الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الخميس 8/3/ 2007

 

 

نساء دنى طالب *


علي جاسم شبيب

(إن الكثير يشبهون خيول العربات التي يغطون عيونها ويوجهونها في سيرها)
.. العبارة مستلة من رواية دنى طالب (النقطة الأبعد) تتضمن الهاجس المرعب الذي ينتاب الكاتبة عندما تنزل إلى ملامسة الواقع، كي تقدمه بصياغة فنية منورة، لكن العتمة العالقة بذيول هذا النور، تطغى وتتفرد، بشكل يجعل من الشخصيات وحياتها ومآل مصائرها قطعاً تراجيدية كاملة، تراجيدية ملعونة، تحفر الأعماق وتدمي الجفون.
.. في رواية الكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي (صورة عتيقة) التي هي ضمن ثلاثية منها روايتها الكبيرة (ابنة الحظ) تتنوع العوالم وتضج بالإحداث، وتتفرق سبل الشخصيات وتلتقي بمصادمات ومصائر متنوعة لا حصر لها، وتنتصب قامات النساء بدمها الوطني التشيلي والمختلط مع أعراق أخرى، تدفع كل ذلك جذور التاريخ الهندي وقبائل ما زالت سيماء أهاليها مرسومة على الوجوه والأجساد والأرواح في الأجيال التالية: نساء صارمات مغامرات يبحثن عن الحب والمغامرة فتظهر الذوات، مهتزة غير مستقرة بما أصابها من خذلان أو فوز، لكن الواضح في كل المسارات إنهن متساميات على المكان مخترقات الأزمنة كموجات تحمل أمجادها وخذلانها متجهات إلى القمر صاحب التأثير أو الطبيعة/ الحضن حيث تمنح الدوران والانطلاق.
ليزا سومورز ولين الفائقة الحسن وباولينا الصارمة.. نساء خلقن على درجة من الصناعة الدقيقة، خارقات متلبسات بالخرافة ومتوجات بالحياة بنظافتها وطهارتها وكذلك رذائلها.
والحي الصيني في مدينة سان فرانسيسكو كان نقطة الانطلاق، ومنه تتوزع مسارب حياتهن لابسات الاستحالة والفضائل والغموض كالقدر.
.. وفي رواية "النقطة الأبعد" تنطلق الإحداث من ساحة في مدينة البصرة وتعود إليها أيضاً، من هذه النقطة الأبعد، حيث تندلع شرارات الانتفاضة الأولى ضد حكم الاستبداد والفاشية البشعة في تاريخ العراق المعاصر، هذه النقطة التي عبرت منها جيوش الاحتلال وفيها أيضاً يصوب الجندي الباسل نيران سلاحه على صورة لرمز النظام على حائط يتوسط الساحة.
النقطة الأبعد عند النساء الجنوبيات بعيدة وغامضة، لا يعرفنها إلا من خلال ركوب الباص الذي يعبرها باتجاه مركز المدينة أو باتجاه الإطراف أو إلى بغداد العاصمة.
أن مصائر النساء الجنوبيات في ظروف مغايرة ومكان استثنائي وزمن مختلف مكان ليس فيه أحداث وتمائم سحر وغابات مليئة بأرواح الأجداد ومداخن سفن ولجج بحار فوارة أمكنة جنوبية هنا، بأزقتها الضيقة وبيوتها القديمة نخلات خضر ترمح باتجاه الشمس، تسكنها نساء ملفعات بالسواد دائماً كضحية للحروب، لا يعرفن النقطة الأبعد إلا من خلال ما يسمعنه عن حوادثها من مغامرين أو تجار أو بائعي بضائع متجولين أو لصوص.
من هنا تبدأ الخيول بجر العربة وهي معصوبة العينين ومن هنا يبدأ التقاط الإخبار المشوشة والمشوهة بفعل النقل والمبالغة أو الابتسار بفعل الخوف.. فترى الشخصيات أن كل شيء ينهار أو يوشك على الانطفاء والنضوب فطلقة الجندي لم تصب الجدار فقط بل انتشر حريقها ليصيب الآخرين الذين تلفعوا بالصمت والانتظار. تصيب من تلاعب بمصائر الناس في الغش والسلب والتباهي الفارغ. تجد النسوة الجنوبيات أنفسهن محاصرات بأنفسهن، متعثرات بخواطرهن وذاكرتهن وليس من يفتح كوة لضوء قادم لا الأساطير والتعاويذ ولا مآثر الأجداد الغارقة بالأمل.
