محمد علي الشبيبي
Alshibiby45@hotmail.com
الجمعة 20/8/ 2010
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)محمد علي الشبيبي
مقدمة
ترك الوالد طيب الله ثراه مجموعة من المخطوطات النثرية والشعرية. و (ذكريات معلم) هي إحدى مخطوطاته التي يتناول فيها ذكرياته خلال عمله الوظيفي في التعليم. القسم الأول من هذه الذكريات (معلم في القرية) يروي فيه الوالد تجربته في العمل التعليمي في الريف منذ تعيينه معلما في تشرين الأول عام 1934، حيث يتناول بأسلوب شيق عادات وتقاليد الفلاحين، ويسجل بعض الأحداث التاريخية وتأثيراتها على حياة القرويين وكيف يتم التفاعل معها من قبل القرويين، ويتطرق إلى مواقف ودور الشخصيات الاجتماعية والسياسية الحاكمة وكيفية توزيع الأدوار بينهم.
و (معلم في القرية) تتناول بأسلوب نقدي الطائفية وتأثيراتها السلبية على الوحدة الوطنية، وكيف يستغلها السياسيون المتنفذون في الحكم من أجل مصالحهم الضيقة. كما يتحدث ويصف بؤس الفلاحين، واستغلال شيوخهم، وتدهور التعليم بسبب خضوعه للتيارات السياسية.
يتناول في ذكرياته بعض الشخصيات القريبة منه والبعيدة بسلبياتها وايجابياتها. ربما هذا التناول يزعج ويثر غضب البعض، لكنها تبقى انطباعات ووجهات نظر شخص عاش قريبا منهم وتعرف عليهم مباشرة أو سماعاً. لذلك يتجنب والدي ذكر بعض الأسماء الصريحة في سرد ذكرياته، وأحياناً يشير إلى الأسماء في الهوامش مع أعطاء نبذة مختصرة عن الشخص المذكور. وفي ملاحظاته عن مخطوطته أبدى تردد في تثبيت الأسماء الصريحة. وهو محق في ذلك، فقد مرّ على تلك الأحداث عقود، ولم يبق من هؤلاء إلا أبنائهم وأحفادهم، ونشر أسمائهم الصريحة وخاصة إذا ارتبطت بمواقف مسيئة ومعيبة أو منافية للأخلاق، تثير حفيظة أسرهم حتى وان كانوا متأكدين من صحة المعلومات المثارة. لذلك تجنبت أنا أيضاً ذكر بعض الأسماء الصريحة في بعض الأماكن وأشرت لها بالحروف الأولى من الاسم، فأرجو من القارئ العزيز معذرتي لذلك.
كانت للظروف السياسية التي عايشها الوالد سببا في انقطاعه أحيانا عن مواصلة كتابته لهذه الذكريات مما أدى هذا في بعض الأحيان إلى تكراره لروايته لبعض الأحداث والهوامش، لذلك حاولت أن أحذف المكرر منها إلا ما فاتني أو سهوت عنه. ويشير الوالد إلى ظروفه الخاصة التي كانت السبب لفقدان الكثير مما سجله أو أحتفظ به، من صور وكتابات وشواهد مهمة، من أجل هذه الذكريات.
في (معلم في القرية) يصف الوالد وصفا جميلا ودقيقا للمناطق الريفية التي عمل فيها أو زارها، كما يصف الناس وطباعهم. وهو لا ينسى أن يتحدث عن مناهج تدريس العربية وينتقدها نقداً علمياً نابع من تجربته وخبرته، ويشخص بدقة مكامن الخلل في هذه المناهج، حيث يكتب "أين وكيف يستطيع صبي في سن الحادية عشرة والثانية عشرة أن يهضم موضوعاً بقلم المنفلوطي، بأسلوبه المسجوع، وألفاظه المزوقة. وأية روح تنمو في الطفل وهو يقرأ الحلاق الثرثار وذمّه السياسة والسياسيين، ويلعن الناس أجمعين؟!"
كما لا ينسى أن يشخص الصعوبات التي واجهها في تدريس العربية أحيانا فيكتب: "أني كأي متعلم على الطريقة القديمة، لم أستطع التخلص تماماً من التعقيد، وصعوبة التفهيم في كثير من الأحيان" . وبناء على تجربته الشخصية يضع الحلول والمقترحات لتطوير المناهج وأصول تدريس العربية.
