيا، واللون والضوء والرائحة وسينوغرافيا الفضاء.
إن الكثير من المخرجين يتعاملون مع جسد الممثل بوظيفته الحياتية اليومية، وكذلك يفعل الممثلون في المسرح التقليدي حيث لا يتعاملون مع أجسادهم كذاكرة جسدية إبداعية، وإنما كتاريخ حياتي يومي، وهنا يكمن جوهر الاختلاف.وهنا لا يمكن عزل جسد الممثل في الفضاء الإبداعي عن الأشياء التي تفرض وجودها في الإبداع. وتحققت ذاكرة الأشياء، وديناميكية مثيولوجيا جسد الممثل ـ مثلا ـ في مسرحية "الرحلة Terra Nova Teatre الضوئية"على المسرح في "كوبنهاغن"، وهي طقس رؤيوي عن وجد الفنان "فان كوخ "حيث تحول حوض الاستحمام منذ البداية إلى تابوت وقبر عندما يشاهد الجمهور "فان كوخ" ميتا فيه ، ومن خلال طقوس تقديم زهور عباد الشمس وطقوس اللطم الجسدي، يقوم "فان كوخ" من موته ليبدأ تقديم أسرار وجده أمام مرضى المصحة النفسية التي سجن فيها وأمام الجمهور، إنها القيامة التي تكشف عن السر، وتعلن عن خلود الفنان.ومن خلال طقوس الحضور المكثف الذي تقوم به المرأة المليئة بالأسرار لمساعدته على إنجاز رحلته الضوئية المصيرية ـ حتي يريد أن يحول اللون الأصفر إلى نور ـ وهدفها أن يصبح ملكها في النهاية حتى تعبث بمصيره ما تشاء وكأنها الموت ،لكن بهذا بالذات،امتلك "فان كوخ" خطوته الضوئية للعبور نحو المستحيل، أو اللمبو، أو الفردوس الإبداعي.
ومن جانب آخر فإن المرأة الأخرى.. المرأة الملاك عندما تقوم بعملية تطهيره حتى تتوسع رؤياه في رحلته الضوئية، ليرى الغابة البنفسجية المعلقة بين السماء والأرض، فإنها تعمد إلى تطهيره بالضوء، و بزهور عباد الشمس المنقوع بالماء المقدس …الماء الزلال.. الماء الذي هو جوهر الحياة الذي يحيل ظلام البصيرة إلى رؤيا.
وبمعنى آخر، إن الحوض فقد وظيفته الواقعية عندما تعامل الممثل معه تعاملا مختلفا أنتج معنى جديدا، وكذلك الحال مع زهور عباد الشمس.وأيضا فإن شخصيات ـ مثل صديقه "غوغان"، وأخاه "ثيو"ـ كانت تماثيل حجرية لها توترها و وجودها في فضاء العرض . ولكن تعامل الممثل "فان كوخ " معها منحها حياة وحيوية في ذاكرة ووعي الجمهور بمساعدة ذاكرة الأشياء وجسد الممثل. أما المرايا التي استخدمت في زمنها الميتافيزيقي الإبداعي، فإنها لم تعكس وجه الإنسان ، وإنما عكست دواخله وذاته أيضا ،أي أنها عكست القناع الحقيقي للإنسان .من خلال ارتباطها بالكلمة الإيحائية ذات الدلالة الشعرية . و عكست تلك الهوة بين الإنسان ومرآته الداخلية .
( هو : " من خلال الحجاب " انظر إلى هذه المرآة لتراني . "فترة " ماذا ترى ؟
فان كوخ : أرى وجهي يحمل ملامح غريبة .
هو : ( يبتسم ) إنك ترى وجهي وليس وجهك .
فان كوخ : ( فترة ) حقا أنت تشبهني . لم أُلاحظ هذا من قبل .
