علي عرمش شوكت
الأربعاء 9 / 5 / 2007
الظهيرالحلقة الثالثة
الخلاص المزدوج
علي عرمش شوكت
كان بريد الاسبوع الاخر مليئا باخبار استشراس حملة الاعتقالات والمداهمات ونصب الكمائن، كما ان اخبارا قد وردت من داخل المعتقلات تؤكد على استشهاد العديد من الرفاق تحت التعذيب الوحشي او موتا بسم ( الثاليوم) القاتل ، وكذلك اخبار الاعتداءات على شرف النساء ولم يسلم حتى الاطفال من تلك الحملة .
اتسعت عملية الهجوم على الحزب من قبل سلطات البعث بابشع وسائلها ولم يبق احد يجهل اهدافها او معالمها التي كانت واضحة في حقيقة الامر ، وذلك منذ السنة الاولى لقيام (الجبهة ) حيث فرض حزب البعث قراره بمنع نشاط الحزب الشيوعي في المنظمات الجماهيرية ، علاوة على القوات المسلحة واستمرار مفهوم (الحزب القائد ).
وكان لذلك تأثيره على نبض الشارع بصورة مباشرة ، وقد تجلى بالغضب والسخط على البعثيين الذين لايتعضون من عبر الماضي وعادوا الى طبيعتهم الدموية بصور اكثر شراسة ، كما كان هناك ايقاع اخر من ذلك النبض تراوح بين العتب على قيادة الحزب من هذه (الغفلة) السياسية عن غدر البعثيين والتي لاتتناسب وعظمة الحزب وكفاءة قيادته في استقراء افاق سياسية حزب البعث ، وبين الشماتة من قبل البعض الاخر الذي طالما صرخ غداة توقيع ( الجبهة ) محذرا من الوقوع فريسة لغدر هؤلاء الذين غدروا حتى بمن اوصلهم الى سدة الحكم من رفاقهم، كما وغدروا بالاكراد ايضا بعد اتفاقية الحادي عشر من اذار، ولكن كانت تلك الشماتة مصحوبة بالمبادرات النوعية من قبل الشامتين انفسهم لحماية رفاق الحزب ، لقد عاشت الكوادر الوسطية خاصة وقواعد الحزب عامة قساوة هذه المحنة في مختلف اوجهها وبتماس اكثر من غيرها ، ولهذا كانت الضحايا والخسائر ترتفع ارقامها ضمن هذا الوسط من الرفاق ، مما جعل تحريك ( الظهير ) وربط الصلات واعادة تشكيل الهياكل التنطيمية في ذلك الظرف معقدة للغاية .
حينها انطلق حميد باحثا عن رفاق له ، مستقصيا اخبارهم بالرغم من ان ذلك غير هين وبخاصة اؤلئك الذين عمل معهم من الرفاق في اوائل السبعينيات ، حيث اشد ظروف العمل السري صعوبة ومع ذلك قد تمكنوا في حينها من تشكيل قاعدة تنظيمية في الكرخ والكاظمية ومدينة الثورة ، لم تتمكن اجهزة الامن من الايقاع بها ، كان ضمن لجنتها القيادية الرفيق الشهيد حميد شلتاغ ، مع حساسية موقعه الوظيفي كمدير في دائرة البريد والبرق ،الا انه كان كادحا بكل المواصفات ، مما ادى الى تكليفه بقيادة منظمة مدينة الثورة ، وقد اجاد التكيف مع اهل وجماهير المدينة الفقيرة الباسلة ، ومن ابرز اعضاء تلك اللجنة القيادية ، العامل النجارالنشط ( حميد رشيد ) الذي يتميز بقدرة نادر في ربط الصلات وتشكيل الركائز الجديدة وابتكار اساليب عمل علنية تستثمر لخدمة التنظيم السري ، كتكوين فريق لكرة القدم ومن خلاله شكل منظمة للشبيبة وجعلها معينا لأ نتقاء الرفاق الجدد من الشباب ، ومن اعضاء اللجنة النشطين ايضا عامل الصناعات الكهربائية ( ستار موسى ) الذي استطاع تشكيل ركائز في تلك المؤسسة رغم صعوبة التحرك لكثرة توظيف رجال الامن فيها بسبب خوف البعثيين كما يبدو من وجود الخبراء السوفيت العاملين هناك .
