الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الخميس 28/5/ 2009

 

أطياف المسرح

منذر حلمي / برلين

ثلاث سنوات ثقال مرت منذ ان غادر العزيز الراحل عوني كرومي المسرح اضطرارا قبل اسدال المشهد الاخير عن مسرحية - مسافر الليل - آخر عمل له في برلين , ترافقه ابتسامة حيية . ربما لانه غادرنا على عجل , لملم خطواته وا نتحى جانبا و لم يكمل المشوار كما كان يأمل و لم يقل كلمته الاخيرة بعد , لم يصرح بما كان يلمح به , لم يسفر عن المضمر من صبواته واسرار روحه الهائمة في ملكوت البحث عن كل ما هو سام وجميل . ويدرك الذين عرفوا الراحل الكبير حجم الفراغ الكبير الذي خلفه ذلك الغياب المبكر , والضرر الذي الحقه بحركة المسرح العراقي في الوطن والغربة معا . كان حضوره الشفيف يتوهج فاعلية وابداعا , وعيا ثاقبا ونزوعا وطنيا و انسانيا لا ضفاف له . لقد ادمن عشق العراق . كان عراقيا حد التخمة . اذ انك لا تستطيع ان تتبين فيه الا هوية العراق الموحد , الذي تماهت فيه كل مكوناته , متظافرة , متآزرة حيث وقف على مسافة واحدة منها , فلا تعثر فيه على هوية اخرى , فليس هناك في معيته سوى العراق . على الضد من اولئك الذين تتصدر أولوياتهم محاولة تبضيع العراق وبعثرته. كالبعض الذى اغراه التكاثر فأساء الى دينه ودنياه . استخدم دينه اداة طيعة لاهوائه ونزواته , فسرق بيت المال وقتل النفس البريئة وضلل ناسه وحولهم الى قطيع هائم وجمهور غفل , مسلوب الارادة ومنحرف الوعي . او البعض الاخر الذي يستقوي بحليفه, لبفرض ارادته , ويحقق ما يصبو اليه , توافقا او اعتسافا . ناهيك عن اولئك الذين ما دخلوا دولة الاوأ فسدوها . وقد دخلوا العراق , بعد ان فتح لهم حلفاؤهم - قاطعوا الطرق - حدوده على مصراعيها , فعاثوا فيه فسادا وملأوه جورا وارهابا .

وكان الراحل انساني النزعة, امن بلقاء الحضارات وتفاعلها , لابصراعها وتناقضها . وليس هناك من وجهة نظره حضارة خالصة , مكتفية بذاتها .اذ تندغم الحضارات فيما بينها . ترفد احداها الاخرى , وتتراكب طبقاتها , فتكون قواما حضاريا واحدا . فوحدة الحضارة الانسانية تكمن في تنوعها وثرائها . وهي تتدفق بلا توقف ولا نهاية , فالتاريخ لاينتهي , بل يسير ويتجدد بلا انقطاع , مثلما النهر الواحد الذي لا تدخله مرتين , فان مياها جديدة تجري من حولك ابدا ,بحسب هرقليطس . فلا غرابة اذن ان يمنحه - بيت برشت المسرحي - في برلين لقب وسيط الثقافات .

ولكن ماذا عن المسرح ! عن ماواه الاثير وجملته المفيدة ! عن الصرخة التي اطلقها احتجاجا على خواء المعنى واختلاط المفاهيم واستلاب الانسان ! عن الخطاب الذي اراده ان يكون مطرزا بالمتعة والمعرفة , بالبحث والتجريب ! لا كما اراده الفرد المستبد ذو الاسماء الحسنى , موطئا للاسفاف والتهريج ووسيلة لتخريب الوعي وافساد ذائقة الجمهور . ماذا عن المسرح الذي تجرأ عليه ذوو العقول الداكنة المعممة بالجهل والصلف!

علاقة الراحل بالمسرح كانت تصدر عن نظرة جدلية , تؤمن بان المسرح , كأي ظاهرة اجتماعية , يعكس طبيعة البنية الاجتماعية – الاقتصادية , التي ينشأ في ظلها , ويتأثر باسلوب الانتاج السائد الذي يحكم عناصر تلك البنية . ولكنه حذر من الوقوف عند حدود النظرة الساكنة الى الواقع , وتبنى تلك التي تقاربه في حراكه وتناقضاته . فهو في ذات الوقت الذي نأى بنفسه عن الشكلانية الخالصة , فأنه دعا الى الابتعاد عن الادلجة المتزمته و المنغلقة على ذاتها , والتي لا تفطن الى ما في الحياة من غنى وثراء وتجدد . هذه النظرة الفسيحة قادته بالتالي الى مسرح برشت , فانحاز الى منهجه الملحمي القائم على التغريب , الذي يفضي الى نزع الحادثة المسرحية من بداهتها وحالتها الاعتادية المالوفة , وابرازها في سياق اخر يستثير ذهن المشاهد , ويدفعه الى اتخاذ موقف نقدي , يسهم في صياغة العرض المسرحي وقراءته قراءة جديدة , لاتتفق بالضرورة مع رؤية مؤلف النص او مخرجه .ومن هنا كان يرغب ان لا يتحول جمهور المشاهدين الى رهط موحد , الى كتلة سديمية متراصة ,لا تمايز بين ذراتها وعناصرها , بل كان يأمل ان يدخل المشاهدون مجتمعين , ويخرجوا فرادى , بقراءات متعددة وخبر جديدة و متنوعة و يؤكدون عبرها على احترامهم لذواتهم , وعن حقهم في ان يختلفوا ويعبروا عن ارائهم بعيدا عن الاكراه والمساءلة .

وهكذا كان الراحل الكبير في كل ما اجترح من انجازات ,ناشطا مثابرا في الدفاع عن الوطن العراقي في مجتمع حال من العسف والاضطهاد ,دون عواقب الحروب المدمرة والاملاءات المخلة بانسانيته. وكان اكثر ما يخشاه في ايامه الاخيرة قبل الرحيل, ان لايمتد به العمر,فيحرم من مواصلة مشواره في الوطن الذي احب . وكثيرا ما عبر في لقاءاتنا المتأخرة عن خشيته ان لا تمرعليه تلك السنة بسلام . وما يدعو الى الدهشة والذهول أن تتحقق نبوءته, فيرحل ,يغادر المسرح , وهو في اشد حالاته حيوية وعطاء. كنا على وشك نبدأ العمل سوية على المسرحية القادمة.

كتب في احدى رسائله الى صديقه الناقد الاستاذ ياسين النصير :-
يسألونك لم لا تعود لوطنك وتطفئ الحنين ؟ "
- الخوف والسلاح
- الخوف يملأ الارض والسماء من نقطة الحدود الى بيتك المهجور يملكه رجال الامن والجيش وبعض الجحوش .
- ولا حق لك في كل شيئ, الخبز والامن والاطمئنان.. ممنوع ان تكتب , ان تقرأ وان تفكر , وان تعلن رأيك في الحرب والسلم .. الموت المجاني ينتظرك .
- البيت مهجور , ينتظر من يطرق بابه , الكتب , الدفاتر والاوراق , اللوحات تنتظر من يوقظ التراب الذي يعشعش فوق ارتصافها , زوايه البيت واركانه فقدت حاسة السمع , والجدران التي اخترقتها الموسيقى وصور الاحبة تنتظر من يحرك اوتارها.. جف الدهن في الاقفال , وحل الزنجار , ولم يبق سوى صوت ازيز الهواء يبعثر الاوراق اليابسة في حديقة البيت . اكتب هذا لانني ادرك ان الدموع الحقيثقة تاتي دائما في المنفى"

العزيز ابا حيدر
اذا كنت قد غادرتنا جسدا , فان اطيافك تجول معنا في ارجاء المسرح , خلف الكواليس وفوق الخشبة , وفي غمرة الاجواء الاليفة لديك , التى تحتفظ بصدى خطواتك ورجع كلماتك , حيث تتجسد الان عطاء من خلال اصدقائك , تلاميذك ومريديك .


 

free web counter