محمد علي الشبيبي
Alshibiby45@hotmail.com
الأثنين 6/9/ 2010
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)محمد علي الشبيبي
مقدمة
ترك الوالد طيب الله ثراه مجموعة من المخطوطات النثرية والشعرية. و (ذكريات معلم) هي إحدى مخطوطاته التي يتناول فيها ذكرياته خلال عمله الوظيفي في التعليم. القسم الأول من هذه الذكريات (معلم في القرية) يروي فيه الوالد تجربته في العمل التعليمي في الريف منذ تعيينه معلما في تشرين الأول عام 1934، حيث يتناول بأسلوب شيق عادات وتقاليد الفلاحين، ويسجل بعض الأحداث التاريخية وتأثيراتها على حياة القرويين وكيف يتم التفاعل معها من قبل القرويين، ويتطرق إلى مواقف ودور الشخصيات الاجتماعية والسياسية الحاكمة وكيفية توزيع الأدوار بينهم.
و (معلم في القرية) تتناول بأسلوب نقدي الطائفية وتأثيراتها السلبية على الوحدة الوطنية، وكيف يستغلها السياسيون المتنفذون في الحكم من أجل مصالحهم الضيقة. كما يتحدث ويصف بؤس الفلاحين، واستغلال شيوخهم، وتدهور التعليم بسبب خضوعه للتيارات السياسية.
يتناول في ذكرياته بعض الشخصيات القريبة منه والبعيدة بسلبياتها وايجابياتها. ربما هذا التناول يزعج ويثر غضب البعض، لكنها تبقى انطباعات ووجهات نظر شخص عاش قريبا منهم وتعرف عليهم مباشرة أو سماعاً. لذلك يتجنب والدي ذكر بعض الأسماء الصريحة في سرد ذكرياته، وأحياناً يشير إلى الأسماء في الهوامش مع أعطاء نبذة مختصرة عن الشخص المذكور. وفي ملاحظاته عن مخطوطته أبدى تردد في تثبيت الأسماء الصريحة. وهو محق في ذلك، فقد مرّ على تلك الأحداث عقود، ولم يبق من هؤلاء إلا أبنائهم وأحفادهم، ونشر أسمائهم الصريحة وخاصة إذا ارتبطت بمواقف مسيئة ومعيبة أو منافية للأخلاق، تثير حفيظة أسرهم حتى وان كانوا متأكدين من صحة المعلومات المثارة. لذلك تجنبت أنا أيضاً ذكر بعض الأسماء الصريحة في بعض الأماكن وأشرت لها بالحروف الأولى من الاسم، فأرجو من القارئ العزيز معذرتي لذلك.
كانت للظروف السياسية التي عايشها الوالد سببا في انقطاعه أحيانا عن مواصلة كتابته لهذه الذكريات مما أدى هذا في بعض الأحيان إلى تكراره لروايته لبعض الأحداث والهوامش، لذلك حاولت أن أحذف المكرر منها إلا ما فاتني أو سهوت عنه. ويشير الوالد إلى ظروفه الخاصة التي كانت السبب لفقدان الكثير مما سجله أو أحتفظ به، من صور وكتابات وشواهد مهمة، من أجل هذه الذكريات.
في (معلم في القرية) يصف الوالد وصفا جميلا ودقيقا للمناطق الريفية التي عمل فيها أو زارها، كما يصف الناس وطباعهم. وهو لا ينسى أن يتحدث عن مناهج تدريس العربية وينتقدها نقداً علمياً نابع من تجربته وخبرته، ويشخص بدقة مكامن الخلل في هذه المناهج، حيث يكتب "أين وكيف يستطيع صبي في سن الحادية عشرة والثانية عشرة أن يهضم موضوعاً بقلم المنفلوطي، بأسلوبه المسجوع، وألفاظه المزوقة. وأية روح تنمو في الطفل وهو يقرأ الحلاق الثرثار وذمّه السياسة والسياسيين، ويلعن الناس أجمعين؟!"
كما لا ينسى أن يشخص الصعوبات التي واجهها في تدريس العربية أحيانا فيكتب: "أني كأي متعلم على الطريقة القديمة، لم أستطع التخلص تماماً من التعقيد، وصعوبة التفهيم في كثير من الأحيان" . وبناء على تجربته الشخصية يضع الحلول والمقترحات لتطوير المناهج وأصول تدريس العربية.