تلك النماذج من فرسان العمل السري قد حضرت ببال حميد ، في الوقت الذي كان الحزب يستعد لخوض مرحلة قاسية من النضال ، كما ازدحمت في ذهنه العديد من الافكار والتصورات حول رفاقه في الفترات السابقة الا ان مهماته الحالية وكما حددها له الحزب ابقته في ميدانها .
جاء موعد اللقاء بالرفيق ( حازم ) غير المكشوف نسبيا ، ولهذا كان اللقاء في بيت الرفيق ذاته في منطقة (الاعظمية ) ، قصور فخمة وشوارع زاهية وسيارات فارهة واناس لم تلفح وجوههم اشعة الشمس يوما ،لكن هنالك بين هؤلاء من عشق شمس الفقراء ويتمتع بالسير تحت لهيبها .
كان على ( حميد ) ان يقطع راجلا مسافة خمسمائة يارد لغاية الوصول الى بيت رفيقه حازم ، في ذلك الشارع الفرعي الطويل نسبيا ، وبعد ما دخله ببضعة امتار جاءت سيارة مسرعة جدا في الشارع المذكور، ولم يتمكن سائقها ( المستهتر ) من السيطرةعلى فراملها، وهو من رجال الامن اذ عرف بعد ذلك، فأدى الى دهس طفل كان يمتطي دراجة هوائية ، خرج الناس من البيوت المجاورة وتعالت الصيحات بالنجدة وطلب الاسعاف ، ولم يشعر حميد الا وهو وسط تلك الجمهرة ليساهم في انقاذ الطفل ، وهنا كان حميد قلقا في اتخاذ القرار ، هل يترك هذا الطفل ويتخلى عن واجبه الانساني وهو الذي بادر الى احتضانه قبل غيره ، ام يبقى ويجازف ؟ ، لان حضورشرطة النجدة وكذلك رجال الامن بات محتما ، وفي تلك اللحظة التي تخلى حميد فيها عن يقظته الامنية متفرغا لمصير الطفل اقتربت منه امرأة بالعقد السادس من العمر وهمست باذنه بحذر شديد .
- هل انت ذاهب الى بيت ابو حازم ؟!
جفل واستغرب من السؤال المباغت ، واستنفر تماما ولكن المرأة لم تدعه في حيرته فبادرته بالقول – ام حازم تنتظرك في داخل بيتنا هذا واشارت الى الباب المجاور اراد حميد ان يستفسر عن السبب ولكن المرأة عالجت الامر بالقول – الجواب ستجده عند ام حازم ، ادخل ادخل، والحت عليه بالدخول مع دفعات خفيفة باطراف اصابعها ، قدر حميد حينذاك ان الامر جدي وخطير، وهذه المرأة تعرفه جيدا ، دخل البيت وهو حذر للغاية ، جلس في صالة الاستقبال كما جلست هي قبالته وهي تكاد تذرف الدموع وبصوت متهدج وحزين كشفت له عن حقيقة الامر .
- ام حازم غير موجودة هنا بل هي في بيتها ، حيث نصب رجل الامن كمينا
هناك لانهم لم يتمكنوا من القبض على حازم فأعتقلوا اخوته وكل من زار بيتهم . اهتز حميد واعتراه شعور بالغضب ولكن رباطة جأشه مكنته من اخفاء غضبه وخشيته من تداعيات الامر وهو على بعد ياردات قليلة من مكمن الخطر ، فطلب مزيدا من الايضاحات من تلك الام الطيبة البطلة
- كيف عرفت بانني ذاهب الى بيت ابو حازم
- كنا نراك تأتي وتذهب مع حازم ، وانا كأم ارى فيكم اولادي الذين غابوا دون ان نعلم عنهم اي شيئ
- وما هي قصة اولادك ؟
- سوف ارويها لك بعد ان تتناول الشاي .
وفي هذه الاثناء ، دخلت فتاة في العشرين من العمر تحمل( صينية ) وفيها اقداح من الشاي .
انهى القدح الاول برشفات سريعة ليتمكن من سماع قصة ابناء هذه الام العظيمة ، لكنها الحت عليه لكي يتناول قدحا اخرا ، فأعتذر شاكرا موحيا بطلب سرد قصة الأبناء الغائبين وبالتالي التعرف على حقيقة الامر .
- ياولدي العزيز اتمنى لك ولكل امثالك الا تقعون تحت يد ظالم، كان احد اولادي بعمرك واخر اكبر قليلا ، وقد ربيناهما بجهد وعذاب وسهر وخوف ،لحين ان اوصلناهما الى هذا العمر، ولكنهما غابا الواحد تلو الآخر ولا نعلم عنهما اي شيئ .
الأول انقطعت اخباره عام 1970 عندما اعتقلوه اثناء عمله ، والثاني استطاع الفرار الى سوريا ، وقد كان بيت ابو حازم مكانا آمنا لإختفائه لحين فراره ، ونحن الأن نرد جزءا من ذلك الدين ، فلا تستغرب مما قمنا به تجاهك ، لأننا نشعر بأنك واحد من ابنائنا ونخاف عليه من ان يقع بيد هؤلاء القتلة المجرمين.
- ماهية تهمة الاولاد ؟
- حسبوا اولادي على حزب البعث ( جماعة سوريا )
- وهل هم كذلك؟
- نعم
انتابت حميد حالة سرحان كان اساسها تلك المفارقة ، كما اختلط مزيج مركب من المشاعر في ذهنه من حقد على هؤلاء القتلة وغبطة عظيمة لوجود امهات بطلات يقدمن ابناءهن شموعا في طريق النضال ضد الدكتاتورية والتسلط ، وفي ذات الوقت انقاذه المزدوج من الكمين ومن حادثة الطفل ، التي لو استمر يتعامل معها لحين حضور الشرطة ورجال الامن الذين يتربصون له اصلا وفي ذات الشارع تحديدا .
هم حميد بالنهوض بغية الخروج من ذلك البيت فاعترضته الام .
- لاياولدي هناك خطر كبيرعليك ، الشارع ملغوم بالجواسيس واذا ما خرجت فسوف تقع فريسة بين ايديهم ،
- بقي حميد في داخل البيت حتى حلول الظلام وامضى تلك الساعات في قراءة بعض الصحف وكذلك بالحديث مع تلك السيدة الفاضلة وابنتها ، بعدها خرجت الفتاة وجلبت تكسي وغادر الثلاثة ، كانت الام تستند على ابتها من جانب وعلى حميد من الجانب الثاني على اعتبارها مريضة ، اكدت الام على حميد خلال الطريق - و بصوت منخفض لكي لا يسمع سائق التكسي - ان يعتبر هذا البيت بيته ويلجأ اليه متى ما كان بحاجة الى ذلك .
وفي منتصف الطريق نحو باب المعظم وتقريبا في منطقة الوزيرية اوقف حميد السيارة وودعهما ، وقدم شكره الجزيل وامتنانه البالغ للام الباسلة ولابنتها .
الام كانت تبكي بدموع الثكالى ، والفتاة كان يخيم عليها الحزن الشديد الا انها قد شيعته بابتسامة وداع خفيفة ونظرة تنم عن اعجاب بهذا الشاب المضحي بحياته في سبيل قضية شعبه العادلة .
يتبع