وبالرغم مما أصابه في مسيرته التعليمية من غبن وإجحاف ومعاناة قاسية، من فصل وسحب يد وتوقف لترقيته ومضايقاته من بعض زملائه والمفتشين وإدارات المعارف وإصدار أوامر نقله أو إعادة تعينه في مناطق نائية لا تتناسب وخدمته الطويلة في التعليم، نجده رغم كل هذا يؤكد وبدون جزع أو ندم عن حبه وإخلاصه اللامتناهي للتعليم واختياره لهذه المهنة السامية بوعي، مفضلها على وعد من عميد الأسرة (العلامة الجليل الشيخ محمد رضا الشبيبي) لتعيينه قاضياً. فهو يؤكد رسالة المعلم ويلتزم بها كما جاء في موضوعه المعنون "المعلم": (انه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هاذين العدوين في حلفهم البغيض...... المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها ...). والمصيبة التي عايشها المعلمون في معظم العهود كما عايشها والدي، هي أن الطبقة المتحكمة وأعوانها من أقطاعيين وملاكين ومستبدين يتسترون بالدين والتعصب الطائفي والقومي، هؤلاء جميعهم ليس لهم مصلحة حقيقية في نشر الوعي ومكافحة الأمية والجهل والمرض لأن قوتهم وديمومتهم تعتمد أساساً على مدى انتشار الجهل والخرافات والفقر والمرض.
ويتحدث والدي عن معارفه، من أصدقاء محبين، أو حتى الكارهين والحاسدين، بروح ايجابية محاولاً أن يدخل أعماق تفكيرهم ويفهم دوافع مواقفهم وكأنه طبيب نفساني يضع أمامه معالجتهم وتوجيههم بعيداً عن الحقد والثأر.
وفي تسجيله لتداعيات الحرب العالمية الثانية وما تركته من بلبلة فكرية بين أبناء الشعب العراقي، نجده يستعرض وباختصار ما يدور بين مختلف أبناء الشعب من أفكار وتحليلات وتوقعات وآمال خرقاء وتكهنات متناقضة. فيسجل ما يدور على السن الناس البسطاء والمثقفين الوطنيين، والمعممين وعملاء الإنكليز والألمان ويصور كل هذه التناقضات في أحاديث وحوارات شيقة عايشها أو سمعها. وما ينقله من رأي عن أحد المعممين يعكس طريقة التفكير الأنانية والضيقة لبعض هؤلاء دون أن يفكروا بدمار الحرب والمأساة التي تخلفها، ولا يهم هذا المعمم من كل ما يجري سوى ما يصله من حقوق شرعية: ( .... أجاب معمم آخر وكأنه يلقي خطاباً: "شيخنا أنتظر، ريثما يتحرر القفقاس؟ سترى عند ذاك كم هي الحقوق الشرعية التي ستصل إلينا؟!")
وجدت أحياناً إمكانية إلحاق الهوامش والحواشي والتواريخ التي دونها والدي في أسفل صفحات مخطوطته وحصره بين قوسين [ ] وتثبيته مع تسلسل روايته، وذلك لتجنب كثرة الهوامش إضافة إلى إني وجدتها مفيدة أكثر لمعنى روايته، وقد أشار والدي في إحدى الحواشي إلى رغبته هذه.
سأنشر من الآن جميع ما كتبه الوالد تحت عنوان (معلم في القرية) في حلقات متسلسلة، وأرجو من جميع الأصدقاء والقراء الكتابة لي في إبداء ملاحظاتهم إن وجدت وسأكون شاكرا.
ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد 5 آب 2010
Alshibiby45@hotmail.com
معلم في القرية
(6)مجلس النواب
قمنا بزيارة - مجلس النواب - تحت إشراف أستاذ علم الاجتماع. صحب كل منا قلماً ودفتراً صغيراً لتدوين الملاحظات، خلال مناقشات نواب الأمة في شؤون الأمة والحكومة، وخطبهم وآرائهم في أمر سفينة هذه الأمة.
أخذ كل منا مكانه، خلف السياج داخل قاعة الندوة، وسرت الوشوشة بيننا والتهامس. كل منا يستفسر من زميله عما يجهل من تنظيم القاعة وكيفية انتظام جلسات النواب فيها والوزراء، ذلك لأن أستاذنا لم يذكر شيئا عن ذلك.
لاحظت إن جماعة قليلة اتخذت لها جانباً من المجلس قريباً من منصة الرئيس. كانت تلك الجماعة هي الوحيدة التي اتخذت على عاتقها مناقشة الوزراء. هؤلاء هم نواب المعارضة. وهم على قلتهم، وحدة ألسنتهم في توجيه النقد اللاذع، لا ينتسبون إلى حزب، وربما لا يدينون بالتحزب والكفاح السياسي المنظم. وأنا على يقين إنهم يعلمون أن كل معارضة لا تسندها الجماهير خارج هذه القبة لا يتجاوز صدى أصواتها هذه القبة أيضاً!
كان عدد نواب المعارضة الذين كانوا يناقشون، أربعة فقط؟ أما باقي النواب، فكانوا بين لاه بمسبحته، وآخر مصغ مبتسم كالمتفرج. وآخر لا يكف عن التثاؤب كأنه قد سهر ليله. وكان قريب من مكاني نائبان. أحدهما معمم من لواء الناصرية [الشيخ محمد حسن حيدر] والثاني علوي من النجف [السيد حسين النقيب]، ولأول عهده بالنيابة، سأل المعمم الأول صاحبه:
- من أين اشتريت قماش جبتك هذه؟
- من الجلبي جعفر الشبيبي
- أوه. برغم كونه صديق إلا إنه يذبح من –العلبة- [مثل يضرب للشديد في تعامله مع الآخرين بلا رحمة]
- أي والله. كافر بأسعاره ما يرحم لا غريب ولا قريب!
وكانت أزياء أولئك النواب في اختلاف ألوانها، وخاصة –أغطية الرؤوس- تبدو كأنها حديقة غير منسقة. أو أنها كمتحف يجمع الأزياء قديمها وحديثها. [أتذكر بيت شعر من قصيدة للشيخ هادي الخضري ورد فيها وصف لأزياء النواب:
تنوع الروض في ألوان منظره وقد حكى مجلس النواب تلوينا]
طالت جلستنا وأنا منشغل بالإصغاء لأولئك النواب، وهم يتراشقون بالكلام، حتى ليظن السامع إن نقاشهم سينتهي إلى الهجوم والتصادم. بينما لم يبدو على وجوه الآخرين اكتراث واهتمام. لعلهم متأكدون أن ذلك تمثيل وخطة مرسومة مألوفة تنتهي دائما إلى نتيجة معينة مألوفة أيضاً.
سجلت النقاط التالية - رؤوس أقلام - أكتب عنها ما أقدمه لأستاذنا المحترم.
1- ما سبب قلة عدد نواب المعارضة؟ 2- أهي معارضة حقيقية؟ إلى أية فكرة سياسية تستند في معارضتها؟ ومن تمثل هذه المعارضة؟ التجار؟ العمال؟ الفلاحين؟ 3- إن جميع هؤلاء النواب جرى انتخابهم على نحو لا تقره أساليب النظم الديمقراطية، لأنه: 1- على درجتين. 2- تحت أشراف وتدخل السلطة الحاكمة. 3- لا يستندون إلى أحزاب سياسية لها برامج معلومة تساعد على وضع الثقة فيهم، وتمكن من محاسبتهم عند تقصيرهم وفشلهم. 4- أكثر هؤلاء النواب يمثلون الإقطاع من شيوخ عشائر الجنوب والأكراد، وكبار الملاكين، وكثير منهم من لا يملك البسيط من الثقافة. ولعلهم على علم تام عندما أعطوا العهد على أن يكونوا عند التصويت إلى جانب السلطة المهيمنة حقيقة وفعلاً.
ويمكن القول: إن عدداً من أولئك النواب جيء بهم ليعيشوا من راتب النيابة! كنت منهمكا في تدوين هذه النقاط فلم أدرك كيف انتهت الجولة بين المتجادلين، لكني شعرت بالوشوشة سرت من أصحابي فرفعت رأسي وأصغيت، فألفيت رئيس المجلس يهتف ويضرب بقبضة يده على الطاولة أمامه:
- انتهى الوقت المخصص لهذا الموضوع أرجو من الموافقين أن يرفعوا أيديهم!
رفع الأكثرون أيديهم، بينما غادر المعارضون القاعة، ومع عدد غير قليل أيضاً ما كانوا من المناقشين.
معمل النسيج
ضحك أستاذنا - أستاذ علم الاجتماع - حين رأى أجماع الطلبة في تقاريرهم التي رفعوها إليه عن زيارتهم –مجلس النواب- فقد كان وصفهم عن هجاء مقذع، ونقد مرير، وأسف محزن.
وأجاب الأستاذ - باقتضاب - معلقاً على تلك التقارير، تحفظ للتأريخ!
في اليوم الثاني زرنا مصنع الأقمشة الوطني.
هذا العنوان يعتبره البعض ألفاظا جوفاء فارغة، لا تنطوي على المعنى الحقيقي الذي يجب أن ترمز إليه. إنه أول مصنع وطني أسس في بلادنا. فيه من العمال عدد ليس بالقليل. وفيه من الآلات، آلة نفش الصوف، وصبغه، وغزله، ونسجه، أجناساً مختلفة، للملبس والفراش. ولكن أحد العمال الشياطين أسرّ إلينا:
- إن ما ترونه من الصوف المصبوغ هنا والمغزول لا يشكل إلا نسبة ضئيلة مع ما يجلبه المصنع ويعتمد عليه من الأصواف والغزل من أستراليا، وبعبارة أصح، ليس لنا من هذا المعمل غير المكائن المنصوبة في بلدنا يديرها عمال منا. وبنفس الوقت أتخذ هذا الأمر حجة مبررة لتفاهة الأجور التي نستوفيها. وما ندري إذا كان هذا الأمر حقاً عذراً مبرراً لتفاهة أجورنا وضآلتها. فما هو المبرر لحرماننا من الشروط التي منحت لنا في قانون العمال على تفاهتها أيضاً، فنحن لا نتمتع بالعطل، والأجازات المرضية. والطرد كيفي لأوهى الأسباب، وحتى لو كان تأخرنا بسبب مرض أو موت أحد أفراد الأسرة المكلف بإعالتهم شرعاً وقانوناً. وسلطة مدير المصنع واسعة بلا حدود. وكأن الوطنية للمصنع ماركة مسجلة لا علاقة لها برفاه العامل العراقي، والفرد المستهلك.
إنكم تلمسون إن معظم أنواع النسيج خشنه، ذلك لأن نسبة ما يخلط معها من القطن يسيرة جداً. فهذا امتياز لا يسمح به! إنه مضايقة ومزاحمة لمصانع لا نكشير.
ويبرر بعضهم أمر استيراد المصنع غزلا وأصوافا مصبوغة من أستراليا، ذلك لأن أساليب الاستعمار في عرقلة نمو الصناعة الوطنية متنوعة منها: أن يجعل أسعار الأصباغ أعلى بكثير من أسعار الأصواف والغزل التي ترد جاهزة، ليضطروا المصنع على استيرادها.
وأنكمش وجه العامل فجأة وأبدل حديثه. وأخذ يشرح لنا عن الآلة التي يدير العمل بها. لاحظنا ما بدا على سحنة وجهه، والتفتنا إلى حيث التفت، إن مدير المصنع متوجه إلينا. دنا منا مرحباً، وطاف بنا أرجاء المصنع يشرح أهمية المصنع والصناعة في الاقتصاد الوطني. وإنهم عاملون على توسيعه، وهو بحاجة إلى الدعاية التي يجب أن يبثها كل مثقف واع فاهم لمصلحة وطنه. وقال أيضاً: إن الاستقلال الحقيقي يبدأ من هنا أي بالتحرر الاقتصادي من البضائع الأجنبية، وبرواج البضاعة الوطنية.
تصدى له أحد الطلبة وقال:
- هذا طيب جداً، وإننا مستعدون أن نكتفي بلباس الخام الأسمر إذا أنتجه مصنع وطني. ولكن ألا يجدر بكم أن تلائموا وتوفقوا بين مصلحة المصنع وقوة المستهلك الشرائية. إن المستهلك يجد نفسه مرغماً على شراء الأقمشة الأجنبية، إن هو وجدها أمتن جنساً، وارخص سعراً، وألطف منظراً.
- هذه دعاية استعمارية يا حضرة السيد. القماش الوطني يضاهي القماش الأجنبي جودة وسبكا وقوة وجمالا. ولكن تكاليفه باهظة على المصنع حقاً. فنحن نستورد الآلات والأصباغ وكثيراً من الحاجات وبعض الغزل أحياناً!؟
- ونلاحظ إن بعض النسيج يحمل في طيات لحمته أنواعا شتى من العيدان والحسك وأسلاك دقيقة. أهذه أيضا صفات لازمة للصناعة الوطنية؟
- كل جنس له سعره الخاص. هذا نوع. وتوجد أنواع ممتازة ليس فيها ما تشير إليه، وعلى قدر ماله يختار المرء. والأقمشة الأجنبية لا تخلو من هذا.
قال هذا وحول وجهه مسرعا إلى جهة من المصنع وكله غضب ثم سرعان ما صب جام غضبه على عامل كان يمزح مع صاحبه ويضحك. وغمز صاحبنا العامل لنا بعينيه، وقال:
- أنظروا، إنه دائما هكذا، غطرسة وحقد!