هو : إن الوجوه متشابهة، وتحمل ملامح موتها . أنت إنسان غريب في عالم وحشي . ولأنك أكثر حساسية من الآخرين سيكون عذابك عظيما.
فان كوخ : إذن كانت رحلتي عبثا ؟
هو : كلا … يجب أن يكون الفنان كالقديسين . خذ .. خذ زهور الجنون هذه لكي تساعدك على الرؤيا. ( يناوله زهور عباد الشمس )، وعندما تعود من المكان الذي أتيت، أستيقظ مبكرا ليلة سقوط القمر عند بوابات البحر، واستحم بزبد أمواجه، وادهن جسدك وعينيك بهذه الزهور، حينذاك سترى الغابة البنفسجية المعلقة بين السماء والأرض ….تذكر ليلة سقوط القمر..عندما يتحول إلى ظلام.. ظلام .. ظلام. ( وهو يختفي ) « أيها الإنسان الحر دائما ستحب البحر "..البحر .. البحر..البحر. داتا .. دايا .. داميانا ) .
أما بالنسبة إلى الجمهور، فلا هو ولا مكونات العرض البصري يخضعان لجغرافية ومكان وزمان ما ، وإنما كل جمهور يخلص للمسرح يكون هو جمهور البصريات الذي يفهم هدف عرض المسرح البصري ، إنه بحاجة له، لأن الجمهور بحاجة إلى الجمال، وبحاجة إلى المسرح البصري يخلق المعرفة الفكرية واللذة البصرية. إن الجمهور في الطقس المسرحي البصري، يجب أن يتحول إلى متفاعل ( أي يكف ان يلعب دور المتفرج والمتلقي الساكن والمتكيف لمختلف الأفكار والوصايا الجاهزة ).
أما المتلقي في الطقس المسرحي البصري المبني على البعد الرابع للزمن والفضاء، وباستخدام النص البصري، فيتحول إلى متفاعل بعد أن يعديه الفنان برؤاه البصرية. والاختلاف جوهري بين المتلقي والمتفاعل في المسرح المعاصر . وهذا الاختلاف ناتج من كون الفنان أصبح هو فاعل تاريخه الشخصي، أو تاريخ الذين يتفاعلون معه ( فنانون ـ جمهور ) ،ولهذا فإنه يخلق هذا التاريخ في فضاء الطقس أمام مشاهد متفاعل، لايشارك بوعي روحاني ـ كما في الطقوس الدينية ـ بل يتفاعل من خلال السؤال المصيري المعاصر الذي يطرحه الفاعل الذي يمتلك معادلا موضوعيا للواقع .وبهذا فانه يُدخل المتفاعل في شبكة الاقتناص ، أو في دائرة النار الرؤيوية المسرحية الجحيمية المقدسة . عندها يمتلك هذا المتفاعل باب الرؤيا، فيرى حياته المسترخية التي مازال يمارسها حتى هذه اللحظة كهاوية مظلمة، فيصاب بالرعب إزاء ماهيته ووجوده ومصيره المستقبلي.
ضمن هذه المعادلة يظهر الاختلاف بين (المتفرج ـ المتلقي ) وبين ( المتفاعل ) . فالأول على طول تاريخ المسرح، كان ملتاثا في البحث عن الأجوبة السلبية والوصايا التي تعمق حالة الاسترخاء في حياته ( وفي الاسترخاء يكمن الصدأ )،ويبتعد عن الأسئلة المصيرية والوجودية التي تقلقه . فهو غير مهيأ في للدخول في تواصل إشعاعي، سري مع الفاعل ( الفنان ).
فالمتفاعل في الطقس المسرحي البصري المبني على مفهوم البعد الرابع فإنه يمتلك الرغبة الكاملة والاستعداد للدخول في النار المقدسة، أي التفاعل مع الفنان لامتلاك الرؤيا، وأن يكون مفكرا في المسرح. فمن خلال بحثه وتقبله الأسئلة المصيرية، والتفاعل معها ـ وهي عادة أسئلة صعبة تمس وجوده ومصيره فتثير قلقه ـ ومن خلال تأثير الدلالات التعبيرية ـ اللغوية للصورة الجمالية الفنية يكون مستعدا للتغير والتواصل. وبهذا فإن المتفاعل عندما يمتلك الرؤيا، فإنه يقوم بالعبور إلى المكان المقدس ليرى فردوس الإبداع الحقيقي.
س :.من هذه الأطروحات والقناعات والمشاريع التتظيرية والنقدية كيف يمكن أن تكشف لغتك الخاصة في المسرح داخل لغة المسرح العربي في المنفى وأنت تستحضر مسرح الصورة ومسرح القسوة ومسرح المضطهدين و الذاكرة المسرحية العراقية ؟
المسرح الجاد هو مسرح النخبة
الدكتور فاضل سوداني :
يبدو المسرح البصري ومكوناته وأساسياته في الرؤيا الإخراجية التي تعتمد على البعد الرابع للزمن والفضاء في الطقس المسرحي والنص البصري، وكذلك ذاكرة جسد الممثل المطلقة ومبدأ التفاعلية في المشاهدة ، يبدو كل هذا وكأنه يدعو ويثير النخبة فقط من الجمهور، نعم المسرح الجاد هو مسرح النخبة .وبما أنني أؤمن بأن التذوق و اللذة الإبداعية لا تقتصر على النص الأدبي ـ فقط ـ وإنما على جميع وسائل البصريات ،فأساسيات المسرح البصري التي ذكرناها لا تعتمد على الكلمة والنص الأدبي ـ فقط ـ وإنمايكون من الضروري التقبل والتأثير الإيجاب للذة الفكرية في توعية الذات ، وهذا يعتمد أيضا على البصريات بما فيها الكلمة البصرية التي يعرف المؤلف البصري في العرض البصري كيف يخلصها من جذرها الأدبي . لماذا نفترض أن هنالك ضرورة لتقديم مسرح ساذج يعمم الجهالة في كل شئ،سواء بالنسبة إلى نص المؤلف، أو بالنسبة إلى نص البصريات . إن المسرح الأدبي مسرح جاهل لأنه يعطي المتفرج كل شئ وبجاهزية عالية ، لهذا فإن المسرح السيئ ينتعش الآن،لأن النخبة الحقيقية سواء كانت جمهورا أو فنانين تخلوا عن المسرح الجاد وباعت نفسها وأفكارها للمسرح التجاري بسبب سوء الأحوال المعاشية لهم ،بالرغم من أنهم يعيشون في بلدان تمتلك اقتصادا غنيا . والمفروض أن يكون المسرح ضد جاهزية الجهالة وتكاملها ، لأن هدفه هو خلق الجدل بين عقل الإنسان وروحه وبين عصره الذي يعيش فيه ،وهذه الأسئلة هي الجوهرية في عملنا . وإذا رفضت السلفية العربية والعقلية الإقطاعية المسرح كما هو واقع ،وإذا تخلت البرجوازية المثقفة عن مسرحها التنويري، فلا بد أن تنتعش الجهالة المسرحية والفنية، ولابد أن يعم المفهوم الخاطئ في المسرح في كون وظيفته لا تقلق الجمهور بأسئلة مصيرية ، وإنما يعالج مشاكل المجتمع ،وهذا بالتأكيد انحراف في مفهوم دور ووظيفة المسرح ، لأنه لا يعالج مشاكل الناس، وإنما يطرح الأسئلة التي تقلقهم ـ فقط ـ سواء كانت كونية ـ مصيرية ،أو اجتماعية وواقعية. وأسئلة المسرح هي: ما المشكلة ولماذا ؟ أما الجواب فعلى الجمهور أن يبحث عنه في حياته وواقعه وحياته.
وهنالك قضية أخرى لها علاقة بلذة النص، وتذوقه الجمالي والفكري، وبالتأكيد فإن هذا شئ ضروري للنص البصري أيضا قبل أن يمتلك ضرورته للنص الأدبي،ولكن هنا يتم التذوق هذا من خلال مفردات النص البصري وأنساقه التي هي ليست فقط الكلمة ووسائل اللغة الأدبية ، وإنما لذة النص البصرية تتم من خلال جميع وسائل النص البصري التي مر ذكرها ، فبدل الاعتماد على الكلمة ـ فقط ـ لتحقيق لذة النص ، أصبحت الوسائل البصرية تعتمد على مفردات الصورة والتصور والتخيل والبعد الميتافيزيقي لذاكرة الجسد وذاكرة الأشياء وغيرها،وهذه كلها إضافة إلى الكلمة البصرية التي أصبحت تشكل لذة بصرية جديدة للقارئ أو المشاهد المتفاعل،وتؤثر على جميع حواسه،وهو في محيط ديناميكيته التفاعلية عند تلقيه للنص البصري.
فالمخرج وتداعياته البصرية ( مؤلف وخالق الفضاء البصري للعرض )، والمؤلف (مبدع النص البصري الذي أوحي بالعرض البصري المستقبلي )، والممثل، وذاكرة جسده البصرية يكشف النص و العرض البصري تلك الصور ،ويكشف أسرار الحوارات واللغة المستترة والصور المشعة والمثيرة ببراءتها والأصيلة لتبهرنا وكأنها تنبثق من السديم النائي في البرزخ الكوني . كل هذا يؤسس ما ندعو له، أي البعد الرابع في الفضاء والزمن في العرض المسرحي.
ولذلك فإن التداعي البصري للأنساق الذي يمنحه خيال الفنان البصري هو زمن يؤثر بصريا على المتفرج،ويؤدي به إلى امتلاك لذة التفكير في جوهر زمني ـ بصري إبداعي جديد ( العرض البصري الإبداعي) أي يضعه في زمن الإبداع والحلم وميتافيزيقا الخيال .
ولكي يفهم القارئ قصدية وبصرية العرض والنص البصري المفتوح الذي ندعو له ـ وهو على خلاف السرد في النص الدرامي الأدبي المغلق ـ لأنه تأويل بصري دلالي(ظاهراتي) يعتمد على الزمن البصري، (أي تلامس الأزمنة الثلاث: ميتافيزيقيا الذاكرة المطلقة للجسد، والمخيلة ،والرؤيا البصرية)، والممثل فيه يمتلك ذاكرة جسد بصرية تتوهج تأويلا إبداعيا من خلال تداعي فكر للمخرج البصري، لأنه يمتلك رؤيته الحرة في ظروف الفضاء البصري ، وهذا التداعي البصري للمخرج ضروري لخلق الرؤيا الجديدة للنص البصري و بحضور الممثل وميتافيزيقيا ذاكرة الأشياء . والمسرح البصري ويؤكد ـ أيضا ـ على ميتافيزيقيا الصورة ،وديناميكية اللغة البصرية،وعلى ديناميكية الأسئلة.وفي هذا المسرح تكون الكلمة والإيماءة والحركة والصورة البصرية علامة مرئية ومسموعة ، ولهذا فمن الضروري ـ أيضا ـ في المسرح البصري، أن يبرز إيقاع الزمن الفني البصري المسموع والمرئي . وخلاصة القول إن جوهر هذا المفهوم هو من أجل الوصول إلى تأويل رؤيوي بصري مادي في الفضاء البصري ، ومساعدة البصيرة التأويلية ( للجمهور ) المتفاعل من خلال التاكيد على مفهوم التفاعلية من أجل أن يصبح العرض بكل بصرياته ملكا وقريبا لروح الجمهور .
(الحوار فصل من كتاب حول المسرح العراقي للبروفيسور المغربي عبد الرحمن بن زيدان)
¤ القسم الثاني
¤ القسم الأول