الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأربعاء 7/6/ 2006

 


هذا المقال واحد من مقالات وحوارات عديدة ضمها ملف الشاعر عبد الكريم كاصد الذي أ ُعد إحتفاءاً به في المربد الثالث في البصرة 2006 ، والذي سينشر كاملاً في دوريات ثقافية وكذلك سيصدر في كتاب من قبل وزارة الثقافة العراقية .
أعد الملف وقدم له
الشاعر العراقي عبد الباقي فرج .

Abdulbakifaraj@hotmail.com

زهيريّات

عبدالكريم كاصد

انطاق القوالب بالفصحى

 

حسين عبداللطيف

تبادل شعرنا – المكتوب بالفصحى والمكتوب بالدارجة – على حد سواء ، العبور أو التنافذ فيما بينهما من خلال التعالق والتناص أو الاقتباس والتضمين على مستوى المفردة والمعنى .. ويذكر لنا الشاعر الشعبي العراقي عبدالكريم العلاف في كتابه ( الطرب عند العرب ) بعض الأمثلة التي توقفنا على ما أصابه شعر العامية في معانيه من شعر القريض وبالعكس . ويورد لذلك مثلاً في ( الدارمي ) الذي يقول :

رضرض جميع اعضاي امرخص عليهه
بس لا تدش بالروح جيف انته بيهه

الذي اقتبس معناه من ( مجير الدين بن تميم ) في قوله:

يا محرقاً بالنار وجــــه محبه مهلاً فإن مدامــعي تطفيه
احرق بها جسدي وكلّ جوارحي واحذر على قلبي لأنك فيه

والذي يعود إليه ثانية ، ولكن هذه المرة ، بصيغة ( الأبوذية ) :

يهل ساكن مهجتي وانت بيها
المحاسن سلمتلك وانت بيها
لا تحرك جبدتي وانت بيها
أخاف من اللهب اتجيك أذيه

وكما نرى فإنّ طريقة تضمين المعنى من الأبيات الفصيحة في الأبوذية ينبغي أن يتمّ عبر بيتيها الثالث والرابع حسب التقليد المتبع .
وكذلك فإنّ الدارمي القائل :

ياولفي مانساكيش لمكركع الخام
بالكبر لو مريت اتحرك عظام

ما هو إلاّ اقتداء أو مجاراة لقول ( توبة بن الحمير ) صاحب ليلى الأخيلية الذي يقول :

ولو ان ليلى الأخيلية سلمت عليّ ودوني جندل وصفيح
لسلمت تسليم البشاشة أو رقا إليها صدى من داخل القبر صالح

أما الدارمي الذي من نظم العلاف :

الأرض كلها أرواح خفف مشيتك
حتى على الميتين عمّت أذيتك

فهو – بلا شك – مقتبس من قول المعري :

خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلاّ من هذه الأجساد

أو من بيت للخيام بهذا المعنى :
ولكن ما يصلح لأن يكون جسرا لمثل هذا التبادل والعبور – بين الشعرين الفصيح والعاميّ – حقّاً – هو الضرب المسمى بـ ( الملمّع ) أحد ضروب الشعر ( الشعبيّ ) وأنماطه – الذي يضمن في الصدر والعجز شطراً من الفصيح – بلفظه ومعناه دون أيّ تحوير ليردّ عليه بشطر من العاميّ ، ومثاله :

( غادة كالبدر تزهو ) جاعده بسدّ الحنيه
( فرنا قلبي إليـــــــها ) لنها وحده ابربصيه

وفي هذا – كما يتبين – تهجين واضح للخطاب اللغوي وتعاشق بين الفصحى ( لغة ) والعامية ( لهجة ) وتداخلهما في التركيب .
أما حين نعود إلى شعرنا العراقيّ الحديث فسنجد أن سعدي يوسف يشير إلى بعض الأغاني التي يضمنها بلهجتها الدارجة : ( يا بصرة لا تبجين ) ( للناصريه ) ( يلي ملكت الروح ) أو يعمد إلى الأبوذية البصرية المشهورة :

أريد أشرد من البصرة ولا عود
كمنجة ما تسليني ولا عود
جكارة ما بقت عندي ولا عود
وفلسين التتن حسره عليّه