وحان موعد العودة إلى المدرسة فالتفت أحد الطلبة إلى الأستاذ وقال وهو يبتسم:
- وهل نضع عن زيارتنا هذه تقريراً يا دكتور؟
وانتهت الدورة
وعلى أية حال انتهت أيام الدورة. وأعلن إن الامتحان قريب، ثم جاءت أيامه مسرعة. فأديناه كما نلعب ألعاباً مسلية، هازئين غير مبالين، دون أن نحسب حساب الفشل لو أن المعارف رتبت على نتائجه أهمية. وطلب إلى كل منا قبل المغادرة، أن يزود إدارة الدورة بطابع للشهادة وعنوان إقامته.
وغادرنا بغداد إلى أهالينا، لنعيش بينهم أقل من شهر، ثم -عدنا وعادت حالنا الراكدة-وحسب الموعد بيني وبين زملائي المعلمين، التقيت بهم في محطة السيارات "الـﮕراج". عدة سيارات كان ركابها جميعاً من المعلمين متجهين إلى مدارسهم في القرى والأرياف. كان الجميع شباباً، أخذوا يغنون ليطردوا السأم بأغانيهم البتراء، وأصواتهم المتقطعة. أما أنا فقد غمرتني كآبة بليغة، واستولى عليّ انقباض شديد.
ها قد وصلنا آخر مرحلة تقطعها السيارة إلى حيث نريد. وبعد سويعات سنركب السفينة إلى القرية التي ودعناها آخر السنة الدراسية المنصرمة، وكلنا أمل أن لا نعود إليها. فلم نرَ فيها الصفاء والدعة. ولم نتعلم من الغربة أهمية التضامن والتعاون والعيش مع بعضنا بسلام. ولجهلنا بعظم الرسالة التي نحملها تلعب بنا الطائفية دوراً قذراً. إنها سلاح يهدم الوحدة، ويفرق الجماعة، ويسهل تحكم المستعمر.
وتغيرت النية، فلم نواصل السير، رجح الأكثرية أن نقضي الليلة في مركز الناحية. ونبيت في الفندق، وهو الوحيد في هذه الناحية، يطل على أربعة شوارع، أحدها شارع النهر.
يبدو هنا المقام جميلاً جداً لمن سيغادره إلى مثل قريتنا. واستيقظت قبل شروق الشمس. وارتقيت سطح الفندق أشهد شروق الشمس الجميل. الأشعة الوردية تمد خيوطها إلى شتى أنحاء الفضاء من خلال سعف النخيل، وخضرة الحقول، وتنعكس على صفحة النهر، وهو ينساب متئداً كمسافر ملّ المسير فبدا يترنح في مشيته.
ثم بعد سويعات تهيأنا للسفر. ورحب بنا ملاحون من القرية كانوا على النهر. وأندفع الزورق الأزرق بالماء، بينما أخذ النوخذة (ربان الزورق) حميد الحسن بإدارة دفته ومازالت ملامح وجهه الأرقش كئيبة كعهدي بها [حميد شاب من عشيرة آل إبراهيم، يعيش أجيرا لصاحب قارب صغير، وصاحب القارب علوي يعيش من أعمال مختلفة، محل أقمشة، قصاب، يقرض الفلاحين وغيرهم -على الأخضر-، وقاربه هذا يمتاز على بقية القوارب بأناقته ونظافته. وكون مدير دفته "حميد الحسن" الفتى الأنيق ذا الصوت الرخيم]. فرحت أهيّج أشجانه بأبيات للشريف الرضي غنيتها على نغم - الصبا -
ولقد مررتُ على ديارهــمُ وطلــولهــا بيد البلى نهـبُ
فبكيت حتى ضج من لغب نضوي ولج بعذلي الركب
وتلفتت عيني فمنذ خفيـت عني الطلـول تلفت القـلب
فأندفع بعد قليل بصوته الشجي ينشد "الأبوذية"
مثل غيم السخط همي تراكم كتلتوني يَعــذّالي تراكم
كرام الحي متى عيني تراكم ونداكم بالديار يعم عليّ
وحارت دموعه بين أماقيه فأهمل الدفة، وراح يضرب بيده على فخذه، وصدى أغنيته يتردد بين ضفتي النهر. وبدت الضفتان يسيطر عليهما السكون، رغم تجمع القرويين على ضفتي النهر. وأشتد به الوله، فصار يقوم ويقعد كالهائم يتساءل عن الحبيب المفقود.
