الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

السبت 5/4/ 2008

 

دليلك الى الطابق التحت أرضي من الثقافة العراقية

قراءة في كتاب " جمعة يعود الى بلاده " للشاعر خالد المعالي

عبد العظيم فنجان

" يتذكرونه حين تهاجمهم أسراب الجراد ،
فقد كان الأكثر فرحا بوصولها ،
والأكثر طاقة في انتاج حيل الايقاع بها ،
جمعها وطبخها في قدر كبيرة ،
تجفيفها وتخزينها كي تكون زادا خاصا به
"
                                   
 ص 9 من الكتاب

مرة ، في الصحراء عام 1980، والحرب العراقية الايرانية في بدايتها ، كنتُ منهمكا بتلقيح قطيع من الاغنام ضد فايروس الجدري ، عندما عادت الطائرة المُغيرة على مركز الطاقة الكهربائية القريب من الفرات ، في المسافة بين مدينتي الناصرية والسماوة جنوب العراق ، وكانت مسرعة جدا ، لكن طيارها الغبي أوقع خزان الوقود بالقرب من عملنا ، حيث كان عدد من رعاة الاغنام الصحراويين معي ، ومن بينهم صاحب القطيع ، الذي ارتج مع صوت ارتطام خزان الوقود بالارض ، فقال فجأة : " هذه الحرب لن ينهيها لا صدام حسين ، ولا الخميني " فسألته مازحا : " ومَن ينهيها ، برأيك ؟ " فرد بشكل حاسم : " أنا " ثم تركني ، تركَ قطيعه ، وتوجه نحو خيمته / داره ، فيما انصرفتُ مع باقي الرعاة الى العمل ، حتى دوتْ الاطلاقة التي أنهتْ حرب الحاج ونان – هذا هو اسمه – متوجهة نحو رأسه ، فقد انتحر راعي الاغنام هذا ، منهيا حربه ، على الطريقة التي لاتوفرها الا السينما ، وارتعشَ من بهاء النور الفائض من روحه قطيعُ الاغنام ، في تلك الصحراء المقطوعة عن ود العالم .
هذه الحادثة ظهرتْ على سطح ذاكرتي ، فجأة ، أثناء قرائتي كتاب خالد المعالي : " جمعة يعود الى بلاده " فأعادتني سنينا الى الوراء . وطبعا ، ليست كثيرة هي الكتب التي تفعل ذلك : الكتب المستفزة ، التي تنبش الداخل ، وتجعلنا بمواجهة حقيقية مع حياتنا ، كما أنها قليلة تلك الكتب التي يتواضع صاحبها ، ولايتكلم من فوق ، بنظرة استعلائية الى الاشياء ، وانما يتحدث من داخلها ، بعيدا عن نية مبيتة للكشف عن الذات المدعية : العامة ، المريضة ، الشاذة ، التي عبثا ندعي طردها ، عندما نكتبُ شهادتنا ، وخبرتنا ، خاصة تجربتنا عن المحرقة الوسخة التي أتلفتْ مصائرنا ، نحن شعب الـ " شكو ماكو " . تلك المحرقة التي تناوبنا – ضدها أو معها – على رسم نيرانها من الداخل / الوطن ، ومن الخارج / المنفى .
" جمعة يعود الى بلاده " إذن واحدة من تلك الكتب التي سمحت للكشف الشخصي أن يفيض على الصفحات ببوح نادر ، لاتجده الا في القصيدة الكبيرة : القصيدة المكتوبة بالقلب ، لا بخبرة الالفاظ . قال الفنان التعبيري ماتيس مرة : " عندما اعمل لااريد ان افكر قط ، بل أن أشعر حسب " . نعم ، اُنجز هذا الكتاب ليفيض شعورا ، بدون تخطيط مسبق ، وهو يعتمد ستراتيجية الكشف الحميمي الخالص ، ولكنه كشف بقدر مايبوح في صفحات ، بقدر مايستر ، فالمفارقة الرائعة التي اعتمدها المؤلف هو أنه يستر مـَن يشي بوبائه ، خاصة في تلك الفقرات / الرسائل التي خصَّ بها كاتبا عراقيا ما ، لم يسمّه ، لكنه عيـّنه – كما يفعل الشعر ، على رأي هيدجر – لأن الشعر يفضح بغطاء الستر ، وهو مافعله المعالي في هذا الكتاب ، الذي سيلتبس تجنيسه ، كالعادة ، لأننا نكتبُ كتبا وفي ذهننا نيـّة تجنيسها : شعر ، قصص ، مقالات ، رواية .. الخ ، واضعين أمامنا رأفة الرقيب وسماحة الناقد ، وهو الدرس الذي تجاوزه خالد في منفاه ، حيث يكتب الناسُ هناك بحرية ترفس التجنيس ، ولا تعدّه معيارا لوقف التدفق : النزيف .

وبالرغم من أن الكتاب اشتمل على معظم " المواد " التي نشرها المعالي ، وقرأناها هنا وهناك ، الا أن القاريء سيجد نفسه حتما أمام مادة واحدة : حارة وطازجة ، كأن " تيمور " الكردي قد عرفناه للتو ، أوكأننا لم نكتشف بعد المقابر الجماعية ، أو كأننا لم نعرف جحود المثقف العربي :
ومن هذه النقطة الاخيرة بالذات يبدو ملحا قراءة " جمعة يعود الى بلاده " بوصفه دليلا الى الشارع الخلفي ، والى الطوابق التحت ارضية من الثقافة العراقية .
هذه الحرارة ، وهذا الدفء الذي شعرتُ به ، وأنا التهم الكتاب دفعة واحدة ، حرّضا فيَّ أشياء كثيرة اعتبرتها منتهية ، ولم اكتبها : أضاءا فيّ مناطق كنتُ بصددها ، ومن ثم أدرتُ دفة سفينتي بعيدا عنها ، لأنني اعتبرتها بحكم الزائلة ، والالتفات نحوها مضيعة للوقت ، وللشعر .
أتذكر خالد الشاب – هل شابَ الآن ؟ - في الناصرية ، أيام كانت اللمّة صافية تحت خيمة الشاعر عقيل علي في السبعينات : خالد كان يأتي ويذهب بشكل غامض ، حاملا معه حداء الرمل ، و حفنة من الشعر : لا يطول به المقام طويلا بيننا ، ثم يختفي مثلما ظهر : هناك ذكريات غائمة معه ، وهي مغمسة بقصائد علي البزاز المضغوطة ، بشطحات سهيل جلجامش ، وبحفظه المستحيل لقصائد فاضل العزاوي ، بالسكر الطويل الذي لايصحو منه القاص عبد جبر ، بالعين المنطفئة لجواد الازرقي : الذي انتحـر غرقا ، هو الآخر ، احتجاجا على الحرب ، وأخيرا بحامد الذيقاري الذي مات فيما بعد بالسكتة القلبية ، ابتهاجا بسقوط صدام . كما كانت تلك المقاهي الصيفية المزروعة على خد الفرات صيفا ، حيث مرة ، في واحدة من تلك المقاهي ، خضتُ مع خالد حوارا ، هو أقرب منه الى المعركة ، حول مجموعة حسب الشيخ جعفر :" عبر الحائط في المرآة " : كنتُ غارقا في حبها ، وكان خالد يتكلم عن قضية لم أفهمها الا فيما بعد : فيما بعد عندما تباعدت خطواتي عن الانفعال ، ادركتُ أن خالدا كان على حق في نقده للمجموعة .
عندما التقيتُ خالدا في بغداد عام 2003، بعد أكثر من ربع قرن من ذلك ، لمسته وفيا لتلك الشلة العابرة : سألني عنها ، وعن سهيل جلجامش ، فقد اعتقده ميتا : لابد أن يكون ميتا ، فالحروب مصممة لقتل امثاله من البشر ، لكن سهيلا لم يمت : استمر على منواله بنفس العبثية ، حتى وهو يخوض السجون والخنادق ، الى أن خرج منها قوي الروح ، لكن بصحة هشة : روح سهيل جلجامش كانت متناثرة طوال ماكتب خالد .
قلت : " جمعة يعود الى بلاده " حرّض فيَّ أشياء كثيرة اعتبرتها منتهية ، ولم اكتبها ، وهاهي تظهر الان على سطح يقظتي ، فأهرب منها ، على طريقة داوني بالتي كانت هي الداء : من بين تلك الاشياء تحضر الصحراء ، لكنها في كتاب غيرتلك التي اعرفها ، من خلال تجربتي في المهنة ، أومن خلال الخدمة العسكرية ، كما أنها تحضر ليس بوصفها أرض الانبياء ، كما يريد الاصوليون ، ولا أرض الامة العربية المقدسة ، التي من لازم الانشاء العفلقي أن يحول منها الى واحة حضارية حية بشكل عملي ، وإنما تحضر كمنفى جماعي كبير يعتقل الاحلام والدخان .
ثمة وجه آخر للصحراء إذن : الصحراء هنا عراقية ، بشكلها المكشوف ، القاسي ، والوعر ، وليس شكلها السياحي ، المترف بالواحات ، والسماوة – مسقط رأس خالد - مفازة في هذا التيه الرملي : شاهد - لم يعبأ به أحد - على حضارات كانت يوما حافلة بالحياة والازدهار ، وهاهي تتحول في عراق صدام حسين الى قبر جماعي : إنها الطابق الثاني من العراق . الطابق غير المعروف للعالم ، ولا للعراقيين أنفسهم ، ولذلك يبدو عجيبا أن تكون امرأة ما ، عابرة ، ومنسية في تلك الكثبان من الرمل ، هي اليد الحانية لنجاة أحد الصبيان من قبره الجماعي ، وذروة الاعجوبة تكمن في ذلك الدفء الانساني – يشير اليه خالد بمهارة – الذي احاط تلك النجاة واقام مراسمها بكل تكتم وحفاوة سرية ، ربما يكشف ذلك بطريقة ما عن مدى الهوة بين تحجرقلب الحاكم ورقّة الروح في المحكوم ، تلك الهوة التي لا يراها – لن يراها – المثقف العربي لأنه اعتاد على السهولة ، مستسلما لماتقوله الانباء والاذاعات ، بعيدا عن اعطاء نفسه برهة من التأمل ، وليس أن يقوم بالبحث أو الاستقصاء ، كما هو مفروض .

مع كل هذا يحضر خالد في هذه الصحراء / الكتاب بعدة صيغ ابرزها الهامشي ، المتمرد على النظام ، المدرسة ، وقوانين العائلة ، حيث تجدد المفارقات حياتها ، فتتجلى بطرق عديدة : لم استطع كبح رغبتي في الضحك كثيرا من موقف خالد ، عندما أوقعوا عقال أبيه ، واستقالته من معركة العقال تلك ... ، ومرات كثيرة لم أمنعها من البكاء ، خاصة في تلك التداعيات : الاخت المرمية في اطراف الصحراء ، البنت التي قتل " الرفاق " زوجها ، والام التي تبدو وكأنها مركز الحنان في العالم : أهذه حياتنا حقا ؟ أية حياة قُدّرلنا أن نعيش ؟ وهل يمكن أن تنطوي التعاسة على قدر كبير من المرح واللامبالاة ؟ وكم يقود تمطط الاحداث الى التمرد عليها ؟

يقرر المفكر ادغار موران أن الحداثة تجد جذورها ، بالتالي تجلياتها ، عند المنشقين والمنفيين والهراطقة ، لأنهم يحملون بذرة الانحراف عما هو سائد وتقليدي . والشاعر خالد المعالي واحد من هؤلاء المنفيين الذين خرجوا الى العالم ، وهم مصابون بلوثة " تخريب " ما هو مألوف على مستويات عدة ، يتجلى ذلك واضحا في كتابته الشعرية والنثرية أولا ، وثانيا في تاسيسه لدار منشورات الجمل ، التي اهتمت بنشر نتاج الحداثة باشكاله المتعددة .
هكذا يبدو كتاب خالد المعالي الاخير ، من أحد الوجوه ، كأنه كتاب سيرة شخصية لمنفي ومنشق ، لكنها سيرة تخرج عن مالوفات السير العربية التقليدية ، التي تعتمد منهجية التسلسل أو التعاقب التاريخي للايام والسنين ،إذ عمد خالد الى ستراتيجية اخرى هي اقرب الى التداعي ، تاركا لذاكرته حرية التطواف في عالمه ، ملتقطا الهائم والمخفي ، ومنفردا بالشائع والمعروف ، ودليله في الرحلة وثبات الروح .






 

Counters