الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأحد 9/4/ 2006

 

 

مدونة الذات المكابرة
قراءة في قصيدة “سيدي الخوف” للشاعر مصطفى عبد الله


جميل الشبيبي
Jammelalshibibi@yahoo.com

دأب الشاعر مصطفى عبد الله، خلال هجرته الطويلة عن الوطن، على تأمل حجم الفجيعة والخراب الذي حل بوطنه ومواطنيه، والى تأمل عمق الجراح التي أتت على المعالم الإنسانية في النفس العراقية الجمعية. وفي بداية هجرته كان يتملكه أحساس بعودة قريبة، وبنهاية متفائلة لهذا النزيف، وقد أتضح ذلك في نتاجه الشعري نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين لكنه أدرك بعد ذلك أن غربته قد ترسخت وأن العودة الى الوطن شبه مستحيلة، ولذلك دأب على تأمل حجم هذه الكارثة، مقترباً من أسبابها مخاطباً الذات المنكسرة على وفق آليات خطاب هذا الإنكسار: الاعتراف به، محاورة السيد الأقوى من موقع أدنى، أستخدام وسائل التبجيل والتفخيم ثم الأسهاب في تجسيد وتصوير حجم قسوة الآخر على هذه الذات وتداعيات هذه القسوة عليها. لقد تحول خطاب الشاعر مصطفى عبد الله من خطاب تحريضي يمتلك أسباب الرفض والتمرد، الى خطاب تاملي -حسي بحجم هذا الانكسار وقد تميز بالشفافية والحزن الإنساني المتعالي على الجراح والآلام. ولم يكن ذلك استسلاماً من الشاعر أو اعترافاً بالهزيمة كمصير نهائي، بل ان هذا الخطاب سياحة حية في عمق الذات المكابرة التي تتلقى القسوة والعنف باللامبالاة. أنها ترتب لها كياناً شفافاً تخترقه سهام الخراب ودون أن تلويه أو تشوهه، وهو نوع من مكابرة الذات عاشها العراقيون طيلة أيام المحنة التي أستمرت أربعين عاماً وكان الشاعر الراحل واحداً من شعبه، وكأنه لم يغادر وطنه أو يبتعد عنه.أن القراءة المتمعنة لنتاج هذا الشاعر خصوصاً قبيل وفاته عام 1989 سيجد تلك الشفافية وذلك الحزن الشفيف وسيتعرف بنفس الوقت على عمق هذا الخطاب وجماليات تشكله بمجازات مبتكرة وأدوات تعبيرية خاصة تستحق الدراسة والـتأمل في بنيته وما تنتجه من دلالات مؤثرة. نشير بشكل خاص الى قصائده: الاجنبي الجميل، سيدي الصمت، سيدي الزمان، سيدي الخوف، ياخلوة التابوت.... سنتخذ من قصيدة “سيدي الخوف” أنموذجاً قرائياً لهذا النوع من الخطاب الشعري، للتعرف على بنيته، وعلى جماليات التشكل فيه.من المقطع الأول للقصيدة نفاجأ بتسليم وإقرار لسيادة “الخوف” من قبل الذات الساردة، وهي تسرد معاناتها بضمير الأنا لتكشف عمق هذا التسلط في فضاء القصيدة أبتداء من عنوانها وحتى المقاطع الأخيرة منها، ويتأكد هذا التسيد ويتعمق بذلك التكرار المتعمد والملفت للنظر لأداة الجواب “نعم” التي تظهر في فضاء القصيدة كلازمة صوتية ومكانية تشغل حيزاً كبيراً إذ تتكرر إحدى عشرة مرة موزعة على مجموع مقاطع القصيدة الستة. أن الاعتراف بسيادة الخوف بأعتباره كائناً يجسد الرعب ويشل القدرة ثم مخاطبته بلهجة التبجيل والاستجابة لفعله سيقترن بوجهة نظر مخالفة لهذا الاعتراف تسجله الذات المنكسرة بصورة حيادية، ويتجلى ذلك بالكشف عن السطح المخادع الذي يتستر خلفه هذا الكائن مجسداً بقرينة التمساح - التماسيح متمثلاً بكناية “دموع التماسيح” التي تعمل كغطاء وقائي لأعمال الفتك والتخريب:
نعم، سيدي الخوف
رأيت دموع التماسيح فوق الطحين
تحسست أنيابها في زحام العجين
نعم , جاسني بردها فأستعذت بها مرتين
وخلال هذا الكشف تسرد وسائل القهر وتتنوع فيما تتراجع الذات المعذبة لتدرأ هذه النصال الحادة على وفق ثنائية غير متكافئة:
لساني .............. أردمه
عيوني ..............أخصفها
سمعي .............. فأخصمه
ذاكرتي ............. أعصرها ثم أنشرها فوق حبل الغسيل
أن هذه الإجراءات الوقائية تستنجد بوعيها وذاكرتها للأحداث الماضية وعبر معاينة مشخصة لذلك الماضي:
نعم سيدي الخوف: لي صاحب
ثم أنكرته فأفترقنا وأذكره كلما حك جلدي حديد
وحين تستعيد الذاكرة ذلك “الصاحب المشاكس” فأنها توغل في أنسحابها وعقابها لذاتها على وفق الثنائيات التي أشرنا إليها، لأنها تعرف حجم الخسارة التي تعرض لها ذلك الصاحب:
نعم كان لي صاحب واحد لم يخف فتفرق
ولم يجمع البحر سوى ملحه
والحديد الثقيل
ان تصاعد هذه الدراما “الشعرية” يتم على وفق آليات خاصة، لا علاقة لها بمصطلح الدراما، إنها فضح مركز لأقتحام الآخر المسمى بالخوف أو بقرينه المجسد، على الذات المتأملة لهذا العذاب، دون قدرة على صده أو مقاومته .. ويجري فضح كل ذلك بكنايات دالة، يستبدل فيها الشاعر وسيلته البلاغية والإبلاغية، بوسيلة أخرى، وذلك باللجوء الى استخدام الكناية بديلاً عن المجازات الأخرى لتجسيد هذا الكائن الخرافي، العصي على التعريف، كي يصبح كائناً محسوساً، ويتضح هذا التجسيد بأقتران دال بين الخوف “والتمساح/ التماسيح” فكلاهما كائن غامض، مختف عن الأنظار، يتربص بالآخرين ليفتك بهم في لحظة يقررها هو..، أن بين الخوف والتمساح صفات مشتركة على وفق ماوصفناه .. ولكي يكون الاقتران أكثر وضوحاً فالشاعر يلجأ الى أستخدام الجزء بديلاً عن الكل للتعبير عن الفتك: الأنياب، الأصداف، الدموع كناية عن التستر والمخاتلة، ثم يجري تعميم كل ذلك، لتحل هذه الأجزاء الفاتكة بديلاً محسوساً عن الخوف. بأعتباره مسمى تجريدياً:
نعم سيدي الخوف
رأيت التماسيح تفرد أنيابها للسحاب فتغسلها
والرياح فتعصرها، والسماء فتنشرها فوق كل البيوت..
وبذلك يتم التعميم، لتصبح وسائل الفتك “فوق كل البيوت..” والشاعر لا يكتفي بذلك بل انه يسترسل في الإبلاغ عن الأذى الذي جاس النفس وأرعبها، بأستخدام كنايات شائعة تفيد التوصيل بعقد صلة مع هذه المفردات المعروفة الشائعة مثل: باب الحديد، الحديد الثقيل، ريح الفجر (زوار الفجر)..ألخ.أن استخدام الكناية في هذه القصيدة من البناء السردي الذي يراكم الصور المجاورة، وصولاً الى كناية أكبر.. ولأنجاز ذلك تداخلت الجمل الأسمية والفعلية، فأسبغت على القصيدة حركة ذات أتجاهين: أولهما بأتجاه العنوان صعوداً حيث تتركز سلطة الخوف وتترسخ، وثانيهما بأتجاه نهاية القصيدة بنسق مخالف يتخذ من الإجراءات الاحترازية موطناً، ثم ينمو بشكل غير ملحوظ لتسجيل موقف مفارق يبدأ بأعتراف الذات الساردة بالتمرد:
مرة قلت كلا، فكاد لساني يضيع
وأخرى بذلك التمترس خلف الألم والجراح وطول الإقامة خلفهما لتصبح حارساً أو ملاذاً أميناً ضد تجاوزات هذا الكائن المرعب:
نعم أنها حائطي
وهذي الثقوب تمر الى كل أهلي
أن الاقامة الطويلة على مكابدة الآلام والتسليم بالسيادة بالبوح المباشر قد أكسب الذات المقهورة مناعة تتجاوز هذه الآلام والمنغصات على الرغم من سيادة الشكوى على معظم مقاطع القصيدة، غير إننا نلاحظ أن التعامل مع الثنائية التي تتجه صعوداً مكرسة للألم والشكوى، قد صيغت صياغة لغوية يغلب عليها العودة الى الماضي والإقامة فيه وكأنه ماض قد أستنفذ فعله وانتهى ويتضح ذلك بدلالة استخدام مقصود للأفعال الماضية-:تحسست،جاسني،أحتميت، فرقنا الحرس المستقيمون، أحصيت كل عظامي، هيأت خامي. فالمقطع الأخير من القصيدة وهو مقطع قصير ومكثف يعمد الشاعر مصطفى عبد الله فيه الى تسجيل موقف مفارق لما ألفناه في المقاطع الأخرى من القصيدة يمثل أتجاهاً منفتحاً نحو عمق فضاء القصيدة وبحركة نفي وأنفلات من أسار الشكوى والألم ويستخدم الشاعر الكلمات نفسها بسياق جديد تكتسب فيه معاني جديدة ودلالات تشي بالانفتاح والتمرد على الفضاء الخانق الذي كبل القصيدة وقيد دلالاتها بأتجاه سيادة الخوف. نرى مثلاً أن كلمة الجواب، “نعم” قد تحررت من قرينها الملازم “سيدي” وأتخذت لها معنى آخر أقرب الى التحدي كما نرى أيضاً أن كائن الخوف المجسد في المقاطع الأخرى سيصبح هنا ملاذاً للذات المنكسرة تحتمي به لترتق جروحها و(تجبر) كسورها وتطلق عبارتها في فضاء جديد
نعم، أنه حائطي
وبابي على حفرتين
وهذي ضلوع العبارة
يجبرها الجبس
مرفوعة كالجبين
فأستخدام الفعل يجبرها بدلالة الحاضر والمستقبل، تعبير واضح على المعافاة، وأستخدام الجبس وسيلة لذلك يحمل دلالة إضافية هي البياض الذي سيغلف الذات المجروحة فيحيطها بالنقاء ويدفعها للأستمرار بدلالة العلاقة مع الجبين: مرفوعة كالجبين أو مرفوعة الجبين إذا حذفنا كاف التشبيه الذي -ربما- يستخدم كضرورة لأستقامة الوزن، عند ذلك يتم الغاء ماض محمل بالمتاعب والرعب وتأشير حاضر في بداية تشكله.