المرأة الجنوبية ترضخ، تخاطب الزوايا وعصافير الشجرة الوحيدة في الدار، تخاف المطر والريح والصراخ في الفجر الرطب، تنزوي وتفتح مجرى الذاكرة، تسلية ووسيلة بقاء، فالكل أمامها معصوب العينين والعمى ينطلق ليعم المكان، ترى الكل قد أصابه العطب الخفي، عطب لا يستطيع الإفصاح عنه إلا في مجالات من الهروب والصمت حالات من المباهاة الكاذبة المغطاة بسخام الوضع العام حالات من الاستكانة، استلاب يمنح الحماية والبقاء معبراً سرياً ضد الضياع والاستسلام الكامل. هذا ما بدأت به دنى طالب في مجموعتها القصصية (حرب نامه) على واقع معيشي لنساء في زمن الحرب، نساء يطفن بالغرف الخالية، نساء بعيون تخاف من حلول المساء ومن الإمطار ومن بدلة عسكري يحتل عتبة الباب فجأة دون إنذار كي يقول رسالته ويغيب بين غيوم الصراخ والعويل. وكانت نساؤها طموحات بأمل لابد وأن يبزغ، آمال تفور بها الدواخل وسلوك يفضي لحوارات مثلومة المعاني وقوة لا تصدق في البقاء والمقاومة.
وفي روايتها التي تبدأ بشخصية فلاح، تستكمل دنى طالب حكايتها، بموضوعية الرصد حتى كأنها تسجل تاريخاً بريشة سريعة خوف ان يتسرب بين شقوق جديدة والتواءات جاهزة لابتلاع ما يتكون وسينسى بعد حين.
فلاح نموذج لشخص عادي غير سلطوي في عصر الاستبداد، نفعي، غريزي، انتهازي نهم إلى الحد إذا شبع ظمأه، تثور عليه غائلة العطش ، فتنفتح أمامه دروب جديدة تخلقها تصوراته وأحلامه وجشعه، شخص خلقته الظروف واستدعت ما هو عزيزي وذئبي فيه ليقف أمام زوجته وفاء (علينا الانتباه إلى دلالات الأسماء) وفاء الطيبة، الذكية، المستكينة، والواهبة الصامتة حتى في ذروة تلاحمها الجسدي مع زوجها، وفاء الراضخة لقيود الزواج، كأنه جزء من تقاليد البيت الذي تربت في أجوائه، لتصبح مثل النساء اللواتي لا يعرفن سوى البيت ووجوه الأقارب، لقد تغطت بأقنعة التقاليد والحياة المستقرة لزوجها، فأصبحت الغشاوة مثل الجلدة المدورة على عين خيول العربات (هذه الشخصية لم تبن بشكل يجعلها محوراً صادماً ومفارقاً لكل ما تم بناؤه في جسد الرواية).
وفاء المستكينة الصامتة، تذهب حينما يدعوها زوجها، إلى الفراش وهي تعلم بأنها لحظات اغتصاب معلنه قادمة، لكنها تذهب صاغرة، متأرجحة ما بين تعاليم البيت القديم وعهر زوجها الفاضح، وطرائق اصطيادها حيث تشعر بأنها وسيلة لذة ليس إلا وعندما تلتقي بعادل صديق زوجها في بريطانيا حين تهاجر مع زوجها، بعد خوفه من عقاب قادم سريع، فان جذوة الحب والانجذاب تنطفئ عند مشاهدة أبنتها من فلاح (فلاح شخصية تؤرخ الكاتبة فيه لنماذج هربوا من وطنهم لسلوك معيب وهم قادرون على التلون وحمل ألوية عديدة في زمن واحد) أما بشرى الجميلة، الشابة، العارفة بأسرار جسدها وشهواتها كأنثى مكتملة تنزع هذا الاكتمال وتستبدله بغريزة ذاتها المستهلكة من الفقر والعوز، فتقع في التردي ككائن راض خانع كأي امرأة تعرض نفسها على رجل أكبر منها سناً، سوى مصلحتها وعزيزة تتصادم مع أهواء وغواية في الرفعة والمنزلة الاجتماعية العالية، في سكن جيد وزوج له قيمة اجتماعية بكونه دكتوراً بالجامعة... تموت بشرى أيام القصف في بيتها في الحي الجامعي، بعد مغادرة زوجها إلى بغداد، مغادرة متذمرة من سطوتها وغرامها في البحث عن متاعب تعوضها عن قرارها القديم، القرار الذي وأد أنوثتها وحبها وشبابها.