وبالرغم مما أصابه في مسيرته التعليمية من غبن وإجحاف ومعاناة قاسية، من فصل وسحب يد وتوقف لترقيته ومضايقاته من بعض زملائه والمفتشين وإدارات المعارف وإصدار أوامر نقله أو إعادة تعينه في مناطق نائية لا تتناسب وخدمته الطويلة في التعليم، نجده رغم كل هذا يؤكد وبدون جزع أو ندم عن حبه وإخلاصه اللامتناهي للتعليم واختياره لهذه المهنة السامية بوعي، مفضلها على وعد من عميد الأسرة (العلامة الجليل الشيخ محمد رضا الشبيبي) لتعيينه قاضياً. فهو يؤكد رسالة المعلم ويلتزم بها كما جاء في موضوعه المعنون "المعلم": (انه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هاذين العدوين في حلفهم البغيض...... المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها ...). والمصيبة التي عايشها المعلمون في معظم العهود كما عايشها والدي، هي أن الطبقة المتحكمة وأعوانها من أقطاعيين وملاكين ومستبدين يتسترون بالدين والتعصب الطائفي والقومي، هؤلاء جميعهم ليس لهم مصلحة حقيقية في نشر الوعي ومكافحة الأمية والجهل والمرض لأن قوتهم وديمومتهم تعتمد أساساً على مدى انتشار الجهل والخرافات والفقر والمرض.
ويتحدث والدي عن معارفه، من أصدقاء محبين، أو حتى الكارهين والحاسدين، بروح ايجابية محاولاً أن يدخل أعماق تفكيرهم ويفهم دوافع مواقفهم وكأنه طبيب نفساني يضع أمامه معالجتهم وتوجيههم بعيداً عن الحقد والثأر.
وفي تسجيله لتداعيات الحرب العالمية الثانية وما تركته من بلبلة فكرية بين أبناء الشعب العراقي، نجده يستعرض وباختصار ما يدور بين مختلف أبناء الشعب من أفكار وتحليلات وتوقعات وآمال خرقاء وتكهنات متناقضة. فيسجل ما يدور على السن الناس البسطاء والمثقفين الوطنيين، والمعممين وعملاء الإنكليز والألمان ويصور كل هذه التناقضات في أحاديث وحوارات شيقة عايشها أو سمعها. وما ينقله من رأي عن أحد المعممين يعكس طريقة التفكير الأنانية والضيقة لبعض هؤلاء دون أن يفكروا بدمار الحرب والمأساة التي تخلفها، ولا يهم هذا المعمم من كل ما يجري سوى ما يصله من حقوق شرعية: ( .... أجاب معمم آخر وكأنه يلقي خطاباً: "شيخنا أنتظر، ريثما يتحرر القفقاس؟ سترى عند ذاك كم هي الحقوق الشرعية التي ستصل إلينا؟!")
وجدت أحياناً إمكانية إلحاق الهوامش والحواشي والتواريخ التي دونها والدي في أسفل صفحات مخطوطته وحصره بين قوسين [ ] وتثبيته مع تسلسل روايته، وذلك لتجنب كثرة الهوامش إضافة إلى إني وجدتها مفيدة أكثر لمعنى روايته، وقد أشار والدي في إحدى الحواشي إلى رغبته هذه.
سأنشر من الآن جميع ما كتبه الوالد تحت عنوان (معلم في القرية) في حلقات متسلسلة، وأرجو من جميع الأصدقاء والقراء الكتابة لي في إبداء ملاحظاتهم إن وجدت وسأكون شاكرا.
ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد 5 آب 2010
Alshibiby45@hotmail.com
معلم في القرية
(11)في الناحية
نعم. في الناحية.أليس هذا تقدماً نحو الأفضل. والواقع لو إن وسائل الراحة ولو بشكل بسيط، والعيش متيسراً قدر الإمكان في القرية لآثرت البقاء فيها. القرويون يحبون الاستفادة، ويحترمون المعلم، لو خلّوا وطبعهم. وإذا حدث غير هذا فإن الدوافع على الأكثر من القوى المسيطرة على حياتهم.
هذه الناحية "الفيصلية" والاسم العام لها المشخاب [يبدو إنها سميت باسم الملك فيصل الأول، وكنا نسميها قبل هذا "السوارية"]. تقطنها عشائر كثيرة أهمها، والزعامة لها "عشيرة آل فتلة" وزعيمها المبرز اليوم الحاج عبد الواحد سكر [هو رجل متوسط القامة دقيق الجسد مجدور الوجه، عرف بالدهاء حتى أطلق عليه بعضهم معاوية]. وعشيرة "العبودة" والسادة الياسريون وكبيرهم السيد نور السيد عزيز الياسري أحد الزعماء الذين شاركوا في ثورة العشرين، وقد مرّ ذكره. ومع مجرى نهر الفرات تقع عشائر آل إبراهيم "الأخشاب" و"الصلاحات". الأخشاب، الفخذ الذي يرأسه داخل الشعلان. والصلاحات، الفخذ الذي يرأسه عبد العباس العواد وابنه ساجت.
هذه المنطقة تعتمد في زراعتها على الرز، ومركز الناحية تابع لقضاء أبي صخير، وسائط النقل بينهما بالسيارات، والسفن الشراعية، والطريق غير معبدة مما يجعلها أيام الشتاء وموسم الأمطار خطرة. ويتفرع عن النهر الكبير نهر يسمى السوارية من جهة مركز الناحية، ينتهي إلى السادة الياسريين آل حمود [تدعى قريتهم أم عودة فيها السادة حسين، ومسافر، وعبد الله ولي، ولأخي الشهيد حسين معهم صداقة]، ومعظم المساكن هنا من أكواخ القصب المسورة بالطين وبعضها من الطين المسقف بالخشب والبواري، والدور المبنية من الطابوق قليلة جداً.
فيها سوق واحد لآل فرعون [هم زعماء عشيرة الفتلة، منهم الشيخ مبدر ومزهر والد الشيخ فريق مؤلف كتاب الثورة العراقية]، وفيها عدة خانات لتجار من النجف تخزن فيها الحبوب [يسيطر تجار الحبوب النجفيون على جميع هذه المقاطعة عن طريق تزويد رؤسائها بالمال بما يسمونه "على الأخضر" منهم الحاج رؤوف شلاش، والسيد جلوي وأخوه وابنه الذي أغتاله أحد مستخدمي العمل لديه وسرق المال الموجود في القاصة. وتجار آخرون نجفيون وبغداديون يفدون في المواسم]، وفندق واحد يطل على أربع جهات، أحدها جهة النهر. ومديرية الناحية والشرطة في بناية خاصة لهما، ويشغل البريد بناية صغيرة جداً، ومحل شبه حانوت لدائرة الاستهلاك، ومستوصف صغير أيضاً يديره طبيب منذ أمد قريب وقد كان يشغله موظف صحي من اليهود. ويسكن بعض الموظفين بيوتاً شادتها البلدية.
أما بناية المدرسة الابتدائية، ولا يوجد غيرها، فصغيرة بينما ساحتها واسعة جداً. يقصدها التلاميذ من مسافات، مشياً على الأقدام، وبما تزيد على النصف ساعة. مديرها شاب من سامراء [عبد المجيد إبراهيم السامرائي] ومن معلميها نحن النجفيين أربعة واثنان أحدهما من الفلوجة. وينتظر أن يضاف إلينا معلم جديد.
نحن الأربعة نقيم في الفندق، كل واحد في غرفة خاصة بأجرة شهرية ستمئة فلساً. لم أجد في أول الأمر غرفة فارغة، عدا واحدة رقمها 13 رفض مدير الفندق أن أشغلها تشاؤماً من هذا الرقم؟ لكني بإصرار قبلتها. قلت له: لا تتشائم فإن ميلادي هو عام 1913، وباشرت حياة التعليم 13/10/1934؟ وراح يقص عليّ ما أصاب بعض سكانها: المعلم أحمد .... فصل. وآخر مرض، وثالث كان تاجر حبوب أصيب بخسائر فادحة. لكني أقمت فيها!.
طعام السوق غير مستساغ، وعلى العادة صرت أهيئ طعامي بنفسي. وصديقي المعلم "مرتضى طاهر فرج الله" طلب مشاركتي في الطعام. لكنه كسول لا يجيد أية مساعدة حتى غسل الصحون. ومع هذا وافقت على مشاركته. عند توزيع الدروس لوحظ إني ومرتضى كلانا عين خصيصاً للغة العربية، بينما أصر المعلم صالح ... أن يدرس العربية مع العلم إنه كان قبل هذا يدرس الاجتماعيات؟ وحلت المسألة أن صار الصف الأول حصتي. وعربي الخامس والسادس إلى مرتضى.
هذا المدير جدي في إدارته، يحسبه الناظر بسبب انكماشه على نفسه إنه متكبر متعجرف. وقد شغل إدارة المدرسة منذ نقل مديرها السابق "عبد المهدي البرمكي" بعد سقوط وزارة الأيوبي، بانتفاضة عبد الواحد سكر. إني أتخوف كثيراً من وجود المعلم "صالح مهدي شمسه" [وهو من أسرة نجفية معروفة، من خدم الروضة العلوية، وإنه شاب له حظ غير يسير من الثقافة، ومع كونه معلماً فهو يقلد بسلوكه ذوي المناصب العالية في تصنع لهجتهم. كما إنه مضافاً إلى هذا مبذر متلاف] فما أعرفه عن نزعته الأرستقراطية، واعتداده بنفسه بصورة مبالغة، وبأنه أهل لمنصب أعلا ، لحد إنه لا ينظر إلى زملائه المعلمين إلا كأطفال. وإن معلما نجفياً التصق به بشدة، مستفيداً من تبذيره، وكان المسكين يعامل من قبله كخادم، بينما يصوب همزاته لنا طيّ نكاته.
لم أكن وصاحبي مرتضى أقل منه في تصويب الهمز بالنكات. مازلنا في بداية السنة، وعسى أن تنتهي بخير...
استشارة
زارني مدير مدرسة سوق شعلان الذي عين فيها خلفاً لصاحبي الحلي "الفلوجي" بعد مقدمة من الثناء عليّ، وإطراء كلمات الإعجاب لما أحسَهُ من حب أهالي القرية لي. راح يحدثني عن رغبته في الزواج. لقد أرتبط بعلاقة حب مع فتاة، هي ابنة شرطي المخفر الكردي. الفتاة متعلمة، وتركت المدرسة من الثاني متوسط.
الواقع إني لا أعرف عنها ما يمكنني من إبداء الرأي، فأبوها أيضاً من المنقولين إلى هذا المخفر حديثاً.
وعرفت من هذا المدير إنه يعيل أبويه وأخوته، ولا معيل لهم سواه. فطلبت منه أن يمهلني إلى الأسبوع القادم، إذ سألتقي ببعض معارفي من أهل القرية من له علم بأحوال الرجل وربما عائلته.
وفعلاً تم لي اتصال ببعضهم، والحديث عن الفتاة يزكم الأنوف، وذائع بشكل غريب. أخذت معلوماتي عن بعض الذين يمارسون الغزل وملاحقة النساء، ومن بعض الذين لا تخفى عليهم خافية، ويبدو إن انكشاف القرية يجعل كل شيء مكشوفاً أيضاً. وحين عاد لي بعد نهاية الأسبوع الثاني، طلب مساعدتي أن أتوسط له عند الوزير [هو الشيخ محمد رضا الشبيبي" وقد دبرت له ما طلب حيث سافرت لهذا الغرض] للحصول على سلفة للزواج. عجبت من أمره، حين قدمت له رأيي في الزواج من الفتاة. كان صوته مترجرجاً وكأنه لم يفهم ما أوضحت، فزدت الحديث إيضاحاً. فدمدم برأي خلاصته الشك بصحة المطاعن. لا بأس، لقد محقته النصيحة، وليجن الثمر وعسى أن لا يكون مراً، لكني آسف أن يتسرع شاب وديع، عليه سيماء الطيبة، فيقع بما لم تسبقه تجربة، ودراية، كلعبة اليانصيب.
معلم والشاعر جرير
المعلم جواد من المعلمين الذين عينوا هذا العام. شاب رشيق القوام مورّد الخدين، هادئ ساكن، يقيم الصلاة بأوقاتها. جاءه ضيف، رجل معمم قد جاوز الكهولة، رحب به وأستقبله باحترام. سألناه عنه، أجاب: إنه مربيه، وفلاح لديهم. [حين نقلت إلى كربلاء عام 1955 التقيت به "المعلم جواد" وكان أحد أبنائه تلميذ في الصف الثالث ولي فيه بعض الدروس. علمت إنه إيراني الأصل، كما علمت إنه على قطيعة مع أبيه. وعام 1959 أحيل من إدارة مدرسة الأحرار إلى معلم في مدرسة الحسين التي صرت مديرها. وقد وقف مني موقفاً سيئاً وخلق لي مشاكل سأذكرها في حينها. وأسباب هذا إنه لا يشايع حكم قاسم باعتباره من مؤيدي الأفكار القومية؟!]
أبدينا استغرابا، فالرجل على مستوى جيد من النظافة والأناقة، مثلما هو محدث جذاب. رد علينا: هكذا معظم الفلاحين الإيرانيين. وشاءت الصدفة أن نختلي بالضيف، وكم كانت دهشتنا، حين علمنا منه إنه والد المعلم. قال: إنه عراقي الجنسية، ووالد زميلكم. عند سفره، وفي جلسته بيننا، تحدثت عن حكاية تروى: أن جماعة من العرب سألوا الشاعر جرير:
- من أشعر العرب؟
- تعالوا معي.
وأدخلهم إلى ركن من البيت، فرأوا شيخاً قميئا قد انحنى مجهدا نفسه، يمتص الحليب من ضرع نعجة، والحليب يسيل على لحيته. وكان قذراً زري المنظر.
قال جرير: أتعرفون لم هو هكذا؟ إنه يكره أن يحلب فيسمع الجيران الشخب فيطلبون شيئاً من الحليب. إنه أبي، وقد فاخرت ثمانين شاعراً به. من أستطاع بمثل هذا الأب، هو أشعر العرب!!.
وأنت يا حضرة الـ ..... يكفي أباك فخراً أن أوصلك إلى هذه المرحلة من الدراسة، وهو كما رأينا ليس بالزري، ولا الحقير في حديثه وفهم الأمور. لست أرفع منه في شيء فلماذا تترفع وتأنف من الانتساب إليه؟!
وفجأة بعد أيام ورد أمر نقل صاحبنا إلى غماس وعين مكانه معلم هو الآخر جديد أيضاً من أهالي بعقوبة "محمود مصطفى" ربعة في الطول عريض الوجه بشكل لا يناسب طول الوجه، كثيف شعر الرأس، وقد غمر شعر لحيته خديه. فإذا حلق بدا وجهه أزرق. كذلك سائر جسده، صدره ورجلاه جميعها مكسوة بشعر كثيف. خشن الصوت، قليل الحديث، جدي بأعماله وحديثه. وبالمناسبة إن صديقي مرتضى كان يداعب جواد دعابة خشنة. إنه يشعره بإعجابه بجماله. وأغتنم عند وصول أمر النقل انشغاله بالصلاة فوقف كمغرم هائم ينشد بأسى: "بَعّدوا عني الريم!". ويشير إليه ويكمل: "وجابولي خروف!" ويشير إلى صاحبنا المعلم الجديد "محمود". فاستشاط هذا غضباً، وأحتج: "ما معنى هذا، أهذه مجاملة طيبة، أتعرفني، إلي معك علاقة سابقة؟ هذه إهانة". [علمت حين كنت في الناصرية معلماً إذ عين "محمود مصطفى" في دار المعلمين العالية بعد أن نال شهادة الدكتوراه بالفيزياء. وقد سبق أن زارني حين كنت في الكوفة عام 1940 حين سحب من جامعة ألمانيا بسبب قطع العلاقة بين العراق وألمانيا النازية. وكانت له مراسلة أعجاب ووفاء لي ويطلع زملاءه في الكلية على رسائلي زملاءه زائدة تحذف ومازال لدي كارت على ظهره عبارة بقلم صديقته "تحية قلبية من ريتا" وحين دخل أبني كفاح الكلية تعرف إليه فقابله بتجاهل مثلما لم يجبني على تهنئتي له بمناسبة تخرجه!؟]
مهما يكن من أمر، فقد توثقت أخيراً علاقتنا بمحمود، خصوصاً معي أنا وصار شريكنا بالطعام. وفي إحدى زياراته لذويه وعودته، جلب من برتقال بعقوبة، فأكرمنا بشيء منه! وصحبني في زيارتي إلى أهلي ضيفاً عندي. وعلى جديته كان أكثر انطلاقا من صاحبنا جواد. وخلال هذا أيضاً عرفت تمكنه من المادة التي تعهد تدريسها "العلوم" وكثيراً ما يبدي تحسراً ونقداً للأوضاع. وكان يطمح إلى تخصص عن طريق بعثة يحصل عليها، ولكن الأمر يحتاج إلى وساطة محترمة؟! هكذا وعدته أن أصحبه إلى الوزير عله يحقق مطمحه.
