الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

السبت 4/4/ 2009

 

الفكر الإبداعي بين العلم والأدب
( دراسة مقارنة )

مهدي الشمسي
Mahdi_alshamssi@yahoo.com

استفزاز العقل أو اثارته سلاح ذو حدين ، قد يغدو ذاك العقل مبدعا في عطائه كرد فعل مرافق للقوة المثيرة ومعبرا عن رفضه لتوجهاتها والسعي لاختزال دوره ، والعكس صحيح, حيث يمكن ان يتحول الى قوة تدميرية خطرة اعتمادا على فلسفته او توجهه في حال غياب الحل الوسط . اثارة العقل يتمخض عنها مغادرته او هروبه عن دائرة المألوف صوب حدود المواجهة مع القوة المستفزة لصيرورته وطبيعته التاريخية وفلسفته ( واقصد هنا العقل الراقي وليس شىء آخر ) ، وربما يكون الهروب بمعنى الفشل والتواري درءا للخطر والحفاظ على الكينونة . وحسب قانون الفعل ورد الفعل لنيوتن ، فلا بد للعقل ان يكون مهيأ لتقبل قوة الصدمة او على الاقل المراوغة لامتصاص تأثيرها المدمر حتى حين , والا حدثت الكارثة . القوة المثيرة تحاول تدمير الاخر بشتى الطرق , لكن العقل المثار متى ما كان صلبا يصبح بمقدوره الرد بحزم رافضا الخنوع .

واقصد بالقوى المستفزة او المثيرة هي جملة العوامل غير الطبيعية والتي قد يقع العقل البشري الراجح والمنتج تحت وطأتها وتأثيراتها السلبية والتي تتسم بالقسوة والالم , ومنها الحروب ، الكوارث ، قهر السلط ، الانظمة الشمولية ،الفصل العنصري ، الفقر ، المرض ، المنافي ،الحرمان بصنوفه....الخ . وبطبيعة الحال تحاول هذه القوى تقويض او قل تشويه وحتى قتل الروح الابداعية كناتج عرضي لقسوتها .

العقل المتطور او ما اسميه هنا بالراقي هو العقل المبدع ، بغض النظر عن اختصاصاته الادبية او العلمية او الفنية وغيرها ، هذا العقل هو الاكثر حظا بالتأثر بالهزات المفاجئة وغير المفاجئة والتي تدور حوله ، والا ما جدوى تسميته بالراقي !!، في حين تتأثر عقول عامة الناس بدرجات متفاوتة وكذلك ردود افعالهم حيال ذلك .

الفكر الابداعي في سردي التالي يتوزع بين العلم والادب حصريا ولا اعرج على الفنون والنشاطات الثقافية الاخرى والتي سأفرد لها موضوعا خاص مستقبلا . وحسب طبيعة ونوع القوى المثيرة اعلاه يمكن التكهن بردود الفعل لدى المبدع سواء كان علمي او ادبي ، ونقارن بين طبيعة المنتجين واللذين افرزتهما قوى الاستفزاز آنفة الذكر .

من المعروف أن الأبداع الأدبي سبق الأبداع العلمي بكثير وذو تراث وخزين يتوزع بين شعوب العالم ولا يمكن لنا تصور زمن نشوءه او دواعي تعاطيه لأيغاله في ألقدم , ولكن الذي وصل لنا منه يدل على ذلك ومنه الألياذة , وملحمة كلكامش , وشعر المعلقات , ..... وغيرها . ويمتاز الفكر الأدبي بثراء مادته وتنوعها حيث تزخر اللغة بمفرداتها وتعابيرها وقواعدها خدمة لابراز مادته وتوصيل فلسفته الى المتلقي بيسر. هو أولا إدراك حسي يترجم إلى لغة تعبيرية على هيئة قالب نمطي متعارف عليه تنقل الفكرة الأدبية إلى الاخر . أما الإبداع العلمي فهو تطبيق لمجموعة من المدروكات أو القوانين المادية الملموسة يتلاعب بها المفكر العلمي وصولا لهدفه , ويستفيد من الخزين العلمي الموروث الذي يدور في فلكه , وقد تلعب الصدفة دورها في بلوغ ذلك الهدف والأمثلة كثيرة , في حين لآ وجود للصدفة في عالم الأبداع الأدبي .

الفكرة أولآً , يدور البحث حولها بالتلاعب بالادوات المتاحة لتنفيذها وتشمل القوانين , والمعادلات الرياضية , وأدوات المختبر , والرسومات, وهذا يخص الجانب العلمي , أما الجانب الأدبي , فيشمل اللغة وقواعدها ومفرداتها والسياقات المتبعة للون الأدب كأن يكون قصيدة أو قصة أو مقالة او مسرحية أو نقداً ....... ألخ . .

مما سبق يمكن إدراك إن هناك منتج علمي ومنتج أدبي بغض النظر عن الجودة , وتكون غزارة الأنتاج الأدبي أعلى منه في العلمي والذي يكون (أي العلمي ) نمطياً بمجرد إستكمال النموذج الأول في حين تتنوع الفكرة في الأنتاج الأدبي ولا يخضع لاي قالب نمطي عدا الأسس والقواعد المتبعة في إنجازه , فلا ترى قصيدتين أو قصتين متشابهتين طبق ألأصل ,في حين نرى ذلك جلياً في الآنتاج العلمي .الانتاج الادبي متحرك وذو مواصفات غير ثابتة , فردي التنفيذ , عكس نظيره العلمي والذي يكون غالبا جماعي التصميم والتنفيذ .

من المقدمة أعلاه حاولت أن اوضح وبايجاز بعض اوجه الاختلاف والتشابه بين الانتاج الادبي ونظيره العلمي دون الخوض في النوعية والتي تتراوح بين الرديء والمتوسط وعالي الجودة وحسب الدرجات الشائعة في التقييم ، وموضوع الزجاجة وعنقها ينطبق على كل من المفكر الادبي والمفكر العلمي، حيث يدور كل منهم داخل هذه الزجاجة بافكارهم وتصوراتهم اين كان نوعها وطبيعتها وتكون بمثابة المختبر الذي تجري فيه البحوث والتجارب العلمية اوالادبية من اجل انجاز وخلق الفكرة الابداعية والتي هي محور بحثي الاحق .
اذ لا بد للفكرة الابداعية من اجتياز عنق الزجاجة اذ هي اكتملت لتحلق خارجا في فضاء ارحب لتبدأ عملية الفرز و التقييم .

الابداع الادبي هو تفوق المفكر او المبدع على النص الادبي لا العكس ,ولن يحدث ذلك إلآ تحت شروط مثلى تكون كفيلة بوصوله إلى حالة رقي النص, من أهمها الإنسجام التام بين فكرة النص واللغة المعبرة عنه , أي أن المفردة اللغوية وصياغاتها المستخدمة يجب أن تستغل للدرجة القصوى لخدمة فكرة النص والتعبير عنه بدقة والتي يجب أن تكون هي الأخرى ذات مواصفات عالية الجودة والرقي , إضافة إلى إلغاء مبدأ الدوران حول الفكرة وبدوره يلغي الأخطاء المحتملة من عدم الوصول السريع وإقصائها سواء كانت فكرية أو لغوية .

في شعر جاك بريفر نلاحظ ذلك جلياً , تمكن هذا المبدع من الوصول إلى هدفه بسهولة وحنكه وأقل الخسائر , ومن تفوقه إنه يترك مساحة واسعة لقرائه بالتأمل وألتفكير لاغياً مبدأ الدوران حول الفكرة , بل هو طرد التكرار الفكروي واللغوي من نصه وأبدع بالوصول السريع ومن هنا نشأ التفوق عند هذا الأديب بالأضافة إلى تسخيره المفردة السهلة والمعبرة . في قصيدته ( لكي ترسم صورة طائر ) يمكن للمتابع ادراك ذلك :

أولا أرسم قفصا
باب مفتوح
ثم ارسم شيئا حلوا
شيئا بسيطا
شيئا جميلا
شيئا نافعا للطائر
ثم ضع اللوحة القماشية على الشجرة
في حديقة
في ايكه
او في غابة
واختبىء خلف الشجرة

اوضح ( هردر) لغوتة ( ان الشعر الحقيقي يجب ان يكون نابعا عن تجربة خاصة حتى لا يكون صناعيا متكلفا ) وكذلك الرواية ، وهذا ما جسده غوتة في رائعته ( آلام فارتر ) . بمعنى يجب ان تكون هناك قوة مثيرة فعليا هي القضية التي تشارك المبدع في صياغة المادة الابداعية ، قد تقتله كما فعل المرض ببدر شاكر السياب ، لكنها الهمته روح الابداع ، وربما تشرده كما شردت الحروب الكثير من المفكرين والمبدعين والعلماء . وغيبت الانظمة الشمولية آلاف من الادباء والعلماء والمفكرين .

وفي مسرحية الذباب لسارتر تتجلى تلك المشاركة بوضوح ، فكانت الحرب العالمية والاحتلال النازي والثورة هي القوة المثيرة او التجربة الخاصة لسارتر كما اسماها ( هردر) لغوتة ،حين كان النظام النازي يحتل فرنسا وكانت المقاومة تحاول التخلص من سطوة النازية ، حيث استحضر سارتر الاسطورة كرمزلمادته الابداعية في مسرحيته. وخلاصة القول ان لكل نص ابداعيا اواختراعا، نصا آخر خلفه سوا كان علمي او ادبي او غيره .

وللعوده الى الابداع العلمي مقارنه بما تقدم نرى ان التلاعب باللغه هو نفسه التلاعب بالقوانين والمعادلات العلميه كما ان سرعه الوصول مطلوبه هي الاخرى بل جوهريه وكذلك جماليه المنتج تقابلها جماليه النص الادبي من حيث الألتزام بالقواعد ألأدبية المتعارف عليها وحسن إدارتها وتنظيمها . وجودة المنتج سواء كان أدبي أو علمي تفرض نفسها على المستفيد والتي صنفت من قبل.

الا ان القوة المستفزة هنا لا تختلف عن نظيرتها في الجانب الادبي ، والاختلاف يكمن في دوافع قبول او رفض توجهاتها واهدافها .الرفض يكون بدوافع انسانية بحته ترافقها هواجس بضرورة التاكيد على تحقيق الذات الابداعية وقبول التحدي حتى وان كان قاسي ومدمر . في حين تعزى مسايرة القوة المثيرة الى عوامل اقتصادية ، ومرضية منها النرجسية ، وقد تكون وراثية ..... وغيرها من الدوافع .

ولكن دعونا نتحدث عن الأدراك الحسي والعاطفي للمبدع الأدبي والذي لايختلف كثيراً عن نظيره العلمي إلا في مبدأ العاطفة , نتحدث عن لحظات التجلي والتي يسميها البعض لحظات الخلق الإبداعي والتي لا تتوفر أو تتهيأ للجميع , أحد الأصدقاء يسميها {الغيبوبة} وفي تصوري هي أقرب لهذا المفهوم , كما هي التسامي أو لحظة التفوق, يتم خلالها العزل الكامل للمداخل والنوافذ التي تؤدي إلى التشويش على الفكر البشري الخلاق والمهيأ مسبقاً للعطاء المتميز , والتي تساهم في إضعاف طاقته الإبداعية وبمعنى آخر إستحضار مبدأ التركيز على ما هية الفكرة وطرد الشوائب المحيطة بها مما يؤدي إلى النفوذ الحر والمباشر والتحكم بالروافد العقلية صانعة الإبداع البشري . ولا يفوتني ألقول لكل أديب طاقته الإبداعية تؤثر عليها جملة عوامل منها : البحث والممارسة والموهبة .....ألخ ,

وتتجلى العبقرية هنا باروع صورها فيما لو توفرت لها الشروط أعلاه إضافة إلى شروط أٌخرى لايمكن الخوض فيها لسعتها وتعقيدها , بحيث تصبح هذه العبقرية صفة دائمة وملازمة للمفكر الأدبي أو العلمي متى ما ظّل محتفظاً بشروط الخلق الإبداعي ومقترنةً بسمات نتاجه . وفي ذلك خروج من عنق الزجاجة سبق الحديث عنها آنفاً والتي لم تتوفر إلا للقلائل من أعلام الفكر العلمي والأدبي الإنساني , في الوقت نفسه تظل جموع الأدباء والعلماء والمفكرين تدور داخل الزجاجة تتحين الفرصة للخروج من عنقها إلى الفضاء الأرحب وهي فرص نادرة ومكلفة .

أما موضوع العاطفة فيشغل حيز كبير من العطاء الأدبي إن لم يكن جله, فالحس العاطفي والانساني بمثابة المادة الأولية للبناء ألأدبي ويتضح ذلك في نتاج الأدباء مرهفي ألحس, حيث تألق الكثير منهم في ظل أستثمار النزعة العاطفية وضمها لمكونات النسيج الأدبي والأمثلة على ذلك لا حصر لها , في حين يفتقر الإبداع العلمي لمثل تلك النزعة أو تكاد تكون معدومة كونه يتعامل مع الملموسات . وكثيراً ما يجهش كتاب القصيدة أو الرواية بالبكاء عندما يكتبون أو يقرأون نصاً تأثروا به وكذلك الأمر بالنسبة للمتلقي .

يتضح مما يتقدم إن صفة العبقرية متى مالازمت المفكر في طروحاته وإبداعاته وأصبحت خطاً ملازماً له تولدت المفاهيم الفلسفية لذلك المفكر وإتضحت الرؤية المميزة لابداعه الأدبي والفكري , ومن هؤلاء : سارتر , دستوفسكي , فرويد , غوركي , آرنست همنغوآي , لوركا , بابلو نيروده , طه حسين , نجيب محفوظ, الجواهري , السياب , نزار قباني , والمئات من أعلام الفكر والادب المميز .

العبقرية العلمية تمت مصادرتها من قبل دول وشركات أخذت على عاتقها مسؤولية رعايتها وتطويرها وتحديد مساراتها خدمة لمصالحها , ورصدت لها المبالغ الطائلة والتي ساهمت هي ألأخرى في بناء صرح الحضارة الإنسانية المعاصرة , في الوقت نفسه أُستغلت أستغلالاً سيئاً في بعض المجالات مماسبب المعانات المؤلمة لبني البشر مثل الأسلحة المدمرة وأسلحة الدمار الشامل وغيرها .ومن هؤلاء العباقرة : نوبل , أنيشتاين , نيوتن , أديسن , الأخوين رآيت ,فلمنغ, والقائمة تطول .

ومن المؤسسات المحتكرة للعبقرية العلمية : مايكروسوفت , شركات صناعة السيارات , شركات صناعة الطائرات , وكالة ناسا لإبحاث الفضاء , شركات النفط ........إلخ .وفي اعقاب الحرب العالمية الثانية تحديدا 1945 ، اعد (فاننفار بوش) مدير مكتب البحث العلمي والتطوير بمكتب الرئيس روزفلت , برنامجا للبحث العلمي في فترة ما بعد الحرب واقترح تأسيس وكالة فيدرالية لتشجيع المعرفة العلمية الحديثة ، واصبح الكونغرس مسؤول عن تمويل الابحاث ودعم التكنولوجية العلمية والهندسية .

وبقليل من التأمل نستشعر حقيقة واضحة هي إن الإبداع الأدبي مبني على اُسس فردية وإمكانيات متواضعة عكس نظيره العلمي والذي غالباً ما يكون جماعياً بسبب تبني الحكومات والمؤسسات الثرية له خدمة لمصالحها , لذلك نلاحظ أن الإبداع العلمي سبق نظيره الأدبي بكثير من المراحل وظل الكثير من المفكرين والأدباء والمبدعين تحت خط الفقر وتحت رحمة دور النشر الجشعة , في حين تنعم المبدعون العلميون بثمار إنجازاتهم ويتهيأون إلى الأكثر المبني على اسس الاحتكار والتسلط والجشع .

وفي الخاتمة يمكن القول أن الإبداع الأدبي يحاور النفس البشرية ومعانات المبدع لايمكن إدراكها بسهولة إذ تولد هذه المعانات ألم في ذات المفكر والأديب المبدع كونها نابعة من مكامن الإحساس بألاخر وعاطفته , في حين يقتصر الإبداع العلمي على التعامل مع المادة بشكل صرف .
إن الفكرة الإبداعية هي ثمرة من ثمار تطور العقل البشري سواء كانت أدبية أو علمية يسعى الكثير لبلوغها بالعمل الدؤوب, وكل على شاكلته .




 

free web counter