وهيام امرأة جنوبية محملة بخسارات متكررة، صابرة، صامتة، تجد سلوتها في زوايا البيت والشجرة والعصافير. لها علاقات طيبة مع أهل المحلة الشعبية زواجها مطعون بالاستهلاك اليومي، الباهت من سالم المستنكف من الناس والعمل. تصاب بفقدان الذاكرة بعد أن ضربتها شظية عند اندلاع المظاهرات التي أسست لانتفاضة آذار. هيام ذاكرة المدينة التي أغلقت منافذها عن أهلها وأصبحت رهينة لاستطبابات ودهاليز التمريض وإياد لا تعرف كيف يمكن ان تعود لحياتها الطبيعة.
أن بناء الرواية على شكل مفاصل تحمل أسماء أعانت الكاتبة في رصد حركة كل شخصية على حدة، تدخل في الثنايا والخصوصيات، تكشف عن بعض المستور وما يحيط به... فسالم سلبي يأخذ كثيراً من هيام ويبدده، متذمراً دوماً، وخالد معطوب بفعل سطوة بشرى وتبذيرها حتى هزته هزاً، أسقطت جميع ثمراته دفعة واحدة. ووفاء تهاجر مع زوجها المطلوب بفعل شنيع، غير مقتنعة سوى بتأثر تقاليد وأجواء بيت ونصائح قديمة، أنها ستعيش دورة حياة جديدة، صامته تنشد أملاً في أشراقة شمس مستحيلة.
إن رواية - النقطة الأبعد - إصغاء لصوت الوقائع، مع فحص لاهث، متسارع لكمية الرؤية المبذولة، وكان التناول يتسم بالحيوية في تقل حركة الشخصيات وتصويرها في حاضناتها الأصلية وهي لم تمسك بتلك الذوات إمساك الماهر في عمله، فبقيت حالة الاستكانة والخنوع والمصائر تدور مع رياح الواقع المؤلم والحزين، أنها لم تتمكن من فحص الرؤية المبذولة بل أطلقتها بكل شوائبها. وتمتاز لغة الكاتبة بالسهولة والإمتاع والاقتصاد والتقطيع وبعض المقاطع تحمل سمات القصيدة بما فيها من صور مكثفة ذات بناء متماسك (أم إنه قدري بأن أرى ما حولي مهتزاً أبداً) أو (أنظر إلى صفحة الماء... تهددني الأمواج دوماً).
ويعلن السرد المتأني، الخفيف الوقع، السريع التوصيل، عن خطوط أفقية في بنائه تصور حركة الشخصيات، وعمودية تنثال فيها تصورات وحوارات داخلية ورغبات. فعندما يخرج فلاح بعد تمتعه بصديقته المعيدة في الجامعة، يذهب تفكيره نحو سيارته التي ركنها بالقرب من الشقة (غمره ارتياح لسلامتها).
لكن الميزة الملفتة في بناء الرواية، خلوها من تصوير المكان بشكله التقليدي المعروف عند الكُتاب العراقيين، بل تحوّل المكان إلى نتيجة للزمان، زمان تواجد الشخوص وحركتها فيه، شخصيات شعبية مستقرة لها ملامح المحلات والأزقة، ومن ثباتها ومواصلتها البقاء فتكون ركيزة على رسم المكان كأم حسين صاحبة الدكان، وأبو صالح، الخال، إلام، شجرة البيت كلها أشارات وتواصل تتحرك ضمن زمان أرخ مكانه.
وأخيراً فأن مجموعة (حرب نامه) كانت امتدادا واسعاً في الرواية، فالأسلوب الخاص في القص، ببساطته واتزان عباراته ورشاقته واقتصاده وبناء الصور المتخيلة وتغير دواخل الشخصيات من خلال حركتها وأسلوب عيشها وحواراتها كونت البروفة المكتملة لبناء رواية النقطة الأبعد، إضافة إلى ان شخصيات المجموعة تجد امتداداتها الصريحة في الرواية، فخيال وعاطفتها وجرأتها تقترب لحد كبير من بشرى والمعلمة في قصة (التحليق داخل الغرف) صدى من همسات هيام.
إن دنى طالب روائية وقاصة واعدة، لم تخنها ذاكرتها وهي المهاجرة، عن رؤية مستقبلية قادمة لمصائر مدينة ووقائع حياة أفرادها وقائع مبعثرة ملتبسة راعشة، مستكينة.


* دنى طالب : روائية وقاصة شابة، قرأت لها رواية (النقطة الأبعد) ومجموعة قصص (حرب نامه) وهي ابنة الشاعر والملحن طالب غالي.
دنى طالب نشيطة في الكتابة ومتميزة ومثابرة بمستويات متنوعة، في المقالة والعمود والقصة والرواية، تعيش في كوبنهاكن-الدانمارك.