الصفحة الثقافية
الأثنين 3/3/ 2008
مفهوم الشعر عند الشاعر الدكتور صدام فهد الأسديد. قصي الشيخ عسكر
مقدمة
في بداية التسعينيات وأنا أضع مجموعتي " عبير المرايا " بين يدي العلامة الدكتور مسعود بوبو عضو المجمع العلمي العربي بدمشق، وألأستاذ في جامعة
دمشق فوجئت به وهو يقدم لي ورقة أحصى فيها كلمة الحزن التي كررتها في ديواني وكان العلامة المرحوم معجبا جدا بذلك الحزن العراقي الشفاف الأصيل.
اليوم وأنا أتابع ديوان صديقي الشاعر الكبير الدكتور صدام فهد الأسدي المعنون "لاشيء غير الكلام " أفاجأ به يردد كلمة "شعر" وما يرادفها ومااشتق منها فأدركت أن الشاعر العراقي بخاصة البصريّ لابد أن تراوده مفردة ما مفردة ذات مدلول كبير تظل تتلجلج في صدره لتصبح إحدى خصائصه الشعرية فيجعلها محورا اساسا يبني عليه كونه الشعري الذي ينبؤ عن سمته ويميزه عن المبدعين الآخرين من أبناء جيله وممن سبقه أو جاء بعده.
المقال
الشعر عند الدكتور الأسدي إذن تجليات وصور أبعد من أن تون تعريفا محددا. إنه معان يصعب على التعريف أن يحددها أو يحصرها من تلك المعاني:
أولا: الشعر هو ما لامس الشعور
أي معنى يحدد نفسه بنفسه وهو أبعد من أن نضعه في إطار وزن أو قافية .الشعر إحساس ودليلنا على ذلك أن العرب حين نزل القرآن الكريم سموه شعرا " وما هو بقول شاعر " أي أن النص القرآني لامس أحاسيسهم وشعورهم فظنوه شعرا وأصدروا عليه ذلك الحكم.حول هذا المعنى يقول الدكتور الأسديّ:
لا أطلب ممن لا يعرف معنى الشعر غناء الأوتار
لكن ماهو معنى الشعر ؟ الشاعر يجيب أيضا:
قد يقولون إن في الشعر سرا -- داخليا يفوق علم العباد
إذن الشعر معنى وسر، والمقصود بالسر هو الاحساس والشعور من لاإحساس له لايعرف طعم الشعر ، فما اندرج في قائمة الشعور يمكن أن نطلق عليه شعرا سواء كان نثرا أم قصيدة نثر أم التزم عمود الشعر أو جاء وفق صيغة الشعر الحر، ورحم الله العلامة الناقد الدكتور علي جواد الطاهر حين سُئـِل عن شاعرية الإمام علي " ع "، فقال ليست في الديوان المنسوب إليه بل هي في نهج البلاغة.
ثانيا: الشعر معادل موضوعيّ للحريّة
لاشعور من دون حرية، فالله تعالى خلق الأحاسيس مرهفة متباينة لاتحدها حدود جامحة، والشاعر وفق قيود محددة لايعود شاعرا لأنه سيكون مقيد الشعور والإحساس. قد أرى الجو حارا ويراه غيري باردا وآخر معتدلا وإحساسنا نحن البشر يختلف من شخص لآخر حول الطبيعة والكون. يقول الدكتور الأسديّ:
لم يكن خيط الشعر منطلقا .... أيطير كسير الجناح؟
المعنى ألاه جسده سطر آخر وازن فيه الشاعر بين الحرية والطبيعة التي لايمكن أن نقيّدها بقيود جامدة من وضع المجتمع والإنسان:
أين الشعراء... أين الحرية نامت في كهف السجناء.؟
أليست الحرية هي الطبيعة وحديث الشعر والحرية عند شاعرنا الكبير يذكرني بطرفة تُروى عن ستالين هي أن أحد الشعراء الروس الكبار تقدم إلى الرقيب بديوان للموافقة على طبعه فخشي الرقيب لأن الديوان في الغزل وذهب إلى ستالين يعرض عليه الأمر فقال ستالين للرقيب وافقوا على طبع نسختين فقط للشاعر واحده ولحبيبته الأخرى!
ثالثا: الشاعر هو الشعر نفسه، إنه اتحاد بين المجرد والمحسوس:
أنا شعر أطوف في كل واد ------ بفؤادي جزيرة من دموع
كل واد تعني الكون وتدل على اتحاد ثلاثي بين الشاعر والكون والشعربالتالي يكون الشعر هو القرار الوحيد الذي يتخذه الشاعر ولايقبل سواه:
واخترت الشعر طريقا أعمى...
أعتقد أن كلمة أعمى لاتدل على السلبية أو النقص في هذا الموضع، هي وفق اجتهادي تعادل كلمة وحيدا أو منفردا ... أو خاصا...فمثلما تفاءل العرب بالملدوغ فسموه سليما والاعمى حيث سموه بصيرا تفرد شاعرنا في هذا الموضع بصورة ذكية فحول الشعر عبر استعارة لطيفة إلى طريق أي مصير ثم جاء بكلمة أعمى وهي من خصائص كل ذي عينين إنسانا كان أم حيوانا لتصبح الكلمة أعمى فيما بعد دالة على تلك الصيغة الجديدة، فيصبح الشعر الطريق الواسع المفتوح على الكون الوحيد مصير الشاعر.
