|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  3 / 9 / 2017                                       جواد كاظم غلوم                         كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

بغداد تبكي رشيدَها

جواد كاظم غلوم
(موقع الناس)

بعد شهور قليلة من الاطاحة بالدكتاتورية الصدامية في نيسان من العام / 2003 غمرت ساحتنا العراقية تصريحات ووعود جمّة وإصرار على بعث شارع الرشيد من سباته الطـــــويل وإحيائه مجددا وإعادة عمرانه وتطـــــــويره باعتباره شريان بغداد وواسطة العقد في قلادة العراق الزاهية الجميلة .

قالوا لنا بان شارع الرشيد سيجري به دم العافية مجددا وسيتم ترميم البنايات والعمارات على جانبيه ووعدوا بالعمل على جلب فرق صيانة من المختصين الاجانب ممن يمتهن الحفاظ على معالم التراث المعماري لتزهو مجددا وزاد البعض على ذلك بانه سيمنع سير المركبات والسيارات فيه وستعود العربات المزركشة التي تجرّها الخيول ويقتصر التجوال فيه على السابلة وتعاد المكتبات العريقة والمقاهي الثقافية ودور السينما والمسارح وتستمر السهرات حتى ساعات متأخرة من الليل ويعود الالق مجددا وتصدح الاماسي في ليالي بغداد وتزيل عنها وعث التراب وتراكمات النسيان .

بقينا ننتظر الفرج والفرح والأمل الموعود ، مرت الشهور تلو الشهور وزادت ترقباتنا سنةً اثر اخرى لكننا لم نيأس ، قلنا انهم الان منشغلون بترسيخ اسس النظام الجديد وان هناك تحضيرات لترسيخ اسس بناء عراق حديث لأننا نعرف كيف تراكمت على صدورنا اعباء وأهوال نظام الحكم الواحد ؛ ومزابل الدكتاتورية تحتاج وقتا اطول لأزالتها ولابد من وضع اللمسات الجديدة لنظام ديمقراطي مدني ولابأس ان يؤجل مشروع تطوير شارع الرشيد طالما ان هناك اولويات يجب العمل بها وانتظرنا وطال انتظارنا والتحمت ايدينا على خدودنا حتى بدأ اليأس يدبّ في اوصالنا وتبيّن ان كل شيء قيل كان محض خيال وأوهام وأماني ليس لها قيد في الواقع ابدا وهي مجرد هدهدة طفل وطبطبة على صدره كي ينام ويغفو على احلام وردية وتهويمات تحوم وتتراقص حول مهدِه .

لكن العراقيّ المتعطش لإعادة زهو عاصمته بغداد وشارعها التاريخي العتيد ظل يترقب ماستقوم امانة العاصمة بعد ان سمع ان مشروعا سيجري تنفيذه لتطوير شارع الرشيد والمنطقة المحصورة بينه وبين نهر دجلة وخصصت له مبالغ تزيد قليلا على السبعة ملايين دولار يشمل صيانة مبنى وزارة الدفاع القديمة والقصر العباسي والقشلة والمدرسة المستنصرية والمساجد العريقة المهمة مثل جامع المرادية والازبكية وسيد سلطان علي وغيرها وتحديث وصيانة الاسواق مثل سوق الصفّارين الصامت الان وكأنه مقبرة للنحاسيات وسوق الهرج وسوق السراي والشورجة وسوق القماش وإبراز المقاهي الشعبية بأبهى حلة ودور السينما وخان مرجان وبقية المعالم التـــــراثية العريقة مثل مقر المقيم البريطاني والمتحف الملكيّ والبيوتات البغـدادية القــريبة من نهر دجلة وعمارة بيت لنج ومكتبة ماكينزي واوروزدي باك وغيرها .

وتم توزيع المشروع على شكل قطّاعات تبدأ من ساحة التحرير وبضمنها جسر الجمهورية حتى السنك ثم الى منطقة الشورجة حتى ساحة الميدان مرورا بجسر الشهداء وأخيرا من ساحة الميدان حتى الباب المعظم .

غير ان كل هذه التصاميم بقيت مجرد خرائط على الورق وهياكل مخزونة في دائرة التصاميم لدى امانة العاصمة برفقة الصور التي تسرّ الانظار في مكاتب الامانة حصرا لكنها عجزت ان تكون واقعا ملموسا وظللنا نسمع بين اونة وأخرى مبررات واهية في التأجيل والتسويف واغلبها انصبّت على نكول الشركات التي اوكلت اليها تلك المشاريع واتهامها بالإخلال في شروط العقود الموقّعة ومن المضحكات المبكيات ؛ فقد حدّثني احد العارفين القريبين من وزارة الثقافة انه حينما تولّى السيد وزير الدفاع الاسبق مهام وزير الثقافة وصار ذا الوزارتين ؛ تم تخصيص مبلغ مناسب لتطوير شارع الرشيد على ان تبدأ المرحلة الاولى منه انطلاقا من ساحة الميدان حتى تمثال الشاعر معروف الرصافي مرورا بمنطقة الحيدرخانة وتم ايداع المبلغ في حساب وزارة الثقافة وأحيل العمل ابتداءً على احدى الشركات الكندية لدراسته وعمل التصاميم اللازمة له ؛ وبالفعل وصل كادر الشركة المعنية بالعمل الى بغداد واتخذ موقعا له في شارع ابي نواس غير ان السيد قائد الوزارتين امر بسحب المبالغ المتواضعة المخصصة لأعمار الشارع وعمل على مناقلتها الى وزارة الدفاع واضطرت الشركة الى العودة الى ديارها بخفي حنين ، ويبدو ان هذا المبلغ قد تآكلته صفقات السلاح واندثر بغمضة عين في خزائن وزارة الدفاع ، حينها أيقنتُ ان لاأحد يحزم أمره ويشدّ من أزره ويعيد لنا ولو ومضة واحدة من إشراقات شارع الرشيد وكأني بهم يتلذذون في ابقائنا آخر الصفوف بعد ان كنّا في الصدارة بميادين الرقيّ الحضاريّ …. رحمك الله استاذي الكبير الدكتور علي جواد الطاهر ، كم كنت مصيبا وانت تردّد بيت شاعرنا العباسيّ الطغرائي في حلقات الدرس وهو يقول :

تقدّمتني أناسٌ كان شوطُهمو        وراء خطويَ إذ أمشي على مهَلِ

حتام تبقى حظوظنا عاثرة هزيلة ونحن نهمل روائعنا المعمارية الباكية في شارع الرشيد وكم كانت صدمتنا موجعة حينما عرفنا مؤخرا ان ما تمّ صرفه على وزارة الدفاع يفوق المئة واربعين مليار دولار اميركي خلال العشر سنوات الماضية وتطمع وزارة مثقلة بالمال الوفير كوزارة الدفاع في مبلغ بخس سبعة ملايين دولار لتستحوذ عليه في خزائنها وتستخسره على اعمار شريان بغداد الحيوي الذي أضحى اكواما من المزابل والقمامة وأوشكت معالمه الراقية وأبنيته الجميلة على الانهيار والتردّي يوما بعد يوم .

ألهذا الحدّ نسعى الى قتل الجمال وتخريب الاعمار ونطفئ نورا زاهيا يريد ان يشرح صدورنا … كم كان رهاننا خـاسرا فيكم أيها المسـؤولون الثقـافيون بلا ثقافة والأثريون بلا أثَرٍ يُديم إرثنا الذي كـنّا نفخر به استحبابا ونخجل الآن من المـرور عليه استحياءً.

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter