علي عرمش شوكت
الخميس 24 / 5 / 2007
الظهيرالحلقة السابعة
علي عرمش شوكت
تذكر حميد ذلك الرجل الذي ضاع بين الحجيج في مكة وهو الذي جاء ليس لاداء فريضة الحج ، انما للبحث عن الشهرة ، بيد انه كان فارغا من اية مؤهلات اوحسنات يمكن ان تساعده من ان يشتهر ، فما كان امامه الا ان يلجأ الى الافعال السيئة لكي ينال مبتغاه ، لم يتوان فتوجه الى مقصده ( بئر زمزم ) المقدسة لدى المسلمين ، اذ تجاسر ورمى في البئر بعض الفضلات !! ، فأثار في ذلك حفيظة وثائرة الحجيج الذين تناقلوا الخبر وصار اسمه على كل لسان وبالتالي اشتهر بفعله السيئ ، وليس بفعله الحسن .
بهذه الصورة يتصرف صدام ويجري الاستعدادت للحرب كما وتتصاعد الحملة الضارية ضد الشيوعيين وكل الرافضين لسياسة نظامه ، ففي كل منعظف تجد مفرزة للتفتيش ، بحجة البحث عن المتخلفين عن الخدمة العسكرية ، مما قلص الى حد كبير من قدرة حميد على التحرك ، كما ان الجرد المتلاحق من قبل منظمات حزب البعث للسكان ومداهمة البيوت هو الاخر جعله كطريد بلا ملاذ .
وفي صدد بحثه عن ملاذ آمن تذكر ان له رفيقة تسكن في مدينة الضباط قد التقته يوما صدفة ، وطلبت منه ربطها بصلة تنظيمية حيث فقدت صلتها برفاقها ، اذ انها كانت ترتبط بالشهيد البطل علي الحاج حسن ( ابو حيدر ) وهي طالبة في كلية العلوم ، كما انها ابنة لاحد الضباط الذي استشهد في احدى الجبهات العربية من اجل القضية الفلسطينية ، ولهذا كانت الى حد ما بعيدة عن الرقابة البعثية .
وصل بيت الرفيقة ( ت ) في الساعة السادسة عصرا وقد استقبلته وقدمته الى والدتها التي هي الاخرى رحبت به بحرارة ، تناولوا الشاي وتخلل ذلك حديث عن الاوضاع وغدر البعثيين العفالقة ،كما تطرق وبألم حول مصير الشهيد علي الحاج حسن ( ابو حيدر ) الذي اختطف وزوجته وابنه الصغير ( حيدر ) الذي لم يتجاوز عمره السنة الواحدة ، وبعد عدة ايام جيئ بالطفل من دون والديه بزعم انهم قد وجدوه في الشارع !! ، وهكذه كان مصيرهذا الرفيق الهمام وزوجته الشهيدة الرفيقة الباسلة ( زهوراللامي ) تقدم الوقت حتى
العاشرة ليلا ، حاول حميد الخروج الا ان ( الام ) اعترضت وطلبت منه البقاء في البيت هذه الليلة ، او حتى بصورة دائمة لان الدار ليست مرصودة ، فراقت له هذا الدعوة الكريمة ، وهوالذي يبحث عن ملاذ آمن فلا احسن من هذا البيت .
كان عليه ان يبعث بخبر الى اهله يطمئنهم على سلامته فقرر ان يكلف شقيق الرفيقة ( ت) الصبي ( م ) الذي يبلغ من العمر ثلاثة عشر ربيعا بالذهاب الى بيت اهله ، فابدى الصبي استعداده ، اعطاه حميد التوصيفات للاستدلال على البيت واوصاه بالحذر التام وكذلك كلمة السر التي بينه وبين اهله .
تحرك ( م) الشجاع بكل بسالة معتبرا تلك مهمة كبرى ، اذ انه كان يرغب دائما ان يكون مثل خاله الشيوعي الذي استشهد في قصر النهاية عا م 1963 ، كانت غدت الساعة العاشرة والنصف ليلا ، وكان عليه ان يتحرك ويعود خلال اربعين دقيقة حسب تخطيط حميد ، حيث ان المسافة غير بعيدة ، ويستغرق الذهاب الى البيت المقصود بواسطة التاكسي عشر دقائق ، والاياب عشر دقائق ايضا ، والبقاء عند الاهل ليس اكثر من خمس دقائق ، وخمسة عشر دقيقة لاحتمال تأخر الحصول على تاكسي للعودة، هكذا كانت حسابات حميد وتحوطاته من الاحتمالات السيئة .
كان حميد يحاول جهد امكانه مدارات قلقه الذي بدأ يتصاعد طرديا مع مضي الدقائق المحددة سلفا ، ولكن حينما ازفت الدقيقة الاربعون من الوقت قرر حميد الخروج من البيت ، فأعتذر من الاسرة الكريمة شديد الاعتذار ، اذ ان البقاء بات يشكل خطورة عليه ، قدرت الاسرة ذلك وودعته تجنبا للاحتمالات السلبية ،غادر
وقلبه يعتصر على مصيرالبطل الصغير ، وصل الشارع الرئيسي في الساعة الحادية عشر والربع ، اخذ اول تاكسي تصادفه الى كراج النهضة ، وهناك قرر ان يقضي ليلته مسافرا نحو الجنوب ، وعند وصوله الى باحة الكراج جذبته رائحة السمك المقلي الذي ينبعث من عربة خشبية تحتضن (المقلاة ) تنيرها المصابيح الكهربائية الملونة ، وتديرها امرأة كادحة من سكان مدينة الثورة ، حينها سال لعابه واعتصرت معدته الخالية من الطعام منذ الصباح ، حيث ادعى انه قد تناول غذاءا للتو عندما كان في بيت العائلة الكريمة و دعي الى تناول العشاء .
رمى بجسده المتعب على كرسي حديدي من مجموعة كراسي تحيط بطاولة حديدية ايضا تحول لونها الابيض الى رمادي بسبب تراكم فضلات الطعام و لم تنظف كما يجب ، لايهم ذلك المهم ان يملئ معدته الخاوية ، استقبلته تلك المرأة بلطافة وحنان الأم الكريمة ، وهذه طبيعة النساء الكادحات ، وسألته عن طلباته هل يرغب بأكل سمك( الزوري) صغير الحجم ام سمك ( الزبيدي) المتوسط الحجم ، ام سمك ( الجري ).. ؟ .
حينها كان جل تفكيره مع ذلك الصبي الشجاع وماذا حصل له وما تداعيات الامور لو وقع بايدي جلاوزة الامن ، كان يلوم نفسه فليس لديه القدرة على الاختيار ، فقال لها اي نوع لافرق في ذلك ، فقدمت له صاحبة مطعم العربة الخشبية صحنا تتوسطه سمكتان من سمك (الزبيدي) وكاسة صغيرة فيها شيئ من الطرشي المخلل ورأسين من البصل الاخضر ورغيف من الخبز، لم يستطع مواصلة تناول طعامه بسهولة لانه فقد الشهية رغم جوعه وحاجته للطعام ،فضلا عن كونه في مكان عام لايتوفر فيه شيئ من الصيانة بالرغم من انه قد موه شخصيته بشكل كبير حتى بطاقته الشخصية وهوية عمله ، الا ان ذلك لم يخفيه عن رفاقه واصدقائه المقربين منه ، فعندما اراد ان يدفع ثمن العشاء ، قالت له صاحبة مطعم العربة ان حسابك قد دفع ! ، فاستغرب واستفسر منها عن الجهة التي دفعت الحساب ،فاشارت الى شخص كان يرتكن على طاولة اخرى ، وكان يتناول طعامه بشهية ، فتردد حميد بحذر وجالت في ذهنه افكار عدة ، الا ان مناداته باسمه من قبل ذلك الشخص الذي توقف عن تناول طعامه و نهض مقتربا منه مع ابتسامة عريضة جعلته يستقر الذهن ويتنفس الصعداء ، لقد تعرف عليه انه ابن خالته ( زكي ) صاحب شاحنة للنقل ، اللقاء كان حارا حيث لم يتم لقاء بينهما منذ اكثر من خمس سنوات ، عادا الى الجلوس وتناولا اقداح الشاي في ذات المكان الا ان الوقت قد تقدم وتجاوز منتصف الليل .
كان زكي يعرف ظروف ابن خالته حميد جيدا فعرض عليه ان يصاحبه الى محافظة واسط ، حيث انه ينقل بشاحنته حمولة من الحصى الى احد المطارات التي كانت تشيد حديثا في تلك المحافظة ، واكد له بان شاحنته لاتتعرض للتفتيش لكونها مرخصة بالتحرك السريع نظرا لاهمية ذلك المطار، وبمجرد ان يعرض ورقة الترخيص على نقاط التفتيش التي تصادفه في الطريق يسمح له بالمرور دون تفتيش ، والشاحنة تنقل الحصى من مدينة سامراء الى محافظة واسط لحساب مقاول كبير من اصحاب الجاه لدي سلطات البعث اي من المحسوبين على حزب البعث .
رافق حميد ابن خالته في تلك الرحلة التي قضاها نوما فوق الشاحنة حيث كان الجو منعشا في الليل وخصوصا في شهر آب ، ولم يفق حتى توقفت الشاحنة في حاجز تفتيش عند مفرق مدينة الكوت - البصرة ، كان هذا المكان يعني له شيئا مؤلما حيث تم اعتقال رفيقه وصديقه الشهيد الشجاع ( جواد عطية ) ابو حازم ، في بداية السبعينيات واختفى اثره عقب ذلك ، فهل تتكرر معه الحكاية ذاتها ؟! .
ظل متمددا فوق حمولة الشاحنة في منخفض بين الحصى ولايظهر منه شيئا للناظر حتى تحركت نحو الجنوب الغربي من مدينة الكوت حيث يقع المطار على بعد بضع كيلومترات هناك .
عاد في اليوم التالي الى بغداد وذهب فور وصوله الى كلية العلوم ليلتقي بالرفيقة ( ت ) التي استقبلته مبتسمة وكانت تلك الابتسامة مبعثا لارتياحه وازاحت هما كبيرا عن صدره ، حيث انها تعبر عن عدم حصول مكروه فضلا عن كونها تنبعث عن وجه صبوح جميل لتلك الرفيقة .
كان سؤاله الاول عن مصير البطل الصغير ، قالت له هو بخير لكن قد تم اعتقاله عندما طرق باب بيتكم ، الا انه استطاع الافلات بحكم ذكائه البارع ، حيث ادعى انه يبحث عن بيت صديقه الذي استعار منه دراجته الهوائية ولم يعدها اليه ، وانه لايستطيع العودة الى البيت دون الدراجة ،لان ذلك سيثير غضب والدته ، وعندما عرضوه على عائلتك انكرت معرفتها به ، ارادوا ان يصطحبهم الى بيتنا فتلكأ في ذلك بغية كسب الوقت حسب توصياتك ، وبحجة ان والدته سوف تقسي عليه اذا لم يعد والدراجة معه ، الا انهم ضغطوا عليه واستعملوا الضرب المبرح ، فجاء بهم الى البيت بعد خروجك بعشرين دقيقة ، وبعد ان تبين لهم انه ابن الضابط ( فلان ) قد حصلت لديهم قناعة بانه ليس له علاقة بالحزب الشيوعي لكون العائلة محسوبة لديهم على التيار القومي العربي ، فأخلوا سبيله مع تحذير من التردد على تلك المنطقة .
وهكذا نجا حميد مرة اخرى ، فودع الرفيقة ( ت) بعد ان اعطاها اشارة اتصال وموعد ترحيل الى رفيقة اخرى في المجال الطلابي ذلك المجال الذي ظل( ظهيرا) نشطا للحزب .يتبع