مضمناً مطلعها فقط في قصيدته ( موطني ) .. ، لكنه في إحدى قصائده عن سجنه في السيبة نراه يصوغ بعض الأبيات على غرار الزهيريّ أو الموّال بالفصحى ..
أمّا حين نعود للسياب فإننا سنجد للأسطوانة والحاكي والتسجيل ونقر الدرابك واللحون والغناء ( غناء أم كلثوم وسلمى وبول روبسن والجاز ) ، وغير ذلك من مرددات شعبية مثل مرددة قصيدته ( إنشودة المطر ) أصيح بالخليج أو ( الدللول ) في منزل الأقنان أو أغنية أطفال البصرة غبّ المطر ( يا مطراً يا حلبي عبّرْ بنات الجلبي ) أو مرددة ( مرثية جيكور ) الشيخ اسم الله التي يمزج فيها أغنيتين شعبيتين بعد تحويرهما ليغنيهما الكورس :

شيخ اسم الله .. ترللا
قد شاب ترل ترل ترار .. وما هلا
ترلل . العيد ترللا
ترللا ، عرّس ( حمّادي ) ،
زغردن ترّل ترلّلا
الثوب من الريز .. ترلّلا
والنقش صناعة بغداد

ومثل ذلك تضمينه لأغنية ( اسليمه أوف يسليمه ) في قصيدته ( المومس العمياء ) :

وتلوب أغنية قديمة
في نفسها وصدىً يوشوش : يا سليمهْ يا سليمهْ
نامت عيون الناس لكنْ من لقلبي كي ينيمه ؟

أو إشاراته إلى أغنية ( يا حادي العيس ) في قصيدته أم البروم أو إلى أغنية حضيري أبي عزيز ( سلّم عليّ بطرف عينه .. وحاجبه ) في قصيدته ( هرم المغني ) .
ثم استعماله لكلمة ( خطيّه ) وأما ( طابا ) أما أبلّ من مرضه العاميتين في بعض قصائده .. وهو يلحظ – حين يكتب عن الأغنية الشعبية العراقية في أحد بحوثه – الشبه أو الصلة بين القصيدة السومرية أو البابلية و ( الأبوذية ) من ناحية تكرار بعض الأبيات في القصيدة أو دورانها في الأبوذية في مفرداتها الجناسية وتأثر هذه بتلك .
لقد حاول السياب في كلّ ما قدّمه أو ضمّنه من إغانٍ ومردّدات شعبية بالدارجة أن يحوّره ويعيد صياغته بالفصحى .. لقد بذل جهداً مضنياً – كما يقول – وهو يعالج بيتي الدارمي :

نجمة صبح يهواي واسكط على غطاك
وبحجة البردان اتلفف ويــــــــــاك

ليرفعها إلى الفصحى أو يحول وزنهما إلى الكامل ليدخلهما في قصيدته ( ليلة في باريس ) على هذا النحو بعد صوغ مناسب ليحافظ على الأصل ما يستطيع :

توت ودفلى والنخيل بطلعه عبق الهواء
وهو الأصيل وتلك دجلة
والنواتي الخفاف يردّدون :
يا ليتني نجم الصباح
آهٍ لأسقط يا حبيبي على الغطاء
أعتلّ بالبرد ، ارتجفت فلفني ، برد الهواء

ومثل هذه التضمينات والتلميحات نجدها عند علي جعفر العلاق أيضاً وعند علي الإمارة في صوغه للأبوذيه والموّال بالفصحى .. أمّا طهمازي فقد ضمن في قصيدته ( إيقاع على السليقة ) من مجموعته الأولى ( ذكرى الحاضر ) زهيريّا كاملاً من الحاج زاير دويج النجفي :

ياصاح عودي ذبل وبكل دوه ما يصح
والدمع سال وجره من ناظري ما يصح
والنيب مثلي ابحنينه لو صحت مايصح
من حيث مضروب ما بين الجوانح تبن
ومعالج الروح ســـــــري لم اموتن تبن
لا تنهضم على السبع لو جان علفه تبن
اليوم حتى التبن علف السبع ما يصح