لمـاذا؟
عمل ليس من طبعي قط. لماذا شاركت فيه؟ لست أدري. قمنا بسفرة إلى لواء الديوانية، زرنا، نحن النجفيين الأربعة، مدير المعارف الأستاذ "ناجي يوسف" [السيد ناجي يوسف، نجفي من عائلة معروفة تدعى آلبو ريحه، وغلب عليهم نسب "الطالقاني" العائلة الشهيرة في النجف بسبب المصاهرة. عرفت السيد ناجي منذ كان تلميذا في المدرسة الأميرية الابتدائية. كان ذكياً وتقدم في أول زيارة لفيصل فألقى كلمة، وعلم الملك إنه معدم فخصص له راتباً ظل -كما يقال- يتسلمه إلى أن انتهى العهد الملكي. عين السيد مدير معارف في الديوانية وعين قائم مقام في قضاء المسيب، في الوقت الذي عين فيه السيد حسن الجواد قائم مقام لأبي صخير ثم النجف. والظاهر أن تعينهما جلب نقداً إذ أنهما ليسا حقوقيين فأعيدا إلى وظائفهما في المعارف. لكن السيد ناجي دخل الحقوق وتخرج فترك وظيفته وأشتغل بمهنة المحاماة ونجح فيها.
ولا يفوتني أن أذكر إنه حين نقل أخي حسين إلى العمارة عام 1943 كان السيد ناجي مديراً لمعارفها وكان السيد سعد صالح متصرفاً للواء العمارة. وكثرت التقارير ضد حسين فأصدر السيد ناجي نقله إلى المشرح. فدخل عليه حسين محتجاً وبشدة قال له: "إلى هذا الحد؟! أترى عائلتي دون مستوى عائلتك، فتعيش أنت بمركز اللواء، وأمي وأخواتي إلى المشرح؟!". فأجابه:
- أنا لا أضحي بخبز عائلتي من أجلك، وأنت لا تكف عن العمل الممنوع في السياسة. ماذا ترى إني أستطيع؟
وهكذا ترك حسين الوظيفة دون تقديم استقالته، وأنذر بعد مدة في الجرائد وأعتبر مستقيلاً. ولكن السيد ناجي بعد ثورة تموز 1958 شارك في حركة أنصار السلام ولجنة العدالة وفي الواقع إنه كان مثالاً في النزاهة والنشاط. وقد خلف نقيب المحامين "عبد الوهاب محمود" فرأس نقابة المحامين ولكنه توفى بعد ذلك بفترة]، وبعد عرض للمشاكل القائمة في مدرستنا، طلبنا منه أن يعين صاحبنا صالح مكان السيد عبد المجيد إبراهيم.
في الحقيقة أن عبد المجيد سئم من هذه الإدارة، وغير مرتاح، وربما كان قد سبقنا إلى تحقيق أمر نقله بطريقته –التوسط- لكننا قمنا من جانبنا بهذه المحاولة، ووعدنا المدير بهذا، وتم تعيين صاحبنا مكان عبد المجيد، وتمت الدروس كما هي سابقاً.
ولكن سلوك صاحبنا قد تغير، وبالأخص اتجاهنا نحن الاثنين "أنا ومرتضى"، أما صاحبه "عبد الأمير" فقد توثقت علاقته معه أمتن من السابق. وقد زارتنا مدرسة من النجف، علم إنهم قد أعلموا الجهة المختصة بتوجه المدرسة إلى الناحية، أي أن الأصول تقتضي إن المدرسة مادامت جولتها رسمية فإن ضيافتها على حساب الناحية، ولكننا فوجئنا، فقامت مدرستنا بالضيافة. وأثناء ما كان المعلمون الضيوف يتناولون الطعام، صرح المدير متبجحا ومداعباً الضيوف: هذا اليصير مدير أغاتي، يحط راتبه لأمثال هذي؟!
