الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأحد 9/4/ 2006

 

 

الشاعر الراحل مصطفى عبد الله
مفردات أقرب الى الرسم أو رسم العالم بالكلمات

 

خالد خضير الصالحي
khkh1956@yahoo.com

يتعامل الشاعر الراحل مصطفى عبد الله مع كلماته تعاملاً يشعر المتلقي أنه أقرب الى تعامل الرسام والنحات مع مادته المطواعة القابلة للتشكل اليدوي بسهولة، كالطين مثلاً، أو ربما كالشمع، أو ألوان يخرج بها صوره الشعرية من أنعزالها، عكس ما يرتكبه الكثير من الشعراء، حيث تبدو صور قصائدهم وكأنها جزر معزولة وسط مياه محيطات شاسعة، أنه يحاول إعادة تشكيل العالم بكلماته إذن، وبصورة ذات السمات البلاستيكية (= التشكيلية)، صور وقائع ملموسة، تعني أشياء ملموسة، أو لها علاقة بأشياء ملموسة، وبذلك تمتلك اللغة عند الشاعر مصطفى عبد الله (كثافتها الخاصة) أو ما نسميه (متيريالية اللغة) ونعني به الطابع المحسوس للمفردة، ذلك الطابع الذي يبدو مكانياً، (رسماً) لما يعرفه الشاعر، ولما يشعر به، ولما يراه في الوقت ذاته، لوحة تقرب من سمات النمط التكعيبي، في مرحلته التركيبية، بما أحتوت من ملصقات، وطباعة، وتكريس لنسيجية اللوحة، وبذلك يسيطر مصطفى عبد الله على إمكانات أداته التعبيرية، ويتخذها، في الوقت ذاته، موضوعاً له، وهو بذلك يحقق تلك (الإنطباعات البصرية المفردة) التي يحققها الرسم إضافة الى وحدة وأنسجام بصريين، بينما يحافظ على ما يحقق الأدب من ( تتابعات حكائية عبر الزمان والمكان)، وهو يحاول إنجاز ذلك بوسائل وثيقة الصلة بتلك التي يستخدمها الرسام بوسائله الشكلية التي تعنى طبيعة المادة والبناء الطوبولوجي للوحة.
“حاربي من أجل جهدي الذي صنعته
كي يثمر،
هكذا تعرفين:
لم تجلس الحجارة لتصير تمثالاً خالداً
ويصعد (هندال) الى المشنقة”
(زهرة للمواطن)
يحاول مصطفى عبد الله ممارسة ضروب من التجارب الشكلية التي تؤكد أن تعامله مع اللغة كان تعاملاً تشكيلياً (بلاستيكياً) من خلال كتابة قصيدة الكاليكرامز Calligrammes أو تجارب قريبة منها، والكاليكرامز نمط من القصائد التي (تصاغ كتباتها على نحو يشبه مواضيعها، وهي تعيدنا الى العمل الأصلي في الكتابة، وهو رسم العلامات على السطوح). فقد شكل قصيدة (دائماً) لتتخذ هيئة رأس سهم منطلق نحو اليسار، وهي تو حي بموجة من الهتافات التي تردد بخفوت في البداية، ثم تتخذ أعلى مدياتها، لتنتهي وتتلاشى أخيراً أصداء متناثرة:
“ دائماً
دائماً في العراق
دائماً في العراق الجميل
دائماً في العراق الجميل المضرج
دائماً في العراق الجميل المضرج بالزيت
دائماً في العراق الجميل المضرج بالزيت والفقراء
دائماً في العراق الجميل المضرج تنهض أغنيتي
دائماً في العراق الجميل تقاوم أغنيتي
دائماً في العراق تقاتل أغنيتي
دائماً في العراق
دائماً “
(دائماً)
ويبدو أن مصطفى عبد الله كان يشعر في دخيلة نفسه أنه تشكيلي، وأنه حين يمارس كتابه الشعر فإنما يرسم لوحات بالكلمات، فكان يحرص على الإيحاء بتلك البنية الشكلية واضحة في شعره:
“هذا اليوم أصبح في غرفتي منضدة وكرسي أمس أشتريت (السيكوتين) والمقص يا أصدقائي أحدثكم عن ورقة: لها حدود المقص “والسيكوتين”
وعلى طاولتي خمس بطاقات بريدية”
الخارطة
تلك البطاقات الخمس لمدن خمس، أنتهت بها رحلة التحولات على طاولة مصطفى عبد الله الى أن:
“يكمل بها لهوي
وتستقر وحدتي
على خارطة هذا العراق
المثبت بالسكوتين على طاولتي الفارغة”
(الخارطة)
وأحياناً يحاول مصطفى عبد الله أن يؤسس فضاءً نحتياً وأحداثيات لعناصر تكوين لوحته التشكيلية، كما يصنع الرسام (فرنسيس باكون) كائنة تحت رحمة عدد من المكعبات الضاغطة عليه والخطوط المستقيمة:
“هذا المستقبل المربع
الذي يملأ البيت بالضجيج والساعات”
(المقايضة)
“ياصديقي
أجلس الآن هادئاً كقطعة، أو كجزء
راعياً الغبار فوق أصابعك
خارجاً عن تفاصيل هذا الخط المستقيم”
(المقايضة)
يبلغ التشكيل الصوري مديات كبيرة في قصيدة (أم العصافير) التي تبدو لوحة تشكيلية من خلال حشد الصور وتدرجات الألوان دون أن يذكر ألوانها صراحة بل جاءت الصور طيعة هكذا دون مباشرة:
“ أيتها الشجرة، يا أم العصافير
أنت تعلمين لماذا يكون ماء البحر صافياً
في الأناء
وقاتماً في البحر”
(أم العصافير)
وقد يقوم بالأفصاح عن باليتة ألوانه أحياناً:
“أيتها الشجرة، يا أم الأجنحة الخضراء
والهواء الأزرق
أتركي الكأس مملوءة بالماء البارد
والقدر مملوءاً بالخبز الحار
وأشعلي في الغرف أعواد البخور”
(أم العصافير)
كان مصطفى عبد الله يرسم أحياناً بالأسود والأبيض، وأحياناً لا يرسم على الورق حسب، بل وعلى راحة اليد أيضاً!:
“الخطوط التي حفرها على راحتيك
سخام الأواني والسنوات
أمي “
(أم العصافير)
وقد يعلم الشاعر مصطفى عبد الله، وقد لا يعلم أن المداد يصنعه الخطاطون والمخططون من سخام الأواني والصمغ العربي والعفص. ونادراً ما نجد قصائد لمصطفى عبد الله تخلو من تأسيس لأرضية لونية ما، وهو بذلك كأنما يستخدم “فلترات” ملونة تصطبغ الصور خلالها بألوان نقية واضحة، تارة من خلال التصريح بالألوان وتارة دون ذلك:
“هم، لا غيرهم، يأتون كل لحظة،
يجلسون هنا
بيننا - بيني وبينك-
بمشانقهم ورقابهم المتدلية
وقلوبهم التي أصرت ثم هدأت
بأصابعهم ورائحة سجائرهم
هم - لا غيرهم
أورثوني، أيضاً، بحارهم العميقة
ونوارسهم البيضاء”
(البستان)
وينتقل دائماً مابين اللونين الأسود والأبيض:
“ ألعب في هذا الفراغ
مع الغرفة الباردة والشاي الأسود”
(الخارطة)
وحين يريد أن يحدد درجة (لون) ذلك الشاي يقول:
“ الشاي الأسود
أنه الشاي المعد كما في العراق”
(الخارطة)
“ أتذكر صديقي
أتذكره داخل (دشداشته) البيضاء”
(المقايضة)
“ أيتها الشجرة، يا أم الأجنحة الخضراء
والهواءالازرق
أتركي الكأس مملوءة بالماء البارد
والقدر مملوءاً بالخبز الحار
وأشعلي في الغرف أعواد البخور”
(أم العصافير)
“ كان يباغتني هذا الشاعر
مطرقاً يأتي من النافذة
ويضع امامي أعداءه الملونين”
( ما الذي تغير أيها الشاعر؟)
وللون الأسود وقع خاص في نفس مصطفى عبد الله الكسيرة الحزينة:
“ في غضبي
كل أغاني الزهرة
والعرق الأسود
ونزيف الصبر”
(الاجنحة)
وكذلك للون الأخضر، الذي يجعله عاملاً حاسماً في توازن (ميزانسين) النص:
“ أنتم للخبز
وللشاي
وللتعذيب
أنتم لرجال خضر لم ترهم شمس
وقفوا في الأمس
وجروا عربات اليوم الى التوقيف
حملوا كحمل الطلع وذروا فوق النخل
الأسفلت”
(الأجنحة)
“ أنظروا للشاعر وتواقيعه
قبل ان ينحني لكم بأسنانه البيضاء
أنظروا لكل تذاكر السفر في حقيبته السوداء”
(ما الذي تغير أيها الشاعر؟)
وقد يموه اللون في ثنايا النص حيث تظهر حمرة النار وسواد أحتراقها الجلد في قصيدته (البستان):
“ أرجوك، قربيه الى وطنه
بأزهارك وعافية الضوء في عينيك
بدون بلاد عامرة بدم أصدقائه المنتصبين
تعرفين أنه قد يحترق
أوقد يحرقه جلده الآدمي”
(البستان)
“ أرى هذه البلاد المتسعة بي
مليئة بالصفات والتواريخ
أراها متدلية كورقة أو جناح
أراها متقدة بين أصابعي”
(البستان)
“ الخطوط التي حفرها على راحتيك
سخام الاواني والسنوات”
(أم العصافير)
ويجمع الشاعر لونيه الأثيرين الأسود والاحمر في توليفة تبرز هذين اللونين بقوة، هي قوة الليل والدم:
“ الليل قادم جاء
محتشداً بين الأسماء
وبيوت العزل ترفعها ريح
وتحط بها ريح
قل لي من أبكاك هنا في الشرق
من أعطاك الجرح لتبدأ بالصمت”
(الأجنحة)