علي عرمش شوكت
الأثنين 14 / 5 / 2007
الظهيرالحلقة الخامسة
خسارة عش النسر الآمن
علي عرمش شوكت
في طريقه الى المكان الذي يلجأ اليه في حالة الطوارئ ورغم عتمة الليل تعرفت عليه الرفيقة ( نهلة ) التي هي من سكنة هذه المنطقة ، كما تعرف عليها هو ايضا، مع انها كانت متنكرة بزي شعبي ، وخلال تبادل التحية اخبرته بان (زهيرا) قد اعتقل قبل اسبوع واطلق سراحه اليوم، وتشير المعلومات التي وصلتها بأنه وللاسف الشديد قد ضعف امام الجلادين .
الصدمة والحزن قد جعلا( حميد ) غير قادر على مواصلة الحديث مع تلك الرفيقة ، غير انه قد اتفق معها على موعد للقاء اخر بهدف ربطها بصلة حزبية جديدة ، اذ انها كانت قطعت صلتها برفاقها بسبب الهجمة الشرسة على رفاق واصدقاء الحزب الشيوعي .
زهير هو صاحب البيت الذي يلجأ اليه حميد في الظروف الحرجة ، وهو صديق مخلص ووفي ، كان شيوعيا سابقا وترك العمل الحزبي لظروف شخصية قاهرة ، الا انه بقي يقدم المساعدات للحزب .
حزن حميد على ما آل اليه مصير زهير ولكن حزنه كان ممزوجا بشيئ من العزاء ، فنجاة صديقه من موت ( الثاليوم ) له وقع في نفسه ، ولكن انكسار زهير امام الجلادين له اثر مؤلم اخر.
اخذته خظواته الثقيلة الى طريق شبه معزولة تتوسطها سكة حديد مهجورة توصله الى ذلك الحي الذي سكنته اسرته في السابق، وعلى ذات السكة سجلت له ذكريات جميلة مع اقرانه من ابناء محلته تلك ، التي اصبح ذكرها بلسما لجراح الحاضر، مع انه قد نسيها ونسي الكثير من خصوصياته متفرغا لمهماته الحزبية والسياسية .
السكون الذي يلف الطريق المعزولة وذكريات الماضي الجميلة اخذت من حزنه الكثير وسحبته الى حافة من الهدوء ، مما جعله يعيد حسابات خطته تلك ، اين يذهب بعد ان خسر بيت صديقه زهير ؟ ، ومع ان هنالك العديد من الاماكن ولكن تقدم الليل بات حاجزا بينه وبين اللجؤ اليها .
حينما كان ينقب في ثنايا ذاكرته عن مكان مناسب اصطدم نظره بسور مقبرة المسجد الذي كان قريبا من المكان المتواجد فيه ، فقرر ان يكون ضيفا هذه الليلة على نزلاء هذه المقبرة !، لم يترك الوقت يضيع فتسلق السور ولم يشاهد سوى اشباح القبور ، سار بينها ممتلكا حرية الاختيار لمكان المبيت ، فوقع اختياره على قبر واطئ ، فتوسده ونام نوما عميقا ولم يفق منه الا على صوت آذان الفجر، وهنا تذكر صديقه القديم الذي اصبح شيخا لهذا المسجد ، ذلك الشاب القادم من مدينة سامراء والذي تأثر بحركة القوميين العرب وعمل في صفوفها بعد ثورة تموز 1958 والى حين انقلاب شباط الاسود عام 1963 ، حيث ادت به احداثه الدامية الى هجر السياسة والتفرغ للتعبد ، ولكن العلاقة بينهما ظلت حية بحكم زمالة الدراسة والصداقة والاخوة لانهما ابناء حي واحد .
كان آذان الفجر بصوت صديقه الشيخ جلال ، فنهض ونفض التراب عن ملابسه وقرأ ( سورة الفاتحة ) على روح مضيفه صاحب القبر الفقيرالذي توسده ، ومن ثم توجه الى داخل المسجد ، وظل واقفا امام بوابة المأذنة لحين نزول صديقه الشيخ الذي دهش واخذ يقرأ التعاويذ حينما شاهده ، ولكنه قد اختلط لديه الفرح والاستغراب وتساءل عما جاء بصديقه القديم في هذا الوقت المبكر الى هنا ، فحكى حميد حكايته.