- في مثل هذه المناسبة يشارك زملاؤك المعلمون.
أجاب مدير المدرسة الضيف [هو "السيد حسن زوين" مدير مدرسة الابتدائية الأولى في النجف، وكان أول أمره من الشباب الوطني اللامع. وحين زارتنا مدرسته كان أخي حسين معلماً للإنكليزية فيها وكانت له معه صداقة، منذ أن كان حسين تلميذا في الثانوية، واشتركا في تمثيل مسرحية "في سبيل التاج" حيث خصص ريعها لجمعية الرابطة الأدبية في النجف]. ولكن صاحبنا ردّ عليه:
- لا، لا عيني هُم بيش مطلوبين؟!
وعند استلام الراتب جاء صاحبه "عبد الأمير" يطالبنا: "إن صالح لا يعلم، ولكني أنا أقول، ليس من المروة أن نحمله نفقات ضيافة المدرسة". وقد ظهر إن حصة كل واحد من المشاركة أن يدفع كذا "....". لكن المعلمين ردوه: "إن هذا حق لو إنه لم يتبجح أمام الضيوف بأنها على حسابه". ولم يشارك احد بفلس، وترقبنا تبدل سلوكه معنا. ترى أكانت هذه هي سبب التبدل، أم إنها أرستقراطيته التي نعرفها؟!.
زيارة مفتش
الدراسة تجري بانتظام، لا بسبب شخصية مدير المدرسة، بل لأن جل معلميها من الشباب، ولا بأس بمعلوماتهم، وبنفس الوقت أنا أعرف إن أبناء الريف وخاصة الفلاحين، يولون الدراسة عناية واهتماما ويتجلى هذا بإصغائهم والتزامهم بتحضير الواجب.
وبدون علم سابق زارنا المفتش رشيد الشلبي. المتعارف والسائد هكذا تكون زيارة المفتشين مفاجآت، لأنهم لا يثقون بالمعلين، بانتظام دوامهم، بتحضير دروسهم. ويبدو المفتش سلطة مخيفة، تبحث عن الزلات والهفوات، ثم تنفخ فيها، وتلبسها اللبوس الذي يقنع "جناب المفتش". إنه حقاً سلطة مهابة من المعلمين!
من الحق أن أعترف، إن كثير من المدارس في كثير من القرى لا ينتظم فيها دوام المعلمين، والتدريس فيها أيضاً غير منتظم. ولكن لماذا؟ وما السبب؟ في قرى نائية منقطعة، يرسل المعلم ليقوم بنشر المعرفة، يفتح عيون الصغار والكبار أيضاً حين يلتقي بهم في دواوينهم ومجالسهم. ربما تعذر عليه الوصول إلى مدرسته، أو منها إلى أهله في عطلة الأسبوع أو العطل الأخرى، دون أن يقضي يوماً كاملاً في سفينة ثم سيارة، وإقامته في كوخ لا يحميه من حر الصيف ولا برد الشتاء، ولا شرور الحشرات. يتعسر عليه في أغلب الأحيان أعداد الغذاء، وينعدم الدواء كلياً، أضف إلى كل هذا نظرة شيوخ العشائر المتغطرسة، وربما نظروا إليه بحذر وتربصوا به إن ظهر لهم إنسان مدرك لجهالتهم، واستغلالهم.
أما طلابه –وأغلبهم من أبناء الفلاحين- الحفاة، أشباه العراة، تكاد تحصى أضلاعهم البارزة تحت جلودهم الجافة، ومعظمهم يقصد المدرسة من مسافة نصف ساعة أو أكثر مشياً على القدم، وقد يكلفه ذلك أيضاً أن يعبر نهراً يعترض طريقه حتى في أيام الشتاء، وهو مع هذا لم يتزود غير لقمة من الخبز والتمر!
إن بعض المدارس يكون عدد الطلبة فيها في مد وجزر تبعاً لموسم الزراعة. قال لي أحد القرويين وأنا أسأله عن أطفاله، لماذا لا يدخلهم المدرسة؟ رد عليّ: "من يرعى الهوايش "البقر"؟! ويجيب إلهن الحشيش؟ والمدرسة؟ مثل المثل، عيش يا حمار .... لما يجيك الربيع؟" المفتشون لا يضعون كل هذا في الحساب.
لا أدري كيف انتهى الدرس الرابع، المفتش لم يدخل إلى صفي، أنا وحدي مستثنى؟ أم ماذا؟ ولماذا جمعنا؟
بدا غاضباً حين نادى المعلم أحمد [من أهالي الفلوجة]، أنهال عليه بكلمات التقريع، وبدون مقدمة، قال له: "إنك ضعيف الشخصية! إن لم تعمل على تقوية شخصيتك، تفصل!؟". دافع المدير بكلمة باردة. قال المفتش: "أتعلمون إني وجدت التلاميذ في الصف الرابع يتناوبون على حمل حضرة المعلم بأيديهم، واحد يضعه فوق الرحلة وآخر ينزله، وهو يدافع بيديه كالطفل ولا يقوى على ردهم!؟". أبدى ملاحظاته عن كل معلم بلطف بعد هذا ، وتقبل ردودهم.
فاجأني بهذا السؤال: آي ﭘسر نجف جرا همجين؟ (تعني "يا أبن النجف لماذا هكذا ؟"/ الناشر) أدركتني ضحكة. أجبته بالعربية طبعاً وعرفت ما قصد إليه. إنه لم يدخل صفي، إذن هو يتجسس. رآني حين رميت التلميذ في الصف الأول بقطعة طباشير، أصابته بين حاجبيه. ساعتها ارتبكت واضطربت، أسرعت إلى التلميذ، وبخته، توبيخ لائم معتذر. وكررت اعتذاري للمفتش. إنها غلطة يا أستاذ ستكون الأخيرة مثلما هي الأولى.
وطلب المفتش دفاتر التحضير، فقدمناها له، وظل المدير يبحث عن دفتره؟ ضحك المفتش حين رأى تعليقة كتبها المعلم مرتضى، على ملاحظة مدير المدرسة بدفتر التحضير. "ضرورة تحضير الدروس يومياً قبل الدخول!" كتب مرتضى تحتها "يا أيها الرجل المعلم غيره ..."
- أين دفترك يا حضرة المدير؟
مازال المدير يبحث عنه. أخيراً وجده الفراش بين السجلات، كل صفحاته بيض!؟ قال المفتش يخاطبه: "يا أيها الرجل المعلم غيره؟!"
وتحدث إلينا عن ضرورة الاهتمام والعمل بجد، لا من أجل راتب. ضعوا أمام أعينكم إن هؤلاء الذين تعلمونهم سيبرز منهم غداً من ربما سيحتل درجة علمية مرموقة، ومكانة لائقة في الدولة. سيقول كلمته عن كل معلم تلقى عنه. ألا تحبون أن تكونوا مثلاً طيباً له؟
هذا المفتش كان يقال عنه، إنه شديد، متعجرف! كلا أبداً، إن شدته بحق، وليس متعجرفاً، رغم رأيه بالعصا للتأديب في المدرسة [نشر له في احد أعداد مجلة المعلم الجديد مقالة بعنوان "العود إلى العصا" وقد ردّ على رأيه هذا كثير من المربين. ورأيي إن تجنب العصا من أصعب الصعوبات. طالما إننا نعيش مجتمعاً يتسلط فيه القوي على الضعيف، وطالما إن أمكانية التربية والتعليم ليست متوفرة للجميع، بل إن العمل والعيش ليس بمتناول كل فرد. يقال إن التربية تبدأ من المهد. كيف ونساؤنا جاهلات. بل الجهل يسود معظم ناسنا مضافا إليه غلبة الأمية ونظم الاستغلال السائدة. كان كثير من الرجال يضربون زوجاتهم ضرباً قاسياً أمام أبنائهم الصغار].
ولكن لماذا خاطبني بالفارسية؟ أهي نظرة بعضهم الخاطئة، إن الشيعة فرس؟!. على كل إنه أمتدح نشاطي، وطريقتي في التدريس لمادة هي من اختصاص خريجي دور المعلمين.
يتبع
السويد 2010-09-06
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)