إلاّ إننا حين نقرأ آخر المجموعات الشعرية التي صدرت في العام المنصرم 2005 تحت عنوان ( زهيريات ) للشاعر عبدالكريم كاصد نقرأ ( 36 ) زهيريّا أو موّالاً . (26) منها من السباعي أو النعماني و(10) من الرباعي - أما الخماسي فلم يطرقه الشاعر – و(4) مقطوعات من ضرب ( الميمر ) و (5) من الدارمي مع أبوذية واحدة فقط .
إضافة إلى ذلك فقد تضمنت المجموعة قصيدة طويلة من شعر الشطرين بعنوان ( كلاسيك ) وأربع ( أغانٍ ) قصيرة على نهج الشعر الحرّ – جاءت بعض كلماتها بالعامية – وعلى خاتمة بيت واحد فقط لسنا بصدد الكلام عنها الآن .
وكما يبدو فإن الشاعر الذي عرفناه سابقاً في الحقائب -1975 ، والنقر على أبواب الطفولة – 1978 ، والشاهدة- 1981 ، ووردة البكاجي – 1983 ، ونزهة الآلام - 1990 ، وسراباد – 1997 ، ودقات لا يبلغها الضوء – 1988 ، وقفا نبك – 2002 بشفافيته وغنائيته الرائقة ومشهده اليومي الواقعي المدعم بالتفاصيل والحافل بالأطفال والطيور والمجانين والسحر والمسحورين من ألف ليلة وليلة بنسيمها الشرقي وأجوائها الخضراء ، وبشخصيات التاريخ ووقائعه المؤسسية وبالسخرية أو روح المرح التي تجبرك على الابتسام في : هدية إلى الحطيئة ، الملك والحذاء ، الحصان ...
في قصيدة لا تتنكب طرائق التجريد أو يثقلها محمول فكري باهظ يقترب من الدرس الفلسفي – على الرغم من دراسة الشاعر للفلسفة وتخرجه فيها – بل إن الأوليات فيها للفكرة أو الموضوع تؤديه بتناسب وإتقان ينم عن المهارة وبنظر واقعي موضوعي .
وبحسب الشاعر فأن كلّ ما يقع تحت البصر هو جدير بالملاحظة ويصلح أن يصاغ شعراً أو يحول إلى قصيدة ومن هنا غزارة إنتاجه .
وهو بهذه الاعتبارات منفردةً أو مجتمعةً يؤمن تداوليته ويؤسس مفهوماته وبهذه اللمعة من الضوء والنقر على أبواب الطفولة يبني شعره .
ويقترب عبدالكريم كاصد من سعدي يوسف في تجاورهما وفي مسارهما الإنسانيّ والإبداعيّ ونزوعهما الغنائيّ الوجداني ونظرهما الواقعي وصدورهما عن معتقد – ايدلوجيا – وبيئة ومعيش واحد عراقيّ الشجى والشجن ، الشعر والحياة والأسفار انتهبت روح الاثنين .
وإذا كان سعدي يوسف ينثّ ندى ونخلاً وسياسة ، فإنّ عبدالكريم كاصد يشعّ خضرة وسوسناً وألفة ً .
وحتماً فإنّ الشاعر نفسه ليس هو نفسه دائماً وصورته التي يظهر بها على صقال المرآة ليست هي نفسها كلّ مرة ، فهو ، هنا في ( زهيريّات ) يقدم تجريباً أو طرقاً جديداً يخص الأساليب أو القوالب والأشكال وتفصيحها .. وهي تجربة تشبه ( كران البور ) في مسيرة حسب الشيخ جعفر الشعرية ، من جانب ..
ومع أن الشاعر هنا يبتكر وينشئ محتواه إلا إنه يحايث الشاعر الشعبي في عاداته اللسانية وفي استعارة أطره ومجاراة موضوعته في ذم الدهر ورفعه للأردياء ممن لا يستحقون الرفعة في النظم الصلب ذي الطابع ( الرجولي ) في الزهيريّ أو في الأبوذية التي تصرخ بالشكوى والألم وتفيض بالأسى والندم من عثرة الحظ والغربة والمنافي وتقلب الزمن والناس والأهل والأصحاب :

لمّا رأيت نهاري باح لي ما يســرّ
أوقفت شمســي بليلٍ حائرٍ لم يسر
من قلّة الناس عاشرت الذي لم يسر
من صاحب مال أو من صاحبٍ لم يمل
ظلّي الذي مال بي عن شمسهم لم يمل
ملّت منافٍ وأخرى مثلــها لم تمل
لا صاحبٌ سرّني فيها ولا من يسرّ

