الصفحة الثقافية
الأحد 9/4/ 2006
حانة على النيل الازرق
حانة على البحر المتوسط
مقاربة بين قصيدتين
قاسم محمد علي الإسماعيل
تؤرخ قصيدة مصطفى عبدالله (حانة على النيل الأزرق) حادثة إعدام عبدالخالق محجوب وهاشم العطا والشفيع أحمد الشيخ ورفاقهم بعد فشل ثورة 19 تموز 1971 في السودان ، حيث يستهلّ الشاعر القصيدة بإعلان واضح منه :
( أنا ،
أودّعُ مَن لا يجيء معي)
وهو بدايةً يحيلنا عبر إهدائه هذه القصيدة إلى سعدي يوسف الذي تضمن ديوانه “نهايات الشمال الافريقي” قصيدة بعنوان (حانة على البحر المتوسط)، حيث تشترك القصيدتان بحواريّة مع (الآخر) وهو (سيدّة) مفترضة يحاورها الشاعر. كما في نصّ مصطفى عبدالله:
(- فهل تذهبين ...؟
أراكِ غداً ،
وأتركُ إسمي على دفترك.
وتمشي المحطة.)
وفي نص سعدي يوسف :
(- هل تريدين شيئاً من الملح ..؟
-لا .... )
وفي كلتا القصيدتين تستمر هذه الحوارية بإغناء النص عبر سلسلة من الحواريات القصيرة، يقول مصطفى:
(فاكتبي يا صديقه،
وباللغة الأجنبية:
بأن الوصول إلى النيلِ شوقٌ محرّم
وأنّ السياحة صعبه.)
في قصيدة سعدي يوسف ، منذ البداية ، يهيئ القارئ إلى حدث عصيب سوف يأتي حين يكرر وبشكل متسق: أعتمَ البحر ...، أعتمَ النهر ...، أعتمَ الوجه ... ليصل بالقارئ في نهاية القصيدة إلى صورة الإعدام بشكل ضربة واحدة سريعة:
(إنّ كفّيه مشدودتان.
إنّ عينيه معصوبتان .
إنّه ، فوق كرسيّهِ ...
سوف يُعدم.)
وفي كلتا القصيدتين يعالج الشاعران حدثاً سياسياً هو الإعدام بصورتين متقاربتين جداً، الإعدام الذي يذكره سعدي يوسف في العراق الذي كان يعيش في سنيّ السبعينات -وقت كتابة القصيدة - حالة واضحة من التوتر السياسي عبر التصفيات الجسدية التي مارستها السلطة آنذاك ضد جميع المعارضين ومن التيارات الفكرية المختلفة، فهو من منفاه في الجزائر يستعرض قلب بغداد (باب المعظم) حيث مقر وزارة الدفاع ومديرية الاستخبارات العسكرية العصب الحقيقي للسلطة آنذاك، ليصل في وصفه إلى مشهد الإعدام بعد تأجج المشهد بتكرار كلمة (العيون) خمس مرات في القصيدة، وتكرار كلمة (المرايا) أربع مرات، لإحالة القارئ إلى المشهد ذاته.
أما (صورة) الإعدام في قصيدة مصطفى عبدالله فتأتي أكثر وضوحاً وإعلاناً و بـ(شاشة) واسعة وبحدث سريعٍ متنام:
( ما مالَ إلاّ وعشرون فوهه
أبرقت ، أرعدت دفعة واحده.
وشالوا رصاصاً ولحماً
شالوا حبيبي رصاصاً ولحماً،
شالوا حبيبي) ..
وغنائية الفجيعة بعد القتل واضحة في هذا المقطع عندما يكرر الشاعر (شالوا رصاصاً ولحماً .. إلخ ...) فهي تبدأ قوية ثم ما تلبث أن تضعف وتتلاشى رويداً رويداً كلازمة...لتظهر لمرة واحدة في نهاية القصيدة. وقد وظّف مصطفى عبدالله في قصيدته الأفعال الماضية مثل: عدّوا ، شالوا ، قالوا ، كنسوا ، لوصف فعل الجريمة وفضحها، بينما وظّف أفعال الأمر مثل : إذكري ، قولي ، اكتبي ، للرد - ضمناً على الجريمة.
في قصيدة سعدي يوسف يظهر بشكل واضح المكان المفترض لرواية الحدث وهو(حانة):
(- هل تريدين شيئاً من الثلج...؟
-لا ... )
(- أنتِ لا ترقصين ..!
- ربما بعد كأسينِ ...)
بينما في قصيدة مصطفى عبدالله يبدو بضبابية :
(أهونُ إذا ما سكرت)
أو: (وثمّ يسامرنا كأسنا نهونُ إذا ما سكرنا)..
القصيدتان رغم أنهما كُتبتا في نفس العام ومتجاورتان في العنوان إلا أنني أعلم وحسب معرفتي الشخصية الوثيقة بالمرحوم مصطفى عبدالله أنه لم يكن يعلم بقصيدة سعدي يوسف وأن مصطفى اكتفى - عندما قرأ قصيدة سعدي منشورة - بحجب هذه القصيدة (حانة على النيل الأزرق) عن النشر وأضاف الإهداء (إلى سعدي يوسف) أسفل عنوانها. وإنني عندما كُلّفتُ من عائلة المرحوم مصطفى عبدالله بداية هذا العام بأن أنضّد ديوانه الكامل بشكله الأخير الذي أعدّه شقيقاه خالد وأنس وبجهد كبير وخاص من الشاعرين الصديقين عبدالكريم كاصد ومهدي محمد علي لتقديمه للطبع في وزارة الثقافة العراقية ، وجدت أنّ هذه القصيدة لم تدخل أيضاً ضمن المجموعة المعدّة للنشر ، على أهميتها الفنية والإبداعية.