اعتذر الشيخ عن عدم تمكنه من اخذه الى بيته ، اذ يوجد ضيوف لديه من اقاربه وبعضهم من البعثيين وقد يكونون من منتسبي جهاز الامن، لكنه طرح اقتراحا سرعان ما وافق عليه حميد ، وهو البقاء في المسجد ، واعطى الشيخ اشارة الى حميد للصعود الى اعلى المأذنة ، هناك مكان يتسع للنوم وللبقاء الآمن وان الطعام والشراب سوف يجلبهما الشيخ كلما صعد لإداء الآذان ، ولم يتردد حميد قبول الفكرة وطلب من صديقه الشيخ ان يزوده ببعض الصحف ان امكن ، صعد الى المأذنة حاملا معه بطانيتين ووسادة وجهاز راديو صغير جلبهم الشيخ من مخزن المسجد ،.لم يكن صعود حميد الى المأذنة لأول مرة ، فقد صعدها مع رفيق الطفولة والصبا والشباب والعمر كله ابن خالته ( ستار ) وذلك في بداية الخمسنيات عندما كانت هذه المأذنة في طور الانشاء ، حيث شاهدا آنذاك بغداد من الاعالي التي كانت تبدو وكأنها بستان نخيل اخضر يشطره نهر ازرق وتطرز شطريها بيوت غالبيتها شرقية الطراز وكذلك المآذن الشامخة ، والقبب الذهبية والزرقاء ، التي كانت تتوج بعض المعالم الاثرية والمراقد الدينية التي يعود تأريخها الى العهد العباسي على الاغلب .
قضى حميد الليل ينام شوطا ويستيقض شوطا اخر ، ولم يأتي الشيخ الا قبيل صلاة الفجر ليؤدي الآذان ، حاملا معه الطعام وابريق من الشاي وبعض الصحف كما نقل الى حميد عناوين الاخبار الهامة ، واكد عليه عدم النزول الى باحة المسجد نهارا، لأنه سوف يقفل بوابة المنارة من الخارج لكي لايصعد اليها أحد ، وترك نسخة من المفتاح لدى حميد .
ومع ان المكان غير صالح للعيش بسبب ضيقه وعدم وجود مجال للحركة سوى النزول والصعود بواسطة السلم الحلزوني داخل المأذنة ،الا انه صالح تماما للاختفاء ، ولهذا قرر حميد ان يبقى في هذا المكان ويمارس نشاطه انطلاقا منه .
مضى عليه في مقره السري الآمن والنادر اكثر من شهر، كان يتحرك ليلا اما في النهار فهو يقرأ ويستمع للأخبار من خلال جهاز الراديو وفي بعض الاحيان ينعشه ذلك النسيم الطيب الذي يهب عليه من البساتين المحيطة وكذلك عبق نهر دجلة القريب من المكان فتأخذه غفة عميقة تريح اعصابه قليلا .
بقي هناك وكأنه نسر قد اختار عشه في القمم العالية بعيدا عن متناول الوحوش المفترسة ، لكن الضواري قد جاءت ذات يوم تبحث عن فرائس ، ولم ينج منها حتى المسجد ، استدعوا الشيخ جلال وفتشوا المسجد شبرا شبرا ، وبعد ان عجزوا اصر احدهم على الصعود الى المأذنة قائلا انها خير مكان لمراقبة بعض البيوت (المشبوهة) ، لكن الشيخ ابدى اعتراضه بقوله أن المأذنة تعني بيت الله ،ولايجوز استخدامها ضد الاخرين من عباد الله ،الامر الذي اثار غضب ذلك الشرطي المستهتر بكل القيم ، فعربد ووجه كلمات مهينة الى الشيخ ،واسرع متوجها الى بوابة المأذنة قاصدا الصعود اليها ، فتعثر وسقط بسبب التواء قدمه ، فما كان على الذين معه الا ان سحبوه واخرجوه من المسجد لكنه ظل يتوعد بالعودة.
كان حميد خلال تلك الدقائق متحفزا ممسكا بسلاحه الناري لأنه شعر بأمر ما خطير يجري داخل المسجد ،وبعد ان خرجوا صعد الشيخ اليه وطلب منه التحرك السريع لمغادرة المكان ، وهكذا خسر حميد ( عش النسر ) الآمن في اعالي المأذنة الموقرة .
يتبع