وهكذا في بقية ( زهيريّاته) وبالأخص ما جاء منها في الصفحات ( 7، 10 ، 17 ) .. إلخ . ونراه في نموذجه الوحيد من ( الأبوذية ) يقول :

أعزّي النفس في موتي أنا الحيّ
ذلولي هاجرت عمداً من الحيّ
يقول الناس في عتبٍ : ألا حيّ
ولا يدرون أكثرهم أذيّهْ

ويقول في أحد دارمياته الخمسة :

يا من يديــر الكأس هل خمرتي دمّ ؟
أصبحت أحني الرأس من كثرة الهمّ

أو هو ينتهي إلى القول في ضرب ( الميمر ) :

أبصـرتُ يوماً في طريقي صـخرهْ
تعدو كما تعدو خيولٌ عشــرهْ
الأرض جيشٌ والســماء غبرهْ
فليهنأ المنــــفى بذئبٍ أغبر
علميمر وعلميمر وعلميمر

وجهد الشاعر في نظم الزهيري أو الأبوذية هو في عثوره أو وقوعه على مفردة دات جناس تام أو منقوص ولكنها بمعانٍ متعددة في الوقت نفسه تصل إلى الثلاثة أو الأربعة عند أقصى عدّ ، ففي المثال من الشاعر في الزهيريّ السباعيّ الذي طالعناه آنفاً نراه قد وظّف كلمة ( يسر ) أربع مرات بمعنى ( الكتمان أي السرّ والسير أي المشي والسرور واليسر ضد العسر ) على التوالي .. واحتاج إلى هذا العدد من المعاني لأنه وظّف المفردة الجناسية في الأبيات الثلاثة من هذا الزهيريّ ثم وظّفها في بيت الختام السابع أما لوكان قد استعملها في الأبيات الثلاثة اللاحقة للأبيات الثلاثة الأولى فإنه سيحتاج إلى ثلاثة معانٍ فقط فهكذا الحال في وقوع المفردة ضمن الأبيات الثلاثة الثانية ، ومثل هذا يصح على النمط ( الرباعيّ ) أيضاً على استناد من أبياته الثلاثة المذكورة هي أبيات ثانية لاحقة أو افتراضية وفي هذا ما يشبه ( الأبوذية ) أيضاً لأن القاعدة فيها أن تنتهي بخاتمة ليست من جنس المفردة الموظفة بترديد ثلاثيّ في ابياته وإنما يجب أن تأتي على زنة ( أذيّه ) أو أي كلمة من هذا القبيل .. أي بياء مشدّدة وهاء مهملة دوماً .. والميمر يماثل الأبوذية من هذا الجانب ولكن بأبيات ثلاثة حرّة القافية أو متنوعتها أي أنه لا يحتاج إلى كلمة جناسية بمعانٍ متعددة قياساً إلى الزهيري أو الأبوذيّة وإنما فقط أن يلتزم بيته الرابع بكلمة ذات رويّ ثابت هو الراء الساكن على زنة ( أخضر ، أغبر ، قسور ) .. إلخ لتوافق ( عالميمر ) بترديدها الثلاثيّ الذي يرد به على البيت الرابع وكأنه صدىً صوتيّاً له .
أما الدارمي فهو بيتان من الشعر بصدر وعجز – إذا عكسا في القراءة تحوّلا إلى ضرب آخر هو السويحلي – يجريان على منوال الدوبيت في الشعر الفصيح أي إنه لا حاجة إلى مفردة جناسية واحدة في قافيته لأنه حر التقفية .
أما أوزان هذه القوالب فهي تجري على البسيط ( مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن ) في الزهيريّ وعلى الوافر ( مفاعلتن مفاعلتن فعولن ) في الأبوذية وعلى مستفعلن فاعلاتن أو مستفعلن فاعلاتان - مثل فن القوما – كما في الدارمي أما الميمر فيأتي ممتطياً حمار الشعراء : مستفعلن مستفعلن مستفعلن أي رجزاً ..
إن الشاعر الذي فصح هذه القوالب وأخضعها للتطويع وجعلها قيد الاستعمال قد أدّى تمرينا وعرض مهارة .. وفي هذا كفايته .