رابعا: الشعر والابتذال
المشكلة التي عانى منها الشعر ومازال هي أنه ابتلي بشعراء متكسبين فلبس عبر مراحل متعددة ثوب الدجل والنفاق:
الشعر يقال للنفاق...
شاعرنا يسجل بكلمته السابقة حكمة أثيرة يجب أن نعيها لئلا يصبح:
شعارنا كم نحسن التصفيق....
كأنه يحذرنا من أن نقتل الشعر فينا أـي أن نقتل إحساسنا وشعورنا فنقترف جريمة بحق أنفسنا قبل الآخرين.إن قتلنا للشعر عملية انتحار جماعي وواد للمجتمع كله. لنسمعه يقول:
لقد ذبحنا الشعر في أوصافنا --- وانتحرت بشعرنا النساء
لقد سلبنا الشعر من حقوقه --- وصار طعم روحنا الإنشاء
ليلاحظ القاري الكريم كلمة القسم وقد الدالة على التحقيق، وفي موضع آخر يصف بعض الطرق الوحشية للذبح عند الشعراء:
ذبحوا الحروف وأثكلوا حتى الرفات
الشعر هذا اليوم قد نلقاه في دنيا الهواة
من يحفظ الهوسات يصبح شاعرا.....وسوف ينشر باللغات
نحن تحققنا من ذبح الشعر بقد لكن في أي مكان هنا تأتي قد التقليل لأن مسالخ الشعر متعددةن والشاعر نفسه عانى من تلك الظاهرة لكنه بقي رغم انحراف الكثيرين وانجرافهم نحو احتفالية وأد الشعر أمام السلطان :
قالوا اكتب شعرا لتبني بيتك هذا المهجور
بهدايا الخلفاء
أو كما يقول صراحة في موضع آخر:
الشعر أكبر من مهيب أو أمير
خامسا: الصدق..
لابد أن يكون الصدق من سمات الشعر والصدق لايعني المباشرة والتقليد الأعمى بل هو الابداع المبنيّ على أسس فنية من الخيال والشعورك
لن أصدق هذا ... إن شعر الحقيقة مات ...وشعر الأكاذيب يفتح باب الأمان
وصدق الشعر متأت من كونه هو التاريخ والحاضر والمستقبل:
الشاعر يلبس ثوب الأمان
ويعانق وحشته يقضي الليل مع الأفكار
يتسلى ثانية في حلم مات ويداعب قيثار الأشعار.... هل يخرج ثانية للأمة ذاك المختار
حين نلاحظ السطر السابق نجده يجمع ماضي الأمة وحاضرها ومستقبلهاك
حلم مات = ماضيا
يلاعب قيثار = الحاضر
هل يخرج= المستقبل
إن سطرا كالمذكور أعلاه لايستطيع صياغته إلا شاعر متمكن استوعب السر الشعري وعرف صيغه وبناءه وتحكم في أدواته.
سادسا: الجمال
يربط الشاعر بين النفس البشرية والذات الإلهية ومسألة الجمال.إن القدامى قالوا : الله تعالى جميل يحب الجمال وشاعرنا ينطلق من هذا المبدأ:
لا أغالي إذا وصفتك شعرا إن ربي العظيم يهوى الجمالا
مع فرق بينه وبين من صاغوا الحكمة القديمة إنه يتفق معهم في البحث عن الجمال لكنه يجده في الشعر فأعود إلى مابتدأت به من ذكر الله تعالى والجمالة والشعر حيث اتضحت الصورة النقية الآن وبان السر الذي ذكره الشاعر لنا :
قد يقولون إن في الشعر سرا -----داخليا يفوق علم العباد
نعم إن هناك سرا داخليا في الشعر لايدركه إلا المتمكنون منه لبظلوا يداوون به جراحات الآخرين الذين يعيشون بأحاسيسهم فيشفون وليس بالضرورة أن يعرف غير الشعراء الشعر .إنه مثل الدواء الذي يتعالج به الملايين من المرضى فهم يجهلون تركيبة الدواء لكنهم يتحسنون ويشفون أما الطبييب والكيمياوي فهو الذي يعرف السر.
الخاتمة
أظنني وقفت عند جوانب نظرية أخي الدكتور شاعرنا الكبير وكشفت عن بعض سر مكنوناته ونصيحتي لمن يريد أن يقرأ شعره أن يدرك عوالم هذا الشاعر الجليل تلك العوالم التي تمتد إلى زمن طفولتنا وشبابنا حيث اتسعت بدءا من عصر ماقبل الإسلام مرورا بكل المراحل الشعرية إلى الوقت الحالي. إنه من دون مبالغة يمثل ثقافة جيل بكامله!