وحك اللي تعبده النــاس منشــــاف إلي دمع يْكِتْ عَلوَجِنْ منشاف
صِحتْ يا سامعين الصوت منشاف بكــره بحَيّكــم ضـــاعت اليَىّ
كان أكثر الناس يؤثرون الركوب مع حميد "النوخذة" لصوته العذب.
وكان أحد رجال الزعيم " عبد السادة الگصاد " يجيئني بين مدة وأخرى يسألني أن أحرر رسالة شوق عن لسان محبٍ لم يبح باسمه، بعد أن يقرأ عليّ رسالة الحبيبة. وكانت رسالة الحبيبة على بساطتها، تعرب تماماً عن حقيقة حبها، وسمو شعورها ولهفتها عليه، [عبد السادة الگصاد هو الشاعر الشعبي من عشيرة آل إبراهيم –الصلاحات- كانت لي معه صلة لم تتعمق، ولم التق به إلا أيام ثورة تموز 1958، وكان مرتدياً الزي الحديث وملتحقاً بركب التقدميين]. كنت أستدرج هذا الوسيط، لأعرف من ذاك العاشق. لكنه كان حذراً وأميناً. غير إني استطعت ذات مرة –في العام الفائت- أن أتلصص بحديثي بعد إثارة حميد إلى الغناء، فأعترف باكياً، متألماً فواسيته وهدأته.
ولاحت بعد حين بناية المخفر، ثم بناية المدرسة، ووقف بعض القرويين يرحبون بمقدمنا:
- هله بيهم هله. عبد الحميد أفندي شلونك؟ أجيت تاليهَ؟ آها فاضل أفندي، عفت بغداد وجيت!
وصاح آخر:- هله بصبري أفندي. برّدت گلبك زين هالمدة؟!!
ودنا الزورق من الضفة فأمتد الأيدي إلينا يجذبوننا إليهم. ويعانقوننا على طريقتهم بالقبل، ويرددون ترحيبهم.
- جيف أحوالك. خاطرك طيب، يا هله، ويا مرحبا، وألف هله.
وكان الفراش قد قام بتنظيف المدرسة وصفوفها. أما "جعوال" فقد أقبل مسرعاً يحمل الشاي جاهزاً على حساب "الشيخ حنون". وأعلن أحد السادة:
- يخوتي تر عشاكم عدنه لا تگولون.
فرد المعلم فاضل:- داد حميد، ما كو حاجه، ليش أحنه غربه، هذا محلنه.
- يخوي ماكو فرق. إلا أنتم توكم جايين وما مستعدين!
وصاح صبري:- والله ممنونين. آني خو ما أگول لا.
ونهضنا بعد ذلك إلى أكواخنا نتفقدها.كانت كالحة، متجهمة. وتقدم القروي الأخرس، يعرض نفسه لخدمتنا بتنظيفها ونقل فراشنا المودعة في دائرة المدرسة إليها.
الفراغ
هي ذي أكواخنا ذات اللون الكالح بفعل الشمس والأمطار. هي رابضة تحت ظلال النخيل، بجوار مستنقع لا تكف ضفادعه ليلاً عن النقيق [وصلتني في العام الماضي المنصرم رسالة من صديقي وأستاذي، حين كنت في سلك المعممين، عبد الرزاق محي الدين من القاهرة حيث كان يدرس بدار العلوم المصرية، وصف لي فيها حفلة ساهرة لأم كلثوم على أنغام "كمان سامي الشوا" و"عود محمد القصبجي" وكيف كانت قلوب السهارى تخفق، مع صوت أم كلثوم. وأجبته "أما أنا فماذا أصف لك، إذا جن الليل غنت الضفادع، وعزفت موسيقى البق، ورقص البرغوث متخذاً من جسدي مسرحاً ومرعى في ذات الوقت ...."]. ومناخ قريتنا هذه الأيام غير مريح، الحر مزيج برطوبة تنبعث من ألواح الشلب، والبق والبعوض يملآن الجو. حتى إننا نتناول عشاءنا داخل الكلل، ولكن صباحها جميل منعش، ويستمر كذلك حتى العصر.
قبيل العصر من كل يوم نتجول بين حقول القمح والشعير المحصودة حيث تبدو الألواح من بعيد خضراء معشبة. وينتهي بنا المطاف إلى أحد المضايف، ونأخذ أمكنتنا بين القرويين، نبادلهم الأحاديث والنكات. ولشد ما أبدوا رغبتهم للألعاب الجمبازية، التي يقوم بها المعلم فاضل، ذو الشعر الأبيض. الذي أطلق عليه القرويين "المعلم الخشافة" اي الخفاش، ذلك لأنه ضعيف النظر، بسبب بياض شعر عينيه وحاجبه ورأسه، حتى أنه يضطر لغلق باب الصف حين يُدَرس.
- معلم فاضل، لا تگول، تراني أگمز أخيَر منك؟!
قال گنون هذا وهو يضحك. وهو في الواقع لا يستطيع القيام بأية حركة. هو يريد أن يستثير المعلم فاضل لأجراء ألعابه الرياضية. وهم جميعا يعرفون أن فاضل يثار بسهولة عن طريق المناورة والإدعاء.
وصاح فاضل:- إوْ لك! عِيبَت هالجهره. ليش هاي وين تدربت!؟
- دگوم أگمز. وهسه اراويك شلون أغلبك!
نهض گنون. رمى بعقاله ويشماغه وعباءته. وصاح الجميع:
- لا، لا. عاد أبو فاهم ما يغلبه واحد. بِليه!
وثارت حمية فاضل، واستوى قائما.
- آني راح أقفز. ورجال گنون لو يگدر يقفز مثلي.
خلع جميع ملابسه، بقي بالفانيلة والسروال القصير. توسط الجميع، وبخفة قفز قفزات سريعة ومتتابعة. فعلا الهتاف والتصفيق والضحك.
وعلى عادته إذا تورط في مثل هذا، يوالي القيام بمختلف الحركات والألعاب إلى أن يدركنا السأم والملل. وانبرى فتى قروي أخرس، وأعلن أنه مستعد للقيام بالقفزة الهوائية تماماً وبلا تكلف. وأكبر الجميع أن يستطيع الأخرس ذلك. ولكنه فعلاً قفز قفزة هوائية منتظمة. وكرر ذلك مرات، غير إن المسكين حبق أثناءها، فضج الحاضرون بالضحك. فبان عليه الامتعاض ولزم مكانه ساكنا.
وبين الحاضرين رجل يدعى "جبار عفصان" هو من رجال رئيس العشيرة. معروف بالرماية، كما أنه في رأيهم على جانب كبير من الظرف وهو المسلي والمؤنس لرئيس العشيرة بنكاته، وهم يضحكون لنكاته مهما كانت تافهة، وما أكثر تفاهاته. صاح أحد الحاضرين:- جبر... جبر آل عفصان! أشو ساجت؟ ولِك ما تحجي!
- جوز عني التمسك. تراني أگمز وحَوِّل ببطن مَعَلمَ السنة!
ودوت أصوات الآخرين بالضحك، وساد الهرج والمرج، الرؤوس تهتز والضحك يختلط بالسعال. وما هدأوا حتى رأينا المعلم فاضل دامع العينين، وهو ينشج نشيجاً خفياً، وصبري يسكن ثائرته.
تهامس الحاضرون:- خويه عليمن يبجي الخشافة؟
- يخوي، والله جبر ما يعرف اللطيفة.
- ومن هاي؟ جا بس هو سني؟! المعلميه كلهم سنّه بس علي أفندي شيعي!
وانتبه السيد جواد صاحب المضيف إلى ما حدث [ويدعى سيد جواد العجم عندهم وهو محترم لأنه من أبناء الرسول وصاحب مضيف]. فجذب جبر كالخروف حتى أجلسه أمام المعلم فاضل وصاح به:- أخذ أيد عمك. جلب أبن الجلب، مكسر يا طايح الحظ على ها اللطايف الماصخة!
ثم التفت إلى المعلم:- أبو عباس هاي ما هي عدله منك. أولا كلنه أخوة. وأنت إتعرفْ جبر، وسوالفه كلها ما الهه معنى. ثم جماعتك كلهم ضحكوا بس أنت تأذيت. على شنهو؟!
أخذ جبر برأس المعلم فاضل يوسعه لثماً وتقبيلاً. وهنا أعلن مدير المدرسة عبد الحميد آن وقت العودة إلى مقرنا قد حان. فنهضنا ونهض الجميع، وعبارات الترحيب والتوديع على شفاه الجميع.
الأسود والمتنبي
في هذه الأيام يسود بيننا وئام ووفاق. يذكرنا بأيام إدارة السيد صالح –مديرنا السابق- وكيف كان شغوفاً بإدارة الشغب، والفتن بين بعضنا والبعض الآخر. كان يتلذذ بإهانة المعلم والسخرية به.
بعد انتهاء الدوام عصراً نقضي فترة نلعب كرة الطائرة، فإذا انتهينا من ذلك، قمنا بجولة في ضواحي القرية. ننتهي منها إلى أحد المضايف. أو إلى مقهى –عبد الشهيد الجنابي- نحتسي الشاي من يد عامله –جعوال- ونعود بعد الغروب إلى أكواخنا لتناول العشاء على مائدة واحدة من طبخ الأسود "ربيع" وهو أسود وظريف وطيب ويحسن الضرب على العود كسيده عبد الحميد [مرّ ذكر "ربيع"و "فليح" و"المتنبي" تحت عنوان "المتنبي وموسليني" وللمرة الثانية يأتي ذكره فهي ملح مجلسنا الخاص ليلا]. وكثيراً ما دخل الفرّاش فليح معه بنقاش حول المتنبي، ولغرض إثارته. صار فليح يحفظ كثيراً من شعر المتنبي في هجاء –السود-، كما صار ربيع يستفسر عن مثالب المتنبي ومعايب شعره. وأشهر خصومه وما قيل فيه.
المتنبي في رأي هذا الأسود "مجدي وعليجته قديفة" وشجاعته طبق المثل –مجدي كركوك وخنجره بحزامه-. وفلسفته ما هي أكثر من معرفة بفنون الجدية –التسول-. يقشمر الزناگين بالمدح ولوما گدروا يسدون جوعه وطمعه حد لسانه عليهم بالشتايم. ولَمَن وصلت للصدك من تلگو اثنين من بني أسد إطاهه شراده! وعيَّره –ابن عمي- وذكّره بجذباته الكبار الگاله ساعة النِفاهْ "أي الراحة".
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
رجع، واطاك عمره. وهو يعتب على –ابن عمي- قتلتني أيها العبد. (ويضخم ربيع صوته ويكسره بهذه العبارة، كأنه يمثل المتنبي)
ومنذ يومين وصلنا شاب عين حديثاً في مدرستنا. هو من أبناء مدينتي. قليل الخبرة. طائش، ساذج، يسمي طيشه مرحاً، وسذاجته طيبة. وقد أبدى استغرابا وتعجب أشد العجب، إذ علم أن ربيع يضرب على العود، فالتمس من صاحبه أن نحيي الليلة حفلاً [ربيع عبد مملوك بالوراثة لمدير المدرسة عبد الحميد محمود الملا صالح من أهالي أبي الخصيب]. بعد تناول العشاء أمسك ربيع بالعود، وأشترك الجميع يرددون أغاني ريفية. وطغى في الكوخ مظهر الفرح والابتهاج. والشاي يتوسط المجلس. تلا ذلك فترة نكات وطُرف، فانبرى الفراش فليح يقول:
- عمي حميد أفندي، الله يخليك دِگ هيوه خلَ ربيع يشيخ [يتصنع ربيع هذه الحركة ويجيدها]!
أما ربيع فقد أخذ يتوسل بسيده أن لا يفعل. عزف عبد الحميد لحنا يسميه - لحن الهيوه للعبيد - بين توسلات ربيع وغيظه المفتعل، وبعد بضع دقائق، بدا ربيع هادئاً ساكناً شاخصاً بعينيه الصفراوين إلى زاوية من الكوخ. كهائم أضناه المسير، فجلس مرتخي الأعضاء. ثم بدت عيونه تتحركان حركة رتيبة، ذات اليمين وذات الشمال، وتبعتها رقبته. ثم أخذ الزبد يخرج من شدقيه. أما الفراش فليح فقد أحكم غلق باب الكوخ، وأسند إليه ظهره. وأستغرق بضحك صامت. فهو على علم بأمر مبيت.
وأضطرب المعلمان –فاضل وصبري- حاولا أن يغادرا الكوخ، لكن ربيع هاج وأضطرب اضطراب الذبيح. فقفز صبري وتعلق بخشبة من خشب سقف الكوخ. فانكسرت به وسقط على الأرض حائر لا يدري أين يختبئ. أما فاضل فانه أنبطح على الأرض محاولاً الاختباء تحت الأرائك، لكن ربيع أدركه بعضةٍ في إليته. فعلا صياح فاضل مستغيثاً.
- داد حميد، الله يخليك، بطل، الله يخليك، أخ يابه.
ألقى حميد العود من يده، وغرقنا في ضحك عميق. وأنتبه ربيع من غيبوبته وأفاق وهو يتصنع الانحلال والنحول.
يتبع
السويد 20